لم تعد بؤر المقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية المحتلة تقتصر على بعض البلدات أو القرى المهددة بالتهجير، بل باتت مراكز المدن حاضرة في المواجهات والعمليات العسكرية التي تنفذ إما بشكلٍ فردي وإما جماعي ضد جنود ومستوطني الاحتلال.
وخلال الأسابيع الأخيرة برزت مناطق مثل بيتا وجبل صبيح وبرقة وكفر عقب ونابلس ومخيم جنين والسيلة الحارثية كبؤر مقاومة تتنوع بين العسكري تارة والفعل الشعبي المقاوم تارةً أخرى، في وقت تتوالى فيه لقاءات مسؤولي السلطة بقادة الاحتلال لتعزيز التنسيق الأمني وتقديم المزيد من التسهيلات الاقتصادية لاحتواء ساحة الضفة.
وفي محاذاة التنامي وحالة الاشتعال تبرز الهندسة الاجتماعية التي تعرض لها الفلسطينيون منذ عام 2007، وهدفت إلى خلق فلسطيني جديد يتماشى مع الواقع ويرفض وسائل المقاومة المسلحة باعتبارها ذات كلفة مرتفعة.
غير أن الفلسطينيين كسروا هذه القواعد بعد أن فشلت السلطة سياسيًا في الوصول إلى الحل الذي حاولت تمريره طوال السنوات الماضية المتمثل في المفاوضات، ما جعل المقاومة تتسع بوتيرة باتت واضحة وتجعل الاحتلال يخشى من سيناريوهات التطور المستقبلي لها.
نقاط وبؤر مشتعلة
مع تتابع العمليات عادت ظاهرة المطاردين والملاحقين لأجهزة أمن الاحتلال تمامًا كما حصل مع خلية نابلس التي اغتالها الاحتلال مؤخرًا، عدا عن عمليات إطلاق النار تجاه الحواجز المتنقلة والثابتة في ظاهرة باتت واضحة للعيان.
وأضحى مصطلح “كتيبة عسكرية” أمرًا غير صادم لسكان الضفة الغربية خصوصًا مع وجود كتيبة جنين الأبرز من ناحية الحضور في الفترة الأخيرة على صعيد العمليات والاشتباكات مع الاحتلال الإسرائيلي ووجود تشكيلات عسكرية محسوبة على سرايا القدس الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي وكتائب القسام الذراع العسكرية لحركة حماس أو كتائب شهداء الأقصى المحسوبة على حركة فتح التي حلها رئيس السلطة محمود عباس بعد عام 2007.
وما يعكس تنامي الفعل المقاوم في الضفة الغربية هي إحصاءات عام 2021، فقد بلغ عدد العمليات المؤثرة في الضفة 441 عمليةً، مقابل نحو مئة عملية في عام 2020، أما مجمل عمليات المقاومة بما فيها المقاومة الشعبية 10850 عمليةً بما يمثل ضعف عام 2020.
وخلال 2021 قتل 4 إسرائيليين في القدس ونابلس، فيما جرح 435 آخرين، نصفهم في القدس وحدها، وهو العدد الأعلى في الأعوام الأربع الأخيرة من جرحى الاحتلال والمستوطنين في الضفة، في حين بلغت عمليات إطلاق النار على أهداف الاحتلال 191 عمليةَ، بما يمثل تصاعدًا كبيرًا مقارنة بالأعوام السابقة، وعودة لشبح انتفاضة الأقصى.
خذوا كراسيكم وارحلوا
في موازاة ذلك، يقول رئيس الدائرة السياسية في حركة حماس بالضفة محمود مرداوي إن حالة الاشتعال القائمة حاليًا هي نتاج لعدم ثقة الفلسطينيين بالسلطة ووصولهم مرحلة اليأس من سياساتها وسلوكها في الميدان في ظل ارتفاع الجرائم الإسرائيلية.
يضيف مرداوي لـ”نون بوست”: “الحقبة الحاليّة تمتاز بكثافة الانتهاكات الإسرائيلية عبر الاستيطان والقتل اليومي وتطرف المجتمع الإسرائيلي وحضور الأحزاب اليمينية الإسرائيلية التي تقود سلوكًا إجراميًا ضد الشعب الفلسطيني”.
وبحسب القيادي في حركة حماس فإن عمليات التطبيع ساهمت هي الأخرى في الحالة التي تعيشها الضفة الغربية حاليًّا، تزامنًا مع تسارع الاستيطان الإسرائيلي في أراضي الضفة وسرقة الأراضي بوتيرة غير معهودة وعدم ترك أي شيء للفلسطينيين.
ويشدد مرداوي على أن محاولة هندسة المجتمع الفلسطيني وصناعة الفلسطيني الجديد بما يخدم منهجية السلطة في إطفاء جذوة نضال الشعب الفلسطيني عبر التنسيق الأمني والمطاردات وتغييب المسجد ومحاولة إفراغ الحس الوطني المعرفي فشلت.
