صوّت مجلس الدوما (النواب) الروسي، الثلاثاء 15 فبراير/ شباط 2022، للاعتراف بمنطقتَي دونيتسك ولوهانسك، الواقعتَين بإقليم دونباس شرق أوكرانيا، والمعلنتَين من جانب واحد، كـ”جمهوريتَين مستقلتَين”، ما يمكن قراءته على أنه تمهيد لضمّهما على غرار القرم عام 2014.
وفي اليوم نفسه أعلنت موسكو أن جزءًا من قواتها المنتشرة قرب الحدود مع أوكرانيا باشرت العودة إلى ثكناتها، فيما يبدو على أنه تخفيف لحدّة التوتر وتفادي صدام عسكري مع الغرب، كما تزامنَ ذلك مع تعزيز الروس لقواتهم العسكرية في سوريا (قاعدة حميميم) للمشاركة في مناورات واسعة في منطقة شرقي البحر المتوسط.
الرسائل الروسية المتلاحقة خلال الساعات الماضية، اعتبرتها رئيسة مفوضية الاتحاد الأوروبي، أورسولا فون دير لاين، “متناقضة”، إذ إن “حلف شمال الأطلسي لم يرَ ما يدل على سحب القوات الروسية”، فيما أشار الأمين العام للناتو، ينس ستولتنبرغ، أنه لم يرَ أي مؤشرات حول خفض التصعيد الروسي حتى الآن.
الربط الزمني والحدثي بين التصويت على الاعتراف بجمهوريتَي دونيتسك ولوهانسك والتلميح بسحب القوات الروسية من أوكرانيا، أثار التساؤل حول صفقة محتملة تقضي بوقف التصعيد الأوكراني نظير التغول الروسي في دونباس، في مقابل من يرى في هذه الخطوة ورقة ضغط تمارسها موسكو ضد الغرب، لردعه عن التفكير في فرض عقوبات والرضوخ للضمانات الأمنية التي يطلبها الروس في شرق أوروبا.
إقليم دونباس والروس.. ما القصة؟
يتاخم هذا الإقليم، الذي تبلغ مساحته 52.3 ألف كيلومتر مربع، الحدود الروسية، ويعدّ منطقة نزاع ملتهبة بين الروس والأوكرانيين، إذ إنه المنصة التي يستهدف منها الانفصاليون المدعومون من موسكو حكومة كييف، وعليه يطالب حزب “روسيا الموحد” الحاكم بمزيد من الدعم للقوى الانفصالية، من باب الحفاظ على الأمن القومي للبلاد.
ديموغرافيًّا، يضمّ الإقليم 4 ملايين نسمة، منهم 56.8% أوكرانيين و38.2% روس، لكن اللغة الأكثر انتشارًا هي الروسية، كما أن الحزب الحاكم بين عامَي 2010 و2013، وهو حزب الأقاليم، موالٍ بشكل كبير لموسكو، وعليه كان معظم حكّامه يتمّ اختيارهم داخل المطبخ الروسي.
يتميز الإقليم بثرواته الطبيعية الهائلة، فحتى عام 2014 كان يعدّ سلّة الغذاء لأوكرانيا، هذا بجانب ما يتمتّع به من مساحات زراعية كبيرة، ومناجم فحم وحديد ومحطات توليد الطاقة، وغيرها من المؤهّلات التي أسالت لعاب الروس بجانب مسألة الأمن القومي.
الذرائع التي استندت إليها موسكو لضمِّ القرم قبل 7 سنوات، هي ذاتها التي تتشدق بها في التعامل مع ملف دونيتسك ولوهانسك، حيث شعارات حماية الأقليات من التهديدات الأوكرانية.
بدأ دونباس في حراكه الانفصالي عن أوكرانيا في أبريل/ نيسان 2014، بعد سقوط القرم في أيدي الروس وهروب الرئيس الأوكراني السابق، فيكتور يانوكوفيتش، إلى روسيا في فبراير/ شباط من العام نفسه، وسرعان ما تحول الحراك من السلمي إلى المسلح.
ساعدت تلك الفوضى، التي كشفت بعض التقارير حينها دعمها من قبل موسكو، في هيمنة الانفصاليين الموالين لروسيا على المصالح والمؤسسات والكيانات الحكومية، وفي 7 أبريل/ نيسان 2014 أعلن الانفصاليون عن تدشين جمهوريتَي دونيتسك ولوهانسك الشعبيتَين من جانب واحد.
ورغم اعتبار روسيا أن ما يحدث مع الإقليم حرب أهلية لا قِبَلَ لها بها، إلا أن الأيام التالية كشفت عن تغلغل كامل داخل مفاصل المنطقة، حيث تحوّل نمط الحياة إلى الشكل الروسي في كل مجالات الحياة، الاقتصاد والتعاملات الاجتماعية والثقافية، حتى العملة المتداولة كانت الروسية وكان أبناء الإقليم يتقاضون رواتبهم بها، لتتحول دونباس إلى إقليم روسي وإن لم يتمَّ الإعلان عن ذلك رسميًّا.
