تعيد الأزمة الأوكرانية الروسية الحاليّة حلف الناتو إلى الواجهة، إذ ستكون المواجهة العسكرية المحتملة هذه المرة على حدود دول التحالف مع أحد الأعداء التقليديين وهي روسيا، خاصة أن كييف طلبت سابقًا الانضمام لهذا الحلف، والأخير وعدها بهذا، لكن الجغرافيا التي تقع فيها هذه الدولة حتمت عليها أن تكون محور صراع يمكن أن يشعل حربًا كبيرةً.
لكن بالنظر إلى أداء الناتو في السنوات السابقة، وعلاقات الأعضاء ببعضهم البعض، نرى أن روح التعاون شبه غائبة، وعلى النقيض، فإن الشعور بالخذلان هو الذي يسيطر بصورة عامة. ويأتي ذلك في ظل صعود عالمي للنفوذ الروسي والصيني، وهو أمر يبعث قلق الناتو وأعضائه، فهل أصبح الناتو بلا جدوى حقيقية أم هي الرواية التي يروج لها أعداؤه وما زال قوةً كبيرةً يستطيع الوقوف في وجه التهديدات التي يمكن أن تعترضه؟
موت سريري أم قوة صاعدة؟
في هذا السياق نسترجع ما قاله الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في 2019 عندما وصف وضع حلف شمال الأطلسي بـ “الموت السريري”، وانتقد حينها قلّة التنسيق بين الولايات المتحدة وأوروبا والسلوك الأحادي لتركيا، عضو الحلف، في سوريا، مضيفًا “ما يحدث يطرح مشكلةً كبيرةً للحلف الأطلسي ويجب أن نوضح الآن ما الغايات الإستراتيجية له”.
الباحث والصحفي المختص بالشؤون الدولية حاتم شما يقول في هذا الإطار: “سيبقى حلف الناتو كيانًا عسكريًا كقوة ردع للدول الأعضاء وأيضًا كقوة ترهيب، إلى جانب دوره في تشجيع صناعة السلاح في الدول الأعضاء وإبرام الاتفاقيات الإستراتيجية مع مختلف مناطق العالم ذات الأهمية الجيوسياسية” ويضيف شما في حديثه لـ”نون بوست”: “فضلًا عن قناعة أعضاء الحلف بأنهم يواجهون تهديدات مختلفة سواءً من الجماعات التي توصف بالإرهابية أم الجماعات المقاتلة غير الرسمية وغيرها، ومن ثم فإن الحلف سوف يتواصل بل قد يتوسع أيضًا”.
تأسس حلف شمال الأطلسي “الناتو” في 1949 وكان من أهدافه مواجهة نفوذ وتمدد الاتحاد السوفيتي والقضاء على العداوة العسكرية التي كانت بين الأوروبيين بسبب الحروب العالمية من خلال حضور أكبر للولايات المتحدة في القارة، وأخيرًا تشجيع الأوروبيين على اندماج سياسي أكبر، ويستند الناتو على مبدأ الدفاع المشترك، فتنص المادة الخامسة من ميثاقه على أن “أي اعتداء مسلح أو عسكري على أي دولة عضو في الحلف هو بمثابة اعتداء على كل الدول الأعضاء فيه”.
ويبلغ مجموع النفقات العسكرية لدول حلف الناتو أكثر من 1.2 تريليون دولار، كما يبلغ عدد الجنود في كل دول حلف الناتو 3.5 مليون جندي، ما يجعله أكبر جيش في العالم، وتنتشر قوات الناتو في الغالب قريبًا من الحدود الروسية، ويتوزع 7 آلاف جندي من قوات الناتو في كل من إستونيا ولاتفيا وليتوانيا وبولندا.
خلاف في أوكرانيا
كان الإعلان الأهم بخصوص انضمام أوكرانيا إلى الناتو عام 2008 حين رحب رؤساء دول وحكومات الناتو بتطلعات أوكرانيا الأوروبية الأطلسية في أن تصبح عضوًا في الحلف، لكن ذهبت تلك الأمنيات أدراج الرياح إثر فوز المرشح فيكتور يانوكوفيتش المقرب من روسيا بالانتخابات الرئاسية، ففي عهده أبرمت روسيا وأوكرانيا صفقة تسعير الغاز مقابل تمديد عقد إيجار البحرية الروسية في ميناء أوكراني على البحر الأسود، كما أوقفت حكومة الرئيس يانوكوفيتش محادثات التجارة والتعاون مع الاتحاد الأوروبي، واختارت إحياء العلاقات الاقتصادية مع موسكو.
عادت طلبات أوكرانيا للانضمام مع نجاح الثورة التي أطاحت بالرئيس يانوكوفيتش حليف روسيا وصعود النظام الموالي للغرب، لكن هذه المرة وقفت روسيا أمام مساعي أوكرانيا وبدأت تهديداتها بالاجتياح، فمنذ 2014 حتى اليوم لم تعش كييف فترة استقرار، خاصة أن روسيا فعليًا قضمت بعض الأراضي الأوكرانية كما دعمت ميلشيات انفصالية في عدة مناطق كإقليم الدونباس.
