ترجمة وتحرير: نون بوست
يخرج توماز زيسك، وهو عالم آثار بولندي وصحفي تلفزيوني، كل صباح ليتنزّه مع كلبه في غابة بالقرب من منزله على مقربة من قاعدة عسكرية تابعة لحلف الناتو، متجولًا على طول سياج شبكي أخضر اللون تعلوه الأسلاك الشائكة. ولا يقطع استمتاعه بالهواء النقي والهدوء الصباحي سوى مكبرات الصوت على الجانب الآخر من السياج التي تصدح بالنشيد الوطني الأمريكي، والتي تحاذيها لافتات تحذيرية كتُب عليها “ابق بعيدًا” باللغات البولندية والإنجليزية والألمانية والروسية. يقول زيسك “أنا لا أعرف أي شخص دخل سابقًا إلى هناك”، مشيرًا إلى مجموعة من المباني التي يغشاها الضباب على مد البصر.
يشكل ذلك السياج الحدود الخارجية لمنشأة عسكرية أمريكية شديدة الحساسية يتولى الجنود البولنديون حراستها، ومن المتوقع أن تدخل حيّز الاستغلال هذا العام، حيث تؤكد واشنطن أنها ستساعد في الدفاع عن أوروبا والولايات المتحدة ضد الصواريخ البالستية التي تطلقها دول مارقة مثل إيران.
بالنسبة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فإن القاعدة العسكرية الأمريكية في بولندا وقاعدة عسكرية أخرى في رومانيا تمثلان دليلاً على ما يعتبره التهديد الذي يفرضه توسع حلف الناتو شرقًا ــ وأحد مبرراته لتطويق أوكرانيا عسكريًا. يصف البنتاغون هاتين القاعدتين بأنهما موقعان دفاعيّان لا علاقة لهما بروسيا، ولكن الكرملين يعتقد أنه يمكن استخدامهما لإسقاط الصواريخ الروسية أو إطلاق صواريخ كروز هجومية على موسكو.
أعلنت روسيا يوم الأربعاء سحب المزيد من القوات بينما أبدت أوكرانيا استعدادها للتخلي عن طموحاتها للانضمام إلى حلف الناتو – وهي القضية الحاسمة في الصراع الحالي مع موسكو. لكن التوترات تصاعدت في وقت لاحق، وتحديدا في اليوم الذي صرّح فيه مسؤول أمريكي بأن الادعاءات الروسية بشأن الحد من القوات على الحدود “كاذبة” وأن هناك أدلة جديدة على أن موسكو “تحشد قواتها للحرب”.
في الوقت الذي يهدد فيه بوتين أوكرانيا، طالب أيضا حلف الناتو بتقليص تواجده العسكري في أوروبا الشرقية والوسطى ــ وهو ما رفضته واشنطن وزعماء أوروبا رفضًا قاطعًا. غَضِبَ بوتين من نشر الصواريخ الأمريكية بالقرب من حدود روسيا منذ دخول الموقع الروماني الخدمة في سنة 2016، لكن المنشأة البولندية التي تقع بالقرب من قرية ريدزيكوفو، لا تبعد سوى 100 ميل عن الأراضي الروسية ولا تبعد سوى 800 ميل عن موسكو نفسها.
في مؤتمره الإخباري السنوي المنعقد في كانون الأول/ ديسمبر، تساءل بوتين: “هل ننشر الصواريخ بالقرب من الحدود الأمريكية؟ لا، نحن لا نفعل ذلك، إن الولايات المتحدة هي من جاءت إلى وطننا بصواريخها، وهي التي تقف بالفعل على عتبة أبوابنا”.
يوجد في قلب القاعدة البولندية نظام دفاع صاروخي يعرف باسم “إيجيس آشور“، يحتوي على رادارات متطورة قادرة على تتبع الصواريخ المعادية وتوجيه الصواريخ الاعتراضية لإسقاطها في السماء. كما أنها مجهزة بقاذفات الصواريخ المعروفة باسم “إم كي 41 إس”، التي يخشى الروس من تعديلها بسهولة لإطلاق الصواريخ الهجومية مثل توماهوك. يعيش القرويون في ريدزيكوفو في توتر دائم على اعتبار أنهم يعيشون بالقرب من القاعدة التي تُعدّ على رأس المخاوف الأمنية لبوتين.
قال ريزارد كوايتكوسكي، وهو مهندس مدني يعمل في مجال البناء، إن أحد الزبائن الذي حجز شقة في مبنى جديد تبنيه شركته، طلبت مؤخرًا إلغاء شرائها بسبب المخاوف من أن روسيا يمكن أن تستهدف المنشأة الدفاعية الصاروخية في ريدزيكوفو، الأمر الذي سيؤدي إلى الخسارة الكاملة لقيمة العقار.