قبل الأزمة الأوكرانية الراهنة التي اندلعت نهاية العام الماضي، طفت على السطح بعض التقارير التي تذهب إلى ميل روسي نحو إعادة الإقليم إداريًّا إلى أوكرانيا، شرط الاحتفاظ بحقّ الفيتو على القرارات المصيرية مثل الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي أو الناتو، لكن التصويت الأخير للدوما بشأن ضرورة الاعتراف الرسمي باستقلال جمهوريتَي دونيتسك ولوهانسك قلب الطاولة مرة أخرى، ليثير التساؤل حول الدوافع الروسية من وراء هذا التصعيد.
تكرار سيناريو القرم
لم يَغِب سيناريو ضمّ شبه جزيرة القرم عام 2014 عن بال الروس خلال تعاطيهم مع الحراك الانفصالي في إقليم دونباس بالمجمل، إذ إن استمرار التوتر في تلك المنطقة يحمل تهديدًا لاستقرار الشريط الحدودي الروسي، ومن ثم تتصاعد دعوات الحزب الحاكم هناك للإسراع بتكرار تجربة القرم مرة أخرى.
الذرائع التي استندت إليها موسكو لضمّ القرم قبل 7 سنوات، هي ذاتها التي تتشدّق بها في التعامل مع ملف دونيتسك ولوهانسك، حيث شعارات حماية الأقليات من التهديدات الأوكرانية والدفاع عن أمنها القومي في مواجهة تغول الغرب عسكريًّا، وعلى رأسه الناتو، في مناطق أوروبا الشرقية.
نجح الروس خلال السنوات الماضية، تحديدًا منذ عام 2014، في تحويل منطقتَي دونيتسك ولوهانسك إلى مناطق روسية من الطراز الأول، كما ذُكر سابقًا، وعليه إن الخارطة الديموغرافية للإقليم برمّته تمّت تهيئتها خصيصًا لهذا اليوم الذي تعلن فيه موسكو ضمّها للجمهوريتَين الشعبيتَين الانفصاليتَين.
لا يأمن الروس مكر الأوروبيين في التوسُّع شرقًا، كنوع من الضغط على موسكو وابتزازها قدر الإمكان بين الحين والآخر في ظلّ صراع النفوذ بينهما، كما أن السلطات الروسية لا تثق في الحكومات المتعاقبة في كييف، والتي تراها على طول الخط ملقاة في أحضان أوروبا والولايات المتحدة، ومن ثم تسعى لتأمين نفسها قدر الإمكان عبر السيطرة على المناطق الأوكرانية المتاخمة لها حدوديًّا.
ضغط أم صفقة مع الغرب؟
لا شكّ أن كل من موسكو والغرب يسعيان للخروج من الأزمة الأوكرانية بانتصار يحفظ لكليهما ماء الوجه وسمعته الدولية، وفي حال نشوب مواجهة عسكرية فإن الجميع سيكون خاسرًا، في ضوء ما سيترتّب عن ذلك من تداعيات ستؤثر على مصالح طرفَي الصراع في المنطقة.
وعليه قد يكون الخروج الآمن من المستنقع الأوكراني هو الحل، وذلك عبر تخفيف حدة التوتر من خلال الانسحاب الروسي والتهدئة الغربية، لكن ذلك نظير أن تفتح موسكو جبهة جديدة لنفوذها في دونيتسك ولوهانسك، وحتى إن لم يقبل الغرب ذلك لكنه قد يكون مضطرًا لغضّ الطرف مؤقتًا، إلى حين تبريد الأجواء الأوكرانية الحالية، وتوظيفه لتحسين صورته أمام أعضاء الناتو وسمعته الخارجية.
عدم اتخاذ روسيا -حتى كتابة هذه السطور- لأي تحرك عملي باتجاه سحب قواتها من الحدود الأوكرانية، كما تمَّ الإعلان عنه قبل يومين، يضفي الكثير من الشكوك حول نواياها الحقيقية.
الميل بالكلية إلى هذا السيناريو ربما يكون فيه مغامرة تحليلية لواقع متغيِّر ومعقَّد، ومن ثم ربما تمارس موسكو بهذا التصعيد ضغوطًا إضافية على الغرب، تدفعه للتفكير مليًّا قبل تنفيذ وعوده بشأن فرض عقوبات على روسيا على خلفية التصعيد العسكري في أوكرانيا، لا سيما أن الناتو وأمريكا ليسا في حاجة لفتح جبهة قتال ونزاع جديدة في أقصى شرق أوروبا، ربما يكون لها تداعياتها على تهديد الاحتياجات الأوروبية من الطاقة التي تتحكم في نسبة كبيرة من إمداداتها روسيا كبلد منتج، وأوكرانيا كشبكة نقل رئيسية لأسواق أوروبا.
وفي الأخير، إن عدم اتخاذ روسيا لأي تحرك عملي باتجاه سحب قواتها من الحدود الأوكرانية، كما تمَّ الإعلان عنه قبل يومَين، يضفي الكثير من الشكوك حول نواياها الحقيقية، ويجعل من التلويح بالاعتراف بمنطقتَي دونيتسك ولوهانسك كـ”جمهوريتَين مستقلتَين” ورقة ضغط جديدة يمارسها الروس لتحقيق أكبر قدر من المكاسب، تعزز موقفهم التفاوضي مع الغرب مستقبلًا في مناقشة سيناريوهات الوضع في أوكرانيا.