أعلنت السلطة الانتقالية في السودان اتخاذ إجراءات صارمة لمنع تهريب الذهب خارج البلاد وملاحقة المهربين، من خلال فرض قوانين مشددة تصل إلى السجن بين عام وعشرة أعوام، مع تشديد المراقبة على الحدود، حسبما كشف نائب رئيس المجلس محمد حمدان دقلو “حميدتي”.
ويعاني السودان الذي يحتل المرتبة الثالثة عالميًا على المستوى الإفريقي في إنتاج الذهب، من تهريب ممنهج للمعدن النفيس على مدار السنوات العشرة الأخيرة، حتى وصل الفرق بين المنتج من الذهب في البلاد والمصدر إلى الخارج ما بين 3 و4 مليارات دولار سنويًا، بحسب تقرير سابق لوزارة المعادن السودانية.
ويعتمد البلد الإفريقي على عوائد تصدير الذهب الذي يمثل 37% من إجمالي صادرات البلاد خلال الأعوام الماضية، وقد تعزز هذا المورد بصورة أكبر بعد فقدان السودان قرابة 75% من عوائد النفط عقب استقلال جنوب السودان 2011، وفقدان 80% من موارد النقد الأجنبي، ما يجعل عملية التهريب ضربةً موجعةً سيكون لها ارتداداتها الكارثية على الاقتصاد الهش الذي لم تعد لديه القدرة على تحمل أزمات جديدة.
تهريب 80 كيلوغرام ذهب يوميًا
كشف تقرير مشترك أعدته لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية لإفريقيا وفريق الاتحاد الإفريقي، في سبتمبر/أيلول 2021، فقدان السودان قرابة 267 طنًا من الذهب خلال 7 سنوات (من 2013- 2018) عن طريق التهريب، بمعدل 80 كيلوغرامًا يوميًا.
وأوضح التقرير وجود عجز 13.5 مليار دولار بين البيانات الرسمية للحكومة السودانية والدول التي استوردت الذهب والنفط من السودان، خلال ذات الفترة، ما يعني تكبد البلاد خسارة فادحة جراء عمليات التهريب التي ثبت بعد ذلك أنها كانت تتم بأيدي مسؤولين في السلطة الانتقالية وعلى مرأى ومسمع من الجميع دون اتخاذ الإجراءات اللازمة لذلك.
ويعد التعدين أحد أبرز الأنشطة الاقتصادية الجاذبة للعمالة السودانية، إذ يعمل في هذا القطاع أكثر من مليون عامل (بجانب مليونين من المعدنيين) في قرابة 800 موقع في أنحاء البلاد كافة، فيما بلغ احتياطي السودان من الذهب 1550 طنًا وبلغ إنتاجه 35.6 طن خلال عام 2020، وسط توقعات بزيادة معدلات الإنتاج خلال الفترة القادمة لسد العجز الذي يواجهه الاقتصاد الوطني منذ سنوات.
ومما يساعد على عملية التهريب اتساع الحدود البرية للبلاد، خاصة مع تشاد ومصر، إذ كشفت بعض المصادر تنوع وسائل التهريب الحدودية كأن يوضع الذهب في أمعاء المهربين أو أرحام الإبل، كذلك عبر مطار الخرطوم الدولي الذي يعاني من العديد من الثغرات التي تساعد على تهريب كميات كبيرة من المعدن الأصفر، وهو ما توثقه عمليات ضبط كميات كبيرة منه بين الحين والآخر.
السوق السوداء.. التحدي الأكبر
يُلقي المهربون للذهب من المعدنيين وأصحاب المناجم اللوم على سياسات البنك المركزي في انتشار ظاهرة التهريب خلال السنوات الماضية، محملين إياها مسؤولية انتعاش السوق السوداء لتجارة هذا المعدن في ظل الخسائر الكبيرة الناجمة عن الإدارة الخاطئة لهذا القطاع.
ويرى هؤلاء أن تفضيل تهريب المعدن الأصفر يرجع إلى قرار البنك المركزي شراء المنتجع وفق سعر الدولار الرسمي (الدولار يساوي 440 جنيهًا مقابل 490 جنيهًا في السوق السوداء)، وذلك بهدف الاستفادة من فرق السعر في السوق الموازية عنه رسميًا، وهو ما يغفله القائمون على أمور تلك الصناعة الحيوية.
وهناك قرابة مليوني شخص من المعدنيين يستخرجون قرابة 90% من إنتاج السودان من الذهب، فيما تتولى بعض الجهات الأخرى استخراج النسبة الباقية، وتتصدر ولايتا نهر النيل والشمالية (شمالًا) والبحر الأحمر (شرقًا) قائمة الولايات الأكثر إنتاجًا للمعدن.
ويمتلك السودان خريطة ثرية من المعادن النفيسة التي يمكنها الدفع بالبلاد إلى آفاق أكثر دفئًا مما هي عليه اليوم، غير أن الإدارة الخاطئة وتنامي ظاهرة السرقة والتهريب، بجانب الاضطرابات السياسية والأمنية حالت دون الاستفادة من تلك الثروات المهملة والمهدرة أحيانًا، علمًا بأنه ووفق تقارير رسمية لم تستهلك البلاد إلا 1% فقط من احتياطات الذهب والمعادن الأخرى.
