تونس، بلد صغير في شمال القارة الأفريقية يطل على البحر المتوسط، عدد سكانه في حدود العشرة ملايين، يقف اليوم على هضبة الديمقراطية ليطل على ماض حزين حكمته الديكتاتورية ويتطلع إلى مستقبل مُشرق لأن حاضره يؤكد أن بلد عليسه وحنبعل لازال يبهر العالم ويخط أنصع الصفحات في تاريخ الأمم.
لازال وطن ابن خلدون ومحمد الطاهر بن عاشور يهز عروش الطغيان ويحطم إمبراطورياتهم ويذل كبرياءهم، لازالت تونس تبهر العالم كله يومًا تلو آخر، فبعد ثورة الياسمين التي وصل عبقها كل أرجاء الأرض، يثبت التونسيون أنهم صناع الحداثة والديمقراطية وأعداء الانتقام والاجتثاث، فثورتهم رفضت التصفيات الجسدية وإحداث شرخ في بنية المجتمع، وخط الشعب نهج العدالة الانتقالية والابتعاد عن شبح العقوبات الجماعية.
انتصرت الثورة ورحل رأس النظام وكُتب من نواب منتخبون دستورًا للوطن، نواب فيهم المضحك وفيهم المتعصب وفيهم المعتدل المتزن، لقد كان المجلس التأسيسي مرآة للشعب التونسي زمن الزخم الثوري، لقد عبّر عن التونسيين بكل ألوانهم وأطيافهم وفئاتهم، عبر عن الثورية وعن الفوضى التي تجتاح الدول بعد أي سقوط للنظام كان يحكم، المجلس التأسيسي بكل هناته وكل شطحاته هو مجلس تونسي مئة بالمئة.
وبما أن التأسيس يختلف عن الترسيخ، وبما أن كتابة الدستور تختلف عن إقامة مؤسسات الحكم، فقد قرر الناخبون التونسيون أن يختاروا وجوهًا وشخصيات أكثر عقلانية ورصانة لتمثلهم في أول برلمان منتخب (مجلس نواب الشعب) عقب ثورة 14 كانون ثان/ يناير 2011، برلمان في ظل دستور حاز على نسبة عالية من التصويت لصالحه بلغت 92 بالمائة.
وكما انتصرت الثورة على النظام المستبد، انتصرت الدولة العميقة على الدولة الناشئة، وعادت وجوه قامت الثورة لإزاحتها لتتصدر المشهد الإعلامي والسياسي في البلاد، لكن وسط كل هذا التجاذب يمكن الإقرار بأن الديمقراطية هي التي انتصرت وإن عادت الفلول، فذلك هو اختيار الشعب، ويجب احترامه.
والمتابع للشأن السياسي ببعديه الإقليمي والدولي يدرك أن صراع المصالح وضع ما اصطلح عليه بقوى الإسلام السياسي المنبثقة عن ثورات الربيع العربي المتمثلة خاصة في جماعة الإخوان المسلمين وكل من يلتقي معها فكريًا أو تنظيميًا في مواجهة قوى الإسلام التقليدي المعادية للديمقراطية بقيادة المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة أساسًا.
وفي هذا السياق يمكن إدراج الانتخابات البرلمانية في تونس التي أسفرت نتائجها عن تراجع قوى أنتجتها الثورة (الترويكا الحاكمة) مقابل تقدم حزب نداء تونس الناشئ حديثًا والذي يضم يساريين وتجمعيين ونقابيين ودستوريين وبعض المستقلين، مع حصول الجبهة الشعبية (أقصى اليسار) على المزيد من المقاعد بعد اغتيال الوجهين اليساريين شكري بلعيد ومحمد البراهمي.
يبدو أن التقاء هذه الروافد ضد مشروع الإسلام السياسي يشير إلى أن هناك دعمًا إقليميًا غير مسبوق وإرادة دولية غير منقطعة النظير للدفع نحو إزاحة الإسلاميين عن دفة الحكم، سلاحهم في ذلك الاغتيالات العسكرية والعمليات الإرهابية وسلاح ثالث هو أشد فتكًا من السابقين، بلا شك إنه الإعلام.
لقد مُنيت القوى التي أنتجتها ثورة 14 كانون أول/ يناير بهزيمة جراء ثلاث سنوات من القصف الإعلامي لم يستطع الإسلاميون الصمود أمامه رغم أنهم يملكون في أيديهم سلاح الدين الذي يعتبره اليساريون “أفيون الشعوب” تأسيًا بعبارة كارل ماركس، وقد يكون الدين سلاح مهمًا للسيطرة على العقول وتطويع الناس وتشكيلهم وفق من يبث الخطاب.
