نقلت وسائل الإعلام الأمريكية في منتصف يناير/كانون الثاني 2022، معلومات رسمية عن البيت الأبيض تشير إلى أن الاستخبارات الأمريكية ترجح شن روسيا هجومًا عسكريًا على أوكرانيا خلال 30 يومًا، وتحديدًا يوم 16 فبراير/شباط الحاليّ، دون تقديم أي تفاصيل بشأن تلك المعلومات.
وبعد شهر من هذا التصريح نُقل عن الرئيس الأمريكي وبعض مسؤولي إداراته أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين اتخذ قرار الحرب، لكنه عدل موعد الهجوم، فبعد أن كان في أعقاب الألعاب الأولمبية الشتوية في بكين خشية استفزاز الصين، بات من المحتمل أن يكون قبل انتهاء تلك الدورة.
الكشف عن المعلومات الاستخباراتية الأمريكية بشأن الغزو الروسي المحتمل لأوكرانيا، التي