حرب في أوكرانيا (أو حرب القرم الثانية)، حرب سيكون لها على تونس أثر الفراشة، لكنها فراشة من حديد ولها صفعات، حيث أسعار النفط في السوق العالمية تقتربُ من حاجز الـ 100 دولار، ولم تُطلق رصاصة واحدة بعد، فإذا انطلق الرصاص هناك تنهار ميزانية تونس هنا.
غير مجدٍ حساب المسافة الجغرافية الفاصلة بالكيلومتر، فبورصة النفط العالمية تؤثر مباشرة على الاقتصاد التونسي، وقد أدّت حروب سابقة في أماكن بعيدة إلى أزمات فعلية، ولم تكن هذه الحرب الوشيكة على جدول الانقلاب يوم 25 يوليو/ تموز.
فهل يستطيع الانقلاب أن يبتكر حلولًا تجنّبه الانهيار؟ وهل يملك معارضوه حلولًا بعده؟ فالأزمة التي سيطول أثرها على الوضع الاقتصادي المحلي، لن تكون موجَّهة للانقلاب حصرًا.
الرئيس في بلجيكا يستجدي مستقبله
سفرة استثنائية في حركة الرئيس الذي يتحدى مؤسسات الإقراض الدولية ويستهين بسلطتها، ليس للزيارة جدول معلن يمكن قراءته، لكننا نرجِّح أنه يسعى لفكّ عزلته الدولية.
فالرسائل التي تصله منذ انقلابه من الجهات الدولية المؤثرة لا تشعره بالأمان، وخطاب التحدي الموجّه للداخل يكشفُ خوفًا أكثر ممّا يكشفُ ثقةً بالنفس، وقد زاد في تعقيد وضعه بالمعركة التي فتحها على الجهاز القضائي.
يمكنه أن يواصل خطاب التحدي في بروكسل على طريقة القذافي دون خيمته، لكن أيضًا دون نفطه، فكيف سيردّ على من يشترط عليه العودة إلى المسار الديمقراطي تحت سقف الدستور مقابل المساعدة الاقتصادية؟ لم نعرف عنه قدرة على التفاوض والمناورة، لذلك نراه يواجه أثر أوكرانيا وحده.
أثر أوكرانيا يخيف أوروبا القوية نفسها، فإذا أضفنا أثرها على تونس فإن خوف أوروبا يزداد، فالرعب الذي يسكنها من مواجهة موجات الهجرة غير النظامية، يجعل الدول الأوروبية تضاعف الضغوط عليه، خاصة الجار الإيطالي القريب، الذي كان دومًا محطة أولى لهذه الهجرة.
وعندما تضع هذه الدول على طاولاتها أثر كوفيد الباقي بعد على اقتصاداتها، وتضيف إليه أثر أوكرانيا، فإن تونس تصبح عنصر إزعاج إضافيًّا، ولن ترحّب بمن يضاعفه كل يوم ولا يزال يأزِّم وضع بلده دون وعي بأنه جزء من عالم متفاعل، حيث سيقول خبراؤها: “هذا باب تأتي منه ريح ويجب سدّه”.
الأزمات تواجَه بقوة داخلية
الخيبة المتوقعة من الزيارة الرئاسية لا تسبِّب لي أية شعور بالسعادة، فهي علامة على صحة تحليل طالما كررته، مفاده أن البلد يُقاد من خارجه وليس لنخبه إرادة وطنية تحميه، وهذا مهين لبقية شعور بالمواطنة أحاول صيانته.
هذا خصوصًا أن من يعلمنا دروس الديمقراطية ليسوا ملائكة، فجرائمهم في بلادنا (لا داعي للنظر في حالة أفريقيا) أكثر من أن تحصى، لكن وجب الإصداح بحقيقة بسيطة، حيث إن مقدِّمي الدروس هؤلاء لم يتجرّؤوا على تونس وهي تبني ديمقراطيتها، وقد عادوا من بوابة الانقلاب ووجدوا فرصة للضغط باسم الديمقراطية.
هذا الأمر يعيدنا إلى نقطة بداية تؤكّد صحتها الوقائع، حيث الأزمات تواجَه بقوة داخلية، وهذه القوة مشروطة بالديمقراطية، فهي قاعدة وشرط لبناء جبهة وطنية سيادية تفاوض بحرية ولو وصلَنا أثر أوكرانيا.