لكن فشلت حركة النهضة وحليفيها حزب المؤتمر من أجل الجمهورية وحزب التكتل في المحافظة على رصيدهم الانتخابي لسنة 2011، وبدأ التسويق أن الإعلام نجح في تشويه الترويكا وأن من صوت لحركة نداء تونس ليسوا سوى مواطنين بسطاء.
لكني لا أوافق الرأي الشائع بأن من صوتوا لحركة نداء تونس هم المواطنين البسطاء الذين استجابوا لهجمات الإعلام على لترويكا الحاكمة سابقًا، لأن الفضاء الإعلامي متاح للجميع ولا يمكن أن نعتبر أحد ضحية وآخر جلاد، ولكن يمكن الحديث عن نجاح قصف إعلام النداء مقابل ضعف دفاعات للإسلامين وحلفائهم.
إذ إن حزبًا مثل حركة النهضة لا يملك سوى صحيفة “الفجر” الأسبوعية ناطقة باسمه، وحتى جريدة الضمير المقربة من الحركة تكاد لا تُقرأ إلا من أنصارها والموالين لها وذلك لتحيزها أكثر من الفجر نفسها، كما أن مضمونها السياسي ضعيف حيث إنها فقدت الكثير من بريقها منذ أصبحت يومية، وأصبحت ترتكز في عديد من الأحيان على نقل مقالات الصحفي المصري من جريدة الشروق المصرية أو مقالات صحفيين آخرين.
تلفزيونيًا فشلت النهضة كما فشل حلفاؤها في الولوج إلى البيوت التونسية، فقنوات مثل “المتوسط” و”الزيتونة” و”شبكة تونس الإخبارية” تحظى بنسب مشاهدة ضعيفة جدًا وذلك لعدم تنوع برامجها، وتميزها بالطوباوية وابتعادها عن مخاطبة المواطن التونسي بما يتماشى ومتطلبات المرحلة.
في المقابل استطاعت قناة تلفزيونية واحدة تقوم على ستة برامج تعاد عديد المرات (التونسية سابقًا الحوار التونسي حاليًا) هدم صرح الترويكا الحاكمة لقربها من مشاغل المواطن بسيطًا كان أو مثقفًا ثم لكون التكرار قد يضمن لها مشاهدة واسعة ومن مختلف شرائح المجتمع التونسي، إلى جانب أسلوبها الذي يمتاز بالبساطة والسلاسة في إيصال المعلومة.
كما أن للمحطات الإذاعية تأثيرًا كبيرًا فلا يكاد المواطن التونسي يركب وسيلة نقل من دون أن يستمع لإذاعة “موزاييك ف. م” أو “شمس ف. م” اللتين كانتا مملوكتين لأصهار الرئيس السابق، وعملتا بكل جهد للإيقاع بحكم الترويكا وإبرازها في ثوب العاجز عن تسيير دواليب الدولة، وطبعًا لأن أغلب العاملين بهذه الإذاعات وردت أسماؤهم والحوافز التي نالوها في الكتاب الأسود الذي أصدرته رئاسة الجمهورية ضدهم والذي يتحدث عن المنظومة الإعلامية لنظام بن علي.
أما حليفي حركة النهضة فلا سلاح إعلامي لهما، فالمؤتمر حزب بلا أموال لا يملك إلا موقعًا إلكترونيًا يتيمًا وغير محيّن هو “موقع عيون” يكثر فيه التشدق بالثورية وكيل الشتائم للتجمعيين وهو أبعد ما يكون عن الإعلام بل هو أقرب لمدونة جماعية تتكاتف فيها أقلام من يكتوبون، من جهته اندثر حزب التكتل إعلاميًا بعد إغلاق جريدة “مواطنون” لسان حاله بسبب عدم القدرة على تمويلها.
وأمام عجز الترويكا على حسن استغلال الكتاب الأسود وعدم التسويق له بالشكل اللازم، حيث تم تسريبه إلكترونيًا، وأمام ارتفاع منسوب كره المنظومة الإعلامية القديمة على القادمين الجدد للسلطة جراء كشف تمعشهم من فتات ما كان يلقيه إليهم النظام السابق، وفي غياب ترسانة مالية تمول الإعلام النزيه وتبرز إنجازات ثالوث الحكم الذي استطاع وضع البلاد على سكة الديمقراطية، وجد نداء تونس الطريق معبدًا لاستغلال نفس الغاضبين على حكم الترويكا وتوظيفهم للتسويق له وسط وعود بطمس ملفات تواطؤهم مع النظام النوفمبري.