تتصاعد نذر الحرب الروسية على أوكرانيا يومًا بعد يوم، كما تتوالى التحذيرات الغربية للرئيس فلاديمير بوتين لحثه على عدم خوض مغامرة غزو أوكرانيا تحت طائلة عقوبات كبيرة، لكنها ليست الجولة العسكرية الأولى لبوتين، إذ سبق ذلك الحرب على جورجيا والتدخل في ليبيا ومساندة نظام الحكم في كازاخستان، والأهم من كل ذلك السيطرة على مفاصل الحكم في سوريا من خلال الزج بالقوات الروسية لمحاربة الثورة السورية والوقوف إلى جانب بشار الأسد.
تكثر التحليلات والأقاويل التي تشير إلى أن سيناريو أوكرانيا سيكون شبيهًا بالسيناريو السوري، خاصة أن الجيش الروسي يحشد قوات كبيرة على تخوم أوكرانيا كما حشدها لسوريا، فمن الصحيح أن المقاربة بين ما حصل في البلدين تحمل أوجهًا معقولةً في بعض النقاط، لكن يبدو أن الاختلاف في نقاط كثيرة حاضر أكثر، لكن المشترك أن روسيا تريد إعادة لملمة شتات إمبراطوريتها وتقوية حضورها العالمي في المجالات كافة، ولعلنا في هذا التقرير نعمل على جمع أبرز ما يجمع ويفرق بين سيناريو سوريا وأوكرانيا بالنسبة لموسكو.
طبيعة التدخل
في البداية لا بد من الإشارة إلى أن نقطة الاختلاف الأولى تكمن في أن التدخل الروسي في سوريا كان لمواجهة انتفاضة شعبية ضد حكم رئيس النظام بشار الأسد، وتثبيت حكم الأخير حيث كان النظام آيلًا للسقوط، وفي هذا السياق نذكر بما قاله وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف منذ سنوات: “العاصمة دمشق كانت ستسقط في أثناء أسبوعين أو ثلاثة لولا هذا التدخل”، وبات الجميع يعلم أن القوات الروسية عدّلت الكفة لصالح قوات الأسد المتهالكة في أكثر من موقف، خاصة على صعيد الدعم الجوي.
أما بالنسبة لأوكرانيا فالأمر يختلف كليًا، فموسكو تسعى لغزو أوكرانيا والوصول إلى العاصمة كييف، ومن الطبيعي في حال تحقق هذا السيناريو أن نظام الحكم بقيادة الرئيس فولوديمير زيلينسكي سيكون ساقطًا بفعل الاجتياح الروسي، أضف إلى ذلك أن روسيا تدعم العديد من الحركات الانفصالية والمتمردة في شرق أوكرانيا التي ستكون على خط المواجهة جنبًا إلى جنب مع القوات الروسية المحتشدة على الحدود مع أوكرانيا.
دوليًا
دخلت القوات الروسية إلى الحرب في سوريا لإعادة تموضعها على المستوى الدولي وإعادة التنافس مع الولايات المتحدة بشكل خاص والقوى الغربية بشكل عام، فقد كانت هذه القوى هي الوحيدة الموجودة في منطقة الشرق الأوسط لاعتبارات اقتصادية من جهة وسياسية وعسكرية من جهة أخرى، وأبرز تلك الاعتبارات حماية أمن “إسرائيل”، بالإضافة إلى حماية دول الخليج من الخطر الإيراني المتزايد والاستفادة من خيرات الطاقة الموجودة.
قبل التدخل الروسي في سوريا، كانت موسكو قد انحصرت في مشاكل لا تتعدى حدود إقليمها، ما جعل الخناق الغربي يضيق عليها، خاصة بموضوع أوكرانيا القديم الجديد، لكن التدخل في سوريا كسر هذا الخناق وجعل لروسيا موطئ قدم في أكثر المناطق التهابًا خلال الفترة الماضية، ولم تستفد موسكو فقط بتثبيت حليفها، إنما أعطت نفسها مساحة التحرك بالمياه الدافئة للمرة الأولى منذ زمن، فقد صارت تملك منفذها الوحيد على البحر المتوسط وهو ميناء طرطوس، وهنا فرضت روسيا نفسها كطرف قوي وفاعل لا يمكن التصرف دونه في المنطقة.