اليوم، ومع احتمالية غزو روسيا لأوكرانيا فإن الناتو بات في وضعية التأهب، لكنه لم يتخذ إجراءات توحي بنيته في دعم أوكرانيا عسكريًا خاصة أنها ليست عضوًا فيه، وهو ما أشار إليه أمين عام حلف شمال الأطلسي ينس ستولتنبرغ، بقوله إن كييف شريك يحظى بتقدير كبير لدى الناتو، لكن الحلف لا يخطط لنشر قوات قتالية تابعة له في أوكرانيا، وأوضح أن دول الناتو لديها بعض الاختلافات بشأن نوع الدعم الذي يجب أن تقدمه لأوكرانيا.
في هذا الجانب، يقول الباحث شما في حديثه لـ”نون بوست”: “في حال غزو أوكرانيا، قد يتدخل الناتو بشكل غير مباشر عن طريق تفاهمات ثنائية بين أوكرانيا وأحد أو بعض أعضاء دول الحلف باستخدام إمكانات الحلف اللوجيستية، لا سيما أن بعض دول الحلف مثل ألمانيا وفرنسا لها اهتمامات اقتصادية مع روسيا وليس من السهل عليها أن تدخل معها في حرب حتى إن كان تحت غطاء الناتو”.
مشيرًا إلى أنه “إذا تعرضت أي دولة عضو في الناتو لغزو أو اعتداء روسي على قواتها فهذا سيكون مشكلة حقيقية، إذ يجب على الحلف أن يرد”، ولا يعتقد شما أن أحدًا يريد التصعيد إلى هذا الحد، فما يحدث هو استعراض عضلات بشكل خطير أشبه بلعبة “الروليت الروسية”.
الناتو يخذل أعضائه
على الرغم من خطورة الأزمة الأوكرانية الروسية، فإن أعضاء الناتو إلى الآن لم يعطوا موقفًا متحدًا أو حازمًا تجاه أوكرانيا، وهو نفس الموقف الذي واجهته إحدى دوله الأعضاء فكيف سيكون الأمر تجاه دولة ليست عضوًا فيه؟، فحين أرادت تركيا الدخول عسكريًا إلى سوريا لمواجهة قوات نظام بشار الأسد وروسيا في عام 2020، حينها قال الرئيس الفرنسي ماكرون: “ليس هناك أي تنسيق لقرار الولايات المتحدة الإستراتيجي مع شركائها في الحلف الأطلسي، ونشهد عدوانًا من شريك آخر في الحلف (تركيا) في منطقةٍ مصالحنا فيها على المحك، من دون تنسيق”، كما تساءل ماذا سيحلّ بالمادة 5 إذا قرر نظام بشار الأسد الرد على تركيا، هل سنتدخل؟ هذا سؤال حقيقي”؟.
بعد ذلك تعرضت القوات التركية لهجوم عنيف أدى لمقتل أكثر من 30 عنصرًا من قواتها المتمركزة في مدينة إدلب شمالي سوريا، لكن الناتو لم يفعل شيئًا إلا التضامن معها، مع أن هذا الهجوم يستدعي تفعيل المادة الخامسة في ميثاق الناتو، التي تنص على أن الاعتداء على أي عضو يعتبر اعتداءً على الأعضاء الآخرين ويستدعي الرد الجماعي.
كانت مواقف الناتو خلال معركة تركيا في إدلب دافعًا لزعزعة الثقة بين الطرفين، فقد دفعت هذه المجريات تركيا للاندفاع نحو روسيا أكثر فأكثر والتفاوض معها بشأن الصواريخ الدفاعية وغير ذلك من الاتفاقيات والمعاهدات الإستراتيجية التي يعترض عليها الكثير من أعضاء الناتو، إلى ذلك عزا وزير الدفاع التركي خلوصي أكار نشر منظومة صواريخ إس 400 الروسية في بلاده إلى أنهم كانوا مضطرين لذلك بسبب “إحجام الحلفاء عن تزويد تركيا بالمنظومات الجوية لحماية نفسها من التهديدات”.
في هذا الخصوص، يقول الباحث شما: إن “العلاقة بين الناتو وتركيا لها خصوصية شديدة وحالة فريدة تمامًا، فتركيا الآن ليست تركيا التي انضمت إلى الناتو عام 1952، ورغم ذلك فإن الحلف يدرك أهمية تركيا الإستراتيجية وكيف ساعد هذا الموقع الإستراتيجي الحلف في عملياته بأفغانستان وكوسوفو والعراق”، ويشير شما إلى أنه فيما يتعلق بالشأن السوري فالحلف “اكتفى بزيادة الدعم العسكري الجوي لتركيا، حتى تتمكن من حماية أراضيها، ووفقًا لعدد من التقارير تلقت أنقرة ما يقارب 5 مليارات دولار لأجل تعزيز منشآتها العسكرية، إلى جانب هذا، هناك من رأى من داخل الحلف أن العلاقات التركية الروسية كفيلة بحل المشكلات الثنائية بينهما بشكل خاص بعيدًا عن تدخل الناتو عسكريًا”. بمعنى آخر، قد يتكرر سيناريو تركيا مع الأزمة الأوكرانية في حال غزت روسيا أراضيها، إذ لا يبدو أن الناتو مستعد للمخاطرة بكامل إمكانياته لمواجهة روسيا عسكريًا وأخذ الخلافات السياسية بينهما إلى منحى أكثر خطورة وشراسةً، وفي الأغلب، سيكتفي الغرب في فرض عقوبات اقتصادية على أركان الحكومة ورجالها.