في سياق حملته على القضاة والمجلس الأعلى للقضاء، قال الرئيس التونسي قيس سعيد قبل أيام، إن البلاد بحاجة إلى تطهير، مشيرًا إلى تطهيرها من الفاسدين في كل القطاعات بما فيها القضاء، لكن هذا المصطلح الجديد الذي استعمله سعيد مؤخرًا أثار مخاوف التونسيين خاصة معارضيه السياسيين، فعادة ما يستعمل هذا المصطلح في سياق تصفية انتقامية من أعلام الأنظمة الديكتاتورية، لإزاحة كل المعارضين السياسيين أو أشباههم، من طريق الحاكم الواحد الذي جمع كل السلطات بيده، فهو الخصم والحكم والجلاد في آن واحد.
ما جعل اليوم الكثير من التونسيين، يتوقعون أن آلة حصاد الانقلاب، لن تتوقف بعد إتيانها على هيئات واستبعاد أخرى، ومنهم من ينتظر، نحو مزيد من تجريف المنجز الديمقراطي وتحويل وجهة المسار الانتقالي.
حل هيئات ديمقراطية
بات من الخشية اليوم أن رئيس الجمهورية قيس سعيد، وقد أخذ زمام الأمور وحول وجهة الديمقراطية التونسية وأظهر للعلن مؤشرات الديكتاتورية والاستبداد، يمضي إلى أبعد من حل المجلس الأعلى للقضاء، فالرجل حسب منتقديه ومعارضيه السياسيين، وحتى سلك القضاة مؤخرًا، يسعى إلى مزيد من إحكام قبضته على السلطة وتحجيم كل القوى المنافسة والمعارضة له، مما قد يستفيد من صمت المؤسسات الدستورية، بدفعه إلى المضي قُدمًا في حملته ضد كل من يمثل حجر عثرة، في طريق تكريس سلطة الرجل الواحد.
فبعد “حل” البرلمان نظريًا (لأن حله يتطلب دستوريًا إجراء انتخابات مبكرة) أو تجميد اختصاصاته وحل حكومة المشيشي وترؤسه للسلطتين التشريعية والتنفيذية وإعلان التدابير الاستثنائية لإدارة البلاد عبر المراسيم الرئاسية، شن الرئيس وأنصاره على مواقع التواصل الاجتماعي، حملة متدرجة ضد القضاء ممثلًا في المجلس الأعلى للقضاء وعدد من القضاة ممن أبدوا مخالفته في بعض الإجراءات التي يريد سعيد تنفيذها على الأرض، وعلى رأسها قانون المصالحة الجزائية، الذي يعد من أهم برامجه السياسية منذ ما قبل انتخابه رئيسًا للجمهورية.
الأمر الذي دفع سعيد إلى اتخاذ قرار حل مجلس القضاء وتعويضه بمجلس مؤقت، في انتظار سن مراسيم ينظم بمقتضاها الشأن القضائي، بما يراه مناسبًا، كقطاع عمومي وظيفي في الدولة وليس سلطة مستقلة الذات وقائمة الشأن.
قبل ذلك ألغى سعيد الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية القوانين، كما أغلق مقر هيئة مكافحة الفساد وانتزع كل ملفاتها من أجل الاستعانة بها في الحرب المزعومة والمعلنة ضد الفساد والفاسدين، وهو ما يتعارض مع قانون الهيئة الوطنية التي سبق أن أقال رئيسها العميد شوقي الطبيب ووضعه قيد الإقامة الجبرية.
استبعاد هيئة الانتخابات
هذه السوابق الرئاسية، جعلت كثيرين اليوم، متخوفين من الانتقال إلى الهيئة العليا المستقلة للانتخابات التي سبق أن انتقدها الرئيس سعيد، ودار بينه وبين رئيسها وأعضائها سجال إعلامي، خاصة عقب استبعادها من الاستشارة الإلكترونية التي أطلقها قيس سعيد، مع بداية العام الحاليّ.
لذلك عبرت “شبكة مراقبون” مؤخرًا عن تخوفها من إقدام الرئيس على حل هيئة الانتخابات، لا سيما أن أحاديث سابقة من أوساطه، كانت قد أشارت إلى أن من بين برامج الرئيس حل هيئة الانتخابات وإلحاق العملية الانتخابية بوزارة الداخلية، منبهة في نفس الوقت من تنظيم سعيد لاستفتائه المعلن، خارج القانون الانتخابي الحاليّ.
وبالتالي العودة إلى سيناريوهات ما قبل الثورة في زمن بن علي، حيث كانت تُزور الانتخابات لفائدة الرئيس في كل المحطات، خاصة وقد عارض رئيس الهيئة نبيل بوفون، منذ بداية الانقلاب، ما قام به قيس سعيد واعتبره خروجًا عن مقتضى الدستور والفصل 80 منه.