لقد عايشنا الضغوط الدولية على نظام ابن علي، عندما كانت أزمات الطاقة تظهر مع كل حرب في الشرق الأوسط (الخليج، أفغانستان.. إلخ)، وكان يجد نفسه بلا حماية داخلية فيرضخ، لكنه كان حتى آخر أيامه يملك أن يحلَّ أزماته بالتفويت في مؤسسات عمومية ليسدَّ فراغات الموازنة، أما اليوم فالمؤسسات الباقية تعاني أزماتها الخاصة، وسعرها في سوق الخوصصة لا يغطي ثمن كراسي الموظفين فيها.
هل يمكن بناء جبهة مع الانقلاب باسم الحفاظ على السيادة؟ الإجابة بنعم هي شعبوية أخرى، يُراد منها تكملة شعبوية الرئيس وحزامه المتبقي معه من الشبيحة واليسار الاستئصالي.
هذا فضلًا عن أنها ستكون جبهة خَرِبة من الداخل، فأحد طرفَيها لا يسمع الآخرين ولا يقدِّر آراءهم، بل يريد أتباعًا صامتين. الغيرة على سمعة البلد إذا لم تعدنا إلى وجوب الديمقراطية في الداخل كشرط حكم سيادي، فلا نرى لها محلًا في إسناد انقلاب أودى بنفسه إلى التهكلة.
أثر أوكرانيا بوابة تفكير
قال لنا الفلاسفة أن الحروب طوّرت العالم، وقدّموا على ذلك أدلة كثيرة. قد يكون لحرب في أوكرانيا أثر إيجابي، لكن على مدى بعيد. لقد عشنا تأثيرات حروب سابقة رفعت سعر النفط فخربت الموازنات، ويمكن القول إننا نعاني بعد آثار حروب الخليج على الاقتصاد التونسي، لكن الدرس لم يجنَ من تلك الأزمات.
ما هو الدرس المطلوب تعلُّمه؟ إنه درس الطاقات البديلة، الشمس والريح تنجيان من أثر حروب الطاقة سواء نشبت أم تأجّلت، لكن هل نحن بصدد إسقاط انقلاب في مستقبل قريب أم بصدد التفكير في المستقبل البعيد؟
لا أرى الأمرَين منفصلَين، فمهما كانت المكاسب الاقتصادية التي سيعود بها الرئيس من بروكسل، فإنها لن تتجاوز حلّ معضلة الرواتب القريبة، وكل عناده في رفض العودة إلى المؤسسات سيجعله تحت ضغوط إضافية من مقدِّمي الدروس والقروض، أي المزيد من الهشاشة الاقتصادية والسياسية، وأعتقد أنه يخسر وقتًا ثمينًا جدًّا لن يكون بعده عود إلى المؤسسات، وسيكون خصومه أقوى بخطابهم الديمقراطي.
وبرسم أصحاب الخطاب الديمقراطي كشرط لبناء السيادة ألّا يتوقفوا عند مشغلة إسقاط الانقلاب الآنية، مثلما هو ملاحَظ في خرجاتهم النضالية، حيث يسود خطاب سياسي تبشيري دون مضامين لما بعد الانقلاب.
لقد ثبت أن الديمقراطيين الذين سمحت لهم الثورة بالخروج من تحت ركام دكتاتورية ابن علي ومن سبقه، لم يفكّروا أبعد من المشاغل السياسية لتدبير اليومي دون وضع خطط بعيدة المدى للمستقبل، لذلك أعادوا إنتاج الأزمات التي عاشها ابن علي كأن لم تحدث ثورة في البلد، ومنها البقاء تحت أثر أوكرانيا وكل حرب ستنشب فتهدِّد سوق الطاقة.
إذا كان للانقلاب من فضل على أحد، فهو الكشف أن من كان قبله لم يكن مستشرفًا ولم يبتكر خطة لدولة جديدة على قاعدة ثورة شعبية، وحتى وهو يعارض الانقلاب لا يزال يدور في فلك فشله السابق، ما يحرمه ثقة الجمهور العريض الذي أمل خيرًا من الانقلاب وعاد إلى الأرض خائبًا وخائفًا من المستقبل.
أثر أوكرانيا هو التفكير في بناء اقتصاد لا تخرّبه حرب تقع في آخر الأرض، أما البقاء في وضع التشفّي من خيبة الرئيس فهو كيد ضرائر سياسية لا تفكر بل تقودها غرائز حب الحكم، وإن موّهتها بخطاب ديمقراطي.
في زمن سابق شاركت تونس (الولاية العثمانية) في حرب القرم، وخسرت جنودًا على الميدان. هذه الأيام حرب القرم تحلُّ بيننا وسنخسر أرواحًا في ساحات المَسغَبَة، سنظل نخسر حتى تتيقّن النخب أن حكم تونس لا يقرَّر في بروكسل.