على خلاف الأمر في سوريا والتوغل الروسي في كل قطاعات الحياة في البلاد والسيطرة شبه الكلية على الكثير من المفاصل، فإن أوكرانيا تبقى قضيةً مختلفةً وشديدةً الحساسية بالنسبة لموسكو، فهي تعتبرها قضية تمس أمنها القومي المباشر، وهنا تلعب الجغرافيا دورها حيث تقع أوكرانيا غرب روسيا بحدود تمتد لمئات الكيلومترات، وتعد أوكرانيا القوة الثانية السوفيتية بعد روسيا، كما أن الأخيرة تعد كييف بُعدًا إستراتيجيًا وثقافيًا واقتصاديًا.
ولنعلم أهمية كييف بالنسبة لروسيا، يجب أن ننظر للأمر من زاوية الأعداء التقليديين لموسكو، فالاهتمام الأمريكي والأوروبي يزداد يومًا بعد يوم بهذه البلد، أضف إلى ذلك الاهتمام التركي بالمنطقة من جوانب متعددة، ولطالما كانت أوكرانيا منطقةً للتوازن الإستراتيجي بين الغرب وروسيا خاصة في الفترة الأخيرة، إذ تصاعدت حدة التصريحات بين الطرفين أكثر مما تتصاعد الحرب على الأرض، ولعل أحد أسباب تصاعد نذر الحرب هو محاولة الغرب استمالة كييف وإدخالها في حلف الناتو لتصبح في المعسكر المقابل لموسكو.
الناتو
تلتقي الأزمتان السورية والأوكرانية برغبة روسيا بفرض قواعد جديدة للمواجهة مع الغرب بشكل عام وحلف الناتو على وجه التحديد، ولعل التدخل الروسي في سوريا طويل المدة وذو الأهداف بعيدة الأمد يرتبط بالسياسة الروسية الجديدة القائمة على التوسع وفتح منافذ جديدة بعيدًا عن الإطار الإقليمي الموجودة فيه، ومن أجل ذلك تريد تخفيف أعباء المواجهات على حدودها ونقلها إلى أماكن أخرى للضغط أكثر فأكثر.
يذكر أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أطلق إصلاحات واسعة النطاق لتعزيز قدرات الجيش الروسي من ضمنها مشروع تحديث الجيش والأسلحة وزيادة العتاد الحربي الذي تبلغ تكلفته نحو 283 مليار دولار، كما عدلت روسيا قبل نحو شهرين فقط العقيدة العسكرية لسلاح البحرية، وباتت تضع مواجهة تمدد الحلف الأطلسي كأولوية، وهو ما يدفعها إلى الحفاظ على وجود دائم لأساطيلها في المحيط الأطلسي والبحر المتوسط حيث تشكل مدينتا طرطوس واللاذقية السوريتان المنفذ الوحيد لها.
وهنا تلتقي أهداف الحرب الروسية المحتملة في أوكرانيا مع ما سبق، فموسكو تريد منع انضمام كييف إلى حلف الناتو والانخراط بالتوجهات الغربية، فقد أكد بوتين أن بلاده تصر على أن يتم البت في إغلاق موضوع عضوية أوكرانيا في الناتو اليوم وليس في المستقبل، لكن كييف تعتبر أن طلبها لعضوية الناتو أمر دستوري لا تراجع فيه.
عسكريًا
على الرغم من التكلفة المالية العالية، فإن روسيا استطاعت اجتياز الفترة الأولى من حربها في سوريا بأقل الخسائر البشرية، إذ اعتمدت على القوة الجوية والضربات الصاروخية من بحر قزوين، إضافة إلى الاعتماد على الأنظمة غير المأهولة، وكان دور روسيا التمهيد قبل الزج بجيش النظام في المعارك البرية، وفي معارك قليلة تم فيها إرسال قوة من العسكر المشاة للقتال، وهو ما أثر إيجابًا على الرأي العام الروسي، فالحرب كانت قليلة الكلفة بالأرواح.
أما من جهة أوكرانيا، فيبدو أن روسيا حشدت عشرات آلاف الجنود الروس، فقد ذكرت التقارير الأخيرة أن أكثر من 150 ألف جندي روسي يحتشدون على الحدود الأوكرانية الروسية، أضف إلى ذلك آلاف الدبابات والمدرعات وكاسحات الألغام، وفيما لو تم سيناريو الغزو الكامل لأوكرانيا وحصول مقاومة من الجيش الأوكراني والمجموعات المسلحة الرديفة فإن الكلفة البشرية ستكون عاليةً لكلا الطرفين خلال أيام، على عكس سوريا.
تجدر الإشارة إلى أن وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو، قال إن جيش بلاده جرب أكثر من 320 نوع سلاح مختلف خلال عملياته في سوريا، وشدد على أن نسبة الأسلحة والمعدات الحديثة لدى الجيش الروسي تصل إلى 70%، لافتًا إلى أن هذه النسبة من بين الأعلى مقارنةً بباقي جيوش العالم، ولربما تستخدم هذه الأسلحة التي جربت في سوريا على الأرض الأوكرانية في حال تم الغزو.
جغرافيًا
الباحث السوري فراس فحام يرى أن لا مقاربة بين سوريا وأوكرانيا، فسوريا بعيدة جغرافيًا عن أوروبا وروسيا وهذا يجعل الأطراف أقل رغبةً أو أقل حرصًا على سرعة إنجاز الحلول في الحالة السورية، بينما في الحالة الأوكرانية فإن قرب كييف من أوروبا على اعتبار أنها محسوبة على الغرب ووقوعها على الحدود مع روسيا يجعل الأمر شائكًا ومعقدًا وبذات الوقت مخيفًا بالنسبة للأطراف جميعًا.
وخلال حديث فحام لـ”نون بوست” أشار إلى أن “هناك مخاوف من اندلاع حرب أهلية في أوكرانيا وهذه الحرب لو اندلعت من الممكن أن تمتد إلى روسيا أو أوروبا، لذلك فقد تكون الأطراف حريصة على الحسم السريع أو الاتجاه للضغط بشكل أكبر لمنع اندلاع هذه المواجهة من الأساس”، مضيفًا “بناءً عليه فإن تكرار السيناريو السوري في أوكرانيا بعيد، فالفاعلون الدوليون قد لا يرحبون بأزمة طويلة من الناحية الزمنية وأيضًا لا يتحملون حالة فشل دولة كما هو في سوريا الآن، لأن ذلك سيكون له ارتدادات أمنية واقتصادية على دول الجوار”.
ويرى أنه من الممكن أن يكون “هناك ارتدادات من الأزمة الأوكرانية الروسية على سوريا، ففي حال اتجهت الدول الأوروبية إلى الضغط على روسيا في الملف السوري يمكن أن يكون هناك نوع من التطورات وقد يكون هناك عودة إلى التصعيد، وربما يكون هناك أزمة بين روسيا وتركيا على اعتبار أن الطرفين يقفان على طرفي النقيض في الأزمة الأوكرانية ومواقفهما مختلفة، وفي حال لم تستطيعا إدارة الخلافات فيما بينهما، قد تمتد هذه الخلافات لتشمل الأراضي السورية ونحن تابعنا في مراحل سابقة عندما اشتعلت الأزمة الليبية كيف أن روسيا قامت بتحركات معينة في سوريا من أجل الضغط أو التأثير على تركيا”.
أخيرًا، وعلى الرغم من الفوارق الموجودة في الملفين الأوكراني والسوري من نواح مختلفة كما بيّنا، فإن تفكيرًا روسيًا واحدًا يحكم الموقف وهو عدم حكم الفكر الغربي الديمقراطي أو الليبرالي لكلتا الدولتين.
ولعلنا نختم بمداخلة الفيلسوف الروسي ألكسندر دوغين في حديث مع برنامج المقابلة الذي بثته الجزيرة، والذي يشرح فيها ذهنية الكرملين بهذا الخصوص، إذ يقول: “الصراع العالمي يدور أساسًا بين القوى البرية والقوى البحرية، وليس بين القوى الرأسمالية أو غيرها من الأيديولوجيات كما يعتقد الكثيرون، لذلك، نعتقد أن الكرملين لن يتردد في الدفاع عن هذه المصلحة الجيوسياسية، حتى لو اقتضى الأمر صراعًا عسكريًا طويلًا في سوريا، فروسيا بدفاعها عن سوريا تحافظ على نفوذها كقوة دولية عظمى وتدافع عن وجودها في الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، بالمثل، إن تدخل روسيا في منطقة دونباس، شرق أوكرانيا، الذي أدى إلى ضم شبه جزيرة القرم واستقلال دونيتسك ولوغانسك، كان ضرورة جيوسياسية لموسكو. فروسيا بفعلها ذلك تضمن بقائها لو خسرنا دونباس، فإننا سنفقد القرم وبعد ذلك كل روسيا”.