هذا التجريف الرئاسي الشامل للهيئات المستقلة، بات يدركه القاصي والداني، وقد صرح القيادي في حزب التيار الديمقراطي نبيل حجي، قبل يومين، باعتزام سعيد حل هيئة الانتخابات وتأجيل الاستفتاء والعملية الانتخابية التشريعية، التي سبق أن أعلنها في شهر ديسمبر/كانون الأول الماضي.
ولعل في ذلك إشارة، بل اتهام صريح لقيس سعيد، بالعمل من أجل استطالة الفترة الحاليّة والهروب من الانتخابات إلى حين استقرار الأمر له، أضف إلى ذلك تصريح عضو هيئة الانتخابات فاروق بوعسكر، مستهل شهر يناير/كانون الثاني الماضي، عندما حذر من خطورة “قبول التونسيين بإشراف وزارة الداخلية على الانتخابات، فعلى الدنيا السلام”.
وبالتالي لسائل أن يسأل كيف يمكن تصديق نتائج الاستشارة الإلكترونية، والحال أن انتخابات مباشرة، رغم المراقبين من الداخل والخارح، لم تسلم من تهم “الجرائم الانتخابية”، ناهيك بمسألة المصداقية والنزاهة، هذا دون الخوض في تركيبة اللجنة المشرفة على الانتخابات وأشخاصها وولاءاتهم.
هيئات أمام خطر داهم
بيد أنه ليست هيئة الانتخابات فقط، من نالتها سهام الرئيس التونسي وأنصاره، تلميحًا إلى إمكانية حلها واتخاذ إجراءات ضدها، نزولًا عند رغبة الشعب والجماهير، فكذلك الهيئة الوطنية للوقاية من التعذيب التي يرأسها فتحي الجراي، محل استهداف وقد تلحقها “صواريخ” قيس سعيد، بسبب نشاطها الأخير ومواقفها من بعض قرارات وإجراءات السلطة الحاكمة اليوم.
وتتمتع الهيئة (وهي هيئة رسمية دستورية مستقلة) بالصفة الرقابية لأماكن احتجاز الموقوفين والمتهمين، ومدى مطابقة ذلك لحقوقهم وضمان عدم تعذيبهم، حيث عاينت خروقات البوليس خلال مظاهرات 14 يناير/كانون الثاني الماضي، وكذلك توجهت للاستفسار عن بعض الشخصيات الذين أخضعتهم السلطة لإجراء الإقامة الجبرية والاحتجاز القسري، دون علم ذويهم من بينهم نور الدين البحيري وفتحي البلدي وغيرهما، كما سبق للهيئة أن تحرت وضعية رئيس الحكومة المقال هشام المشيشي خلال الأيام الأولى من الانقلاب الدستوري.
من غير المستبعد كذلك، أن تكون بعض المنظمات والجمعيات والأحزاب على قائمة “الحل” لدى رئاسة الجمهورية اليوم
هذا إلى جانب تركيبة الهيئة الوطنية للوقاية من التعذيب، حيث تضم أعضاءً معارضين لانقلاب قيس سعيد وللتدابير الاستثنائية، سواء من المحامين أم القضاة أم نشطاء المجتمع المدني، لعل من أهمهم رئيس الهيئة فتحي جراي، وكاتبها العام ضياء الدين مورو نجل المرشح السابق للرئاسية عن حركة النهضة عبد الفتاح مورو.
أيضًا يخشى الكثيرون أن يحل سعيد في قادم الأيام هيئة الاتصال السمعي البصري “الهايكا”، التي تعتبر منتهية الصلاحية أصلًا، بعد أن استنفدت مدتها وتأخر انتخاب التركيبة الجديدة لها في البرلمان المجمدة صلاحياته، على الرغم من أنه استغلها لفائدته مؤخرًا عبر استعمالها من أجل إغلاق القنوات التليفزيونة المعارضة له، وهي الخطوة التي اتخذتها مؤخرًا ضد إحدى القنوات الخاصة لانتقادها بشدة الإجراءات الانقلابية، وأخرى قرارات كيدية وفق مالك القناة الموالية لرئيس حزب، نافس سعيد في الرئاسية الماضية، والهارب حاليًّا من البلاد بسبب ملاحقته من السلطة القائمة.
كما من غير المستبعد كذلك، أن تكون بعض المنظمات والجمعيات والأحزاب على قائمة “الحل” لدى رئاسة الجمهورية اليوم، لا سيما أن الرئيس صرح في العديد من المناسبات أن عهد الأحزاب انتهى، بالتالي قد تجد طريقها للتنفيذ في أي وقت في الأسابيع أو الأشهر القادمة، في ظل مشهد سياسي تونسي متحرك وغير مستقر داخليًا وخارجيًا.