أزمة الاقتصاد.. الكبرى في تاريخ البلاد
يمثل الذهب ضلعًا أسياسيًا في اقتصاد السودان، إذ تشكل عوائد تصديره قرابة 37% من إجمالي صادرات البلاد، وعليه فإن أي مساس بهذا القطاع ستكون له انعكاساته الكارثية على الاقتصاد بصفة عامة، ومن ثم كانت الاستفاقة الأخيرة تلك بتدشين مظلة تشريعية قانونية مغلظة لوقف جرائم التهريب.
ويعاني الاقتصاد السوداني من حركة “شبه مشلولة” حسب تعبير أستاذ الاقتصاد في جامعة بحري الدكتور أبو القاسم إبراهيم، خلال تصريحاته لقناة “الحرة” التي قال فيها إن اقتصاد بلاده شبه منهار وأنه لا يعمل إلا بـ30% من قوته فقط، لافتًا أن الأزمة التي يحياها الآن “الكبرى في تاريخه”.
وقد بلغ حجم التضخم في السودان 359.09% في 2021 ارتفاعًا من 163.26% في 2020، بحسب المكتب المركزي للإحصاء، فيما انكمش الاقتصاد بنسبة 72% خلال آخر 7 سنوات، كما تراجع الناتج المحلي إجمالًا من المحلي من 74.3 مليار دولار في عام 2015 إلى 24.3 مليار دولار عام 2020، وبالتزامن انخفض نصيب المواطن من الناتج بنسبة 77% في الفترة ذاتها وفق تقرير الأمم المتحدة في مارس/آذار 2021.
التهاوي الواضح في الاقتصاد انعكس بطبيعة الحال على المستوى المعيشي للمواطنين، إذ قفز عدد الأشخاص المحتاجين إلى المساعدات الإنسانية من 5.8 مليون شخص في عام 2015 إلى 13.4 مليون شخص عام 2021، فيما حذرت الأمم المتحدة من أن ما يزيد على 30% من السودانيين سيحتاجون لمساعدة إنسانية خلال هذا العام، وأن الرقم ربما يتزايد إن لم تكن هناك حلول عاجلة.
حميدتي.. المشكلة والحل!
اللافت للنظر في التحرك السوداني المتأخر بشأن تحجيم عملية تهريب الذهب أن من أعلن تلك الإجراءات هو نائب رئيس المجلس محمد حمدان دقلو “حميدتي”، المتهم الأبرز في تلك العمليات طيلة السنوات الماضية، وفق ما وثقته العديد من التحقيقات الاستقصائية والتقارير الإعلامية الصادرة عن إعلاميين ومسؤوليين سودانيين.
في تقرير سابق لـ”نون بوست” كشف أن عمليات التهريب تتم عن طريق شركة تسمى “مجموعة الجنيد” وأنها خلال شهر أكتوبر/تشرين الأول 2019 أرسلت نحو طن من سبائك الذهب إلى دبي بقيمة 30 مليون دولار، حسب فواتير الطيران وقسائم الدفع.
وبعد المراجعة بشأن ملكية الشركة تبين أنها مملوكة لشقيق حميدتي ويدعى “عبد الرحيم”، وأنها تعمل مع شركة تسمى “روزيلا” ومقرها دبي، والتعامل بينهما بدأ أواخر 2018، واستمر لعدة شهور، باعت خلالها الشركة السودانية لنظيرتها في الإمارات عشرات الأطنان من الذهب.
وكانت الصحفية السودانية هبة فقيري عبر تحقيق نشره موقع “الجزيرة” في أكتوبر/تشرين الأول 2019 قد كشفت مفارقة كبيرة بين حجم الذهب المنتج والمعلن رسميًا والمسجل في أوراق مطار الخرطوم، إذ لم يتجاوز ما تم إنتاجه عبر الأوراق الرسمية في 2015 حاجز الـ70 طنًا، أما ما تم رصده وفق فواتير مطار الخرطوم تجاوز 102 طن تم نقلها إلى مطار دبي عبر الخطوط الإماراتية، ما يعني أن هناك فارقًا قدره 32 طنًا تم تهريبها، مع الوضع في الاعتبار أن “مجموعة الجنيد” تعد العميل الأبرز إن لم يكن الوحيد الذي ينقل الذهب السوداني إلى الإمارات.
شكوك كثيرة بشأن جدوى مكافحة تهريب الذهب في ظل تورط جنرالات ومسؤولين في تلك الجرائم منذ نظام الإنقاذ وحتى اليوم، هذا بخلاف عدم الجدية في إعادة النظر في سياسات البنك المركزي التي تعد السبب الأبرز للجوء إلى السوق السوداء، ليواصل السودان نزيف ثرواته الطبيعية، إما بسرقتها وتهريبها وإما بسوء التخطيط في الاستفادة منها بالشكل المطلوب.