لا أحد يعتقد أن هذا الأمر وارد الحدوث ــ ذلك أن روسيا في صراع مباشر مع حلف الناتو الذي انضمت إليه بولندا منذ سنة 1999. ولكن تصورات أوروبا الموحدة المسالمة التي ترسخت مع نهاية الحرب الباردة بدأت تتلاشى في الوقت الذي تتجمع فيه القوات الروسية على الحدود مع أوكرانيا بينما تعمل الولايات المتحدة على إرسال الآلاف من الجنود الإضافيين إلى بولندا.
يرى كوايتكوسكي، الذي شارك في الاحتجاجات ضد وجود هذه المنشأة الأمريكية في ريدزيكوفو عندما تم الإعلان عنها في سنة 2016، أن روسيا أثارت القلق بالمبالغة في تضخيم حجم التهديد الذي يشكله حلف الناتو. وأضاف أن كلا الجانبين أنتجا “آلة خوف ذاتية الدفع” تغذيها حالة من عدم اليقين المثيرة للغضب حول ما يخطط إليه الطرف الآخر.
قال توماس غراهام، الذي شغل منصب مستشار الرئيس جورج بوش الابن حول ملف روسيا في مجلس الأمن القومي، إن موسكو لم تصدق أبدا تأكيدات واشنطن بأن نظامها الدفاعي الصاروخي يستهدف إيران وليس روسيا. وأضاف أن هذه المسألة أصبحت رمزًا قويًا للكرملين عن نظام ما بعد الحرب الباردة، الذي يعتبره أحادي الجانب بشكل خطير ويحاول الآن تعديله من خلال التهديدات العسكرية.
أضاف غراهام أن “نطاق الأزمة الحالية أوسع بكثير من أوكرانيا. تشكل أوكرانيا نقطة تأثير، لكن الأمر يتعلق أكثر ببولندا ورومانيا ودول البلطيق. ويرى الروس أن الوقت قد حان لتعديل تسوية ما بعد الحرب الباردة في أوروبا لصالحهم”.
في اجتماع مع بوتين يوم الإثنين، أكد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أن روسيا تريد أن ترى “تغييرات جذرية في مجال الأمن الأوروبي”، أي تغييرات بعيدة المدى تتجاوز أوكرانيا لتشمل سحب قوات حلف الناتو المنتشرة الآن في أوروبا الشرقية، وتحديد نشر الأسلحة الهجومية وفرض القيود على الصواريخ متوسطة المدى.
قال توماش سمورا، مدير الأبحاث في مؤسسة “كازيمير بولاسكي” التي يقع مقرها في وارسو، إن “هذه مسألة مهمة بالنسبة لروسيا”، مضيفًا أن إغلاق موقع “ريدزيكوفو” تحقيقا لرغبة موسكو هو “خط أحمر” لن تتخطاه الولايات المتحدة وبولندا، على الرغم من أن الناتو – ردًا على قائمة المطالب التي قدمتها موسكو في كانون الثاني/ ديسمبر – عرض مؤخرًا مناقشة حول “آلية شفافية” غير محددة على أمل تهدئة المخاوف الروسية بشأن القاعدتين العسكريتين في كل من بولندا ورومانيا. لكن موسكو تريد أكثر من ذلك بكثير.
لطالما اعتبرت روسيا الدفاع الصاروخي محاولة أمريكية خطيرة لإضعاف المصدر الرئيسي لكونها قوة عظمى، وهو ترسانتها النووية الضخمة. إن احتمال تمكّن الولايات المتحدة من إسقاط الصواريخ الباليستية الروسية يقوّض الاستراتيجية الرادعة للتدمير المؤكد المتبادل، التي تفترض أن أي قوة من قوتين نوويتين عظمتين لن تُخاطر أبدًا بإقحام نفسها في حرب نووية لأن ذلك يعني إبادة كليهما.
خلال الحرب الباردة، عملت كل من روسيا والولايات المتحدة على تطوير دفاعات مضادة للصواريخ لكنهما اتفقتا في سنة 1972 على التخلي عن برامج الدرع الصاروخية أملاً في الحفاظ على السِلْم والسلام المتبادلين.
استمرّت الاتفاقية حوالي 30 عامًا حتّى أعلن الرئيس الأمريكي آنذاك جورج دبليو بوش انسحابه منها في كانون الثاني/ ديسمبر سنة 2001، وأصدر تعليماته إلى البنتاغون ببناء منظومة دفاعية لدرء التهديد المحتمل الذي تفرضه صواريخ إيران. أثار هذا القرار غضب بوتين الذي كان في السنة الثانية من الحكم. منذ ذلك الحين، لا يزال الكرملين يستشهد مرارًا وتكرارًا بخيبة الأمل التي سببها هذا الانسحاب لروسيا باعتبار أن هذه الاتفاقية كانت حجر الأساس لعلاقات القوى العظمى لعقود. ويعتقد بوتين أن هذا الأمر ألحق ضررًا كبيرًا بالمصالح الروسية.
هذا الشهر، أفاد بوتين في الكرملين “لقد حاولنا لفترة طويلة إقناع شركائنا بعدم الانسحاب، إلا أن الولايات المتحدة لم تلتزم وانسحبت من المعاهدة. والآن، يتم نشر قاذفات صواريخ مضادة للصواريخ الباليستية في رومانيا وبولندا”. وصرّح بوتين بشكل علني أنّه في حال انضمت أوكرانيا إلى الناتو “سوف تمتلئ بالأسلحة؛ سيتم نشر أسلحة هجومية حديثة على أراضيها تمامًا كما هو الحال في بولندا ورومانيا”.
دخل موقع منظومة “إيجيس آشور” في رومانيا حيز الاستغلال منذ خمس سنوات دون وقوع حوادث، لكن روسيا تعتبر المنشأة التي نُشرت فيها منظومة الدفاع الصاروخي البولندية، التي تعطلّت في السابق بسبب أشغال البناء ومشاكل أخرى، تهديدًا أكثر خطورة. وقال مدير البرنامج الأدميرال توم دروغان في تشرين الثاني/ نوفمبر إنه تم تركيب منظومة الأسلحة في المنشأة الصيف الماضي، ومن المقرر أن تبدأ العمل لاحقاً في هذه السنة. وقال “إنها لا تركّز تحديدًا على التهديدات القادمة من روسيا، كما يزعمون”.
إن التأكيدات الأمريكية بأن إيران هي مصدر القلق تم تقويضها في عهد إدارة ترامب عندما صرّح الرئيس بأن أنظمة الدفاع الصاروخي الأمريكية “ستُلاحق وتدمّر أي صاروخ يتم إطلاقه ضد الولايات المتحدة في أي زمان ومكان”.
كافحت واشنطن أيضًا لإقناع بوتين بأن موقعي منظومة الدفاع الصاروخي في أوروبا الشرقية لا يمتلكان قدرة هجومية يمكن توجيهها بسهولة ضد الأهداف الروسية. وردًا على الشكاوى الروسية، أعلن الناتو الشهر الماضي أن الصواريخ الاعتراضية المنتشرة في مواقع “إيجيس آشور” “لا يمكنها تقويض قدرات الردع الاستراتيجية الروسية” و”لا يمكن استخدامها لأغراض هجومية”. وأضاف أن الصواريخ المعترضة لا تحتوي على متفجرّات ولا يمكنها أن تصيب أهدافًا أرضية وإنما تقتصر على الأجسام المحمولة جوًا فقط. كما يفتقر الموقع إلى البرامج والأجهزة والبنية التحتية اللازمة لإطلاق صواريخ هجومية.
مع ذلك، يعتقد بعض الخبراء أنه بينما يتطلب الأمر إعادة تنظيم البرامج والتغييرات الأخرى، فإن قاذفات “إم كي 41” المنتشرة في بولندا ورومانيا لا يمكنها إطلاق صواريخ اعتراضية دفاعية فحسب، بل صواريخ هجومية أيضًا. وحسب المحلل في اتحاد العلماء الأمريكيين مات كوردا، فإنه “من دون الفحص العملي، لا يُمكن تحديد ما إذا كان قد تم تثبيت هذه الأجهزة والبرامج الخاصة بصواريخ توماهوك في مواقع إيجيس آشور في أوروبا أم لا”.
لا يُسمح حتى الآن إلا للأفراد العسكريين التابعين لحلف الناتو بالاقتراب من منصات الإطلاق أو وحدات التحكم الخاصة بها. ولم تستجب البحرية الأمريكية، التي تدير موقع “إيجيس آشور” في بولندا، لطلب صحيفة “نيويورك تايمز” لزيارة الموقع.
قالت العمدة المنتخبة لريدزيكوفو، بياتا جوريس، إنها لم تدخل مطلقًا المنشأة التي أُقيمت على أرض قاعدة جوية بولندية سابقة ومطار مدني مغلق، ولا تتابع الجدالات بشأن الصواريخ التي يمكن إطلاقها من خلف السياج بالقرب من منزلها. وأضافت أنه بغض النظر عمّن يقول الحقيقة، فإن تبادل الاتهامات بين موسكو وواشنطن جعل القرية هدفاً محتملاً في حالة اندلاع الحرب، لذلك “إذا حدث شيء ما، سنكون للأسف أول من يعلم”.
المصدر: نيويورك تايمز