ويؤكد رئيس الدائرة السياسية لحماس في الضفة أن الاحتلال يرى المرحلة الحاليّة هي الأخطر، إذ بات يضع الضفة الغربية على رأس أولوياته الأمنية باعتبارها الجبهة الأكثر تحديًا للوضع العسكري والأمني الإسرائيلي في ضوء تراجع الثقة بالسلطة ومشروعها.
ويشير مرداوي إلى أن فصائل المقاومة جزء من حالة الفعل المقاوم في الضفة، فهناك تنظيمات مثل الجبهة الشعبية والجهاد الإسلامي حاضرة في المشهد وأصبحت أكثر قناعة بضرورة التنسيق لمواجهة التحديات والعمل معًا وعدم التعويل على السلطة.
الميدان هو الحكم
بدوره، يؤكد المتحدث باسم حركة الجهاد الإسلامي في الضفة الغربية طارق عز الدين أن العمل الفصائلي في الضفة لم يتوقف على صعيد المقاومة العسكرية غير أن وتيرته تنخفض في بعض المرات جراء الملاحقات الأمنية.
وبحسب حديث عز الدين لـ”نون بوست” فإن تنامي البؤر المقاومة حاليًّا مرده الرد على سلوك الاحتلال وجرائم جيشه ومستوطنيه اليومية، المتمثلة في القمع المنظم وهو ما دفع نحو الالتحام الشعبي في نقاط التماس أو العمل المسلح عبر العمليات الفردية والمنظمة واستهداف الحواجز والنقاط العسكرية الإسرائيلية في أكثر من منطقة بالضفة.
ولا يرى الناطق باسم حركة الجهاد الإسلامي أن التنسيق الأمني والهندسة الاجتماعية التي قامت بها السلطة مع الاحتلال أفضت إلى توقف العمل المقاوم، إذ يتضح العكس مع زيادة أعداد العمليات المسجلة يوميًا في الآونة الأخيرة.
من الهدوء للفعل
من جانبه، يرى الكاتب والمحلل السياسي ساري عرابي أن ما تمر به الضفة الغربية بمثابة مرحلة جديدة تختلف عن المرحلة التي تلت الانقسام الفلسطيني في الفترة ما بين 2007 – 2014 حين اتسمت الضفة بالهدوء وتراجع العمل المقاوم.
ووفقًا لعرابي الذي تحدث لـ”نون بوست” فإن حرب عام 2014 كسرت هذه المرحلة وأدت لتحول الحضور الجماهيري والفعل المقاوم في الضفة الغربية، مع استبعاد نماذج الانتفاضتين الأولى والثانية نظرًا لوجود السلطة الفلسطينية.
من بين الأسباب التي تدفع لاشتعال الضفة الغربية حاليًّا فشل مشروع التسوية، وهو الأمر الذي ساهم أكثر من مرة في المواجهات مع الاحتلال تمامًا مثل الانتفاضة الثانية التي جاءت بعد فشل كامب ديفيد، وهبة النفق التي كان جزء منها متعلق بالمسار السياسي، كما يذكر الكاتب عرابي.
ولا يخفي الكاتب والمحلل السياسي أن حالة الضعف التي تعيشها السلطة حاليًا وتحولها لعبء على الفلسطينيين على الصعيد الاقتصادي وحالة الاعتماد الكلي على الاقتصاد الإسرائيلي إلى جانب عدم وجود شرعية شعبية لها في ظل عدم إجراء انتخابات رسمية، عوامل تعزز حالة الغضب الفلسطيني في وجه الاحتلال.
غزة حاضرة
تعتبر الحروب التي خاضتها غزة مصدر إلهام للضفة الغربية خصوصًا بعد عام 2014 حين رسم قصف تل أبيب والقدس وحيفا وغيرها من المدن المحتلة صورةً جديدةً عن طبيعة الخلاف الفلسطيني بين فتح وحماس، فلم يعد الأمر خلافًا على الحكم والكرسي بالنسبة لشريحة ليست بالقليلة.
وأدت بعض العمليات التي نفذت مثل خطف المستوطنين الثلاث عام 2014 ودخول غزة على جبهة الحرب لاحقًا إلى جانب هبة 2015 التي اشتعلت بعد عملية نفذتها خلية للمقاومة و2019 و2021، إلى تعزيز الثقة بخطاب المقاومة.
ويتضح الأمر بصورةٍ أكبر عبر محاولات الجهاد الإسلامي وحماس تنظيم صفوفهما بخلايا ومجموعات محسوبة عليهما في الضفة الغربية رغم الملاحقة الأمنية المزدوجة سواء من الاحتلال أم الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية.
وبالتالي لا يمكن القول إن جبهة الضفة الغربية ستعود للاستكانة والهدوء من جديد أمام اتساع رقعة البؤر التي تشهد مواجهات شعبية وعسكرية، إذ يعمل الاحتلال على إشعال لهيب الغضب الفلسطيني بسلوكه الاستيطاني في أكثر من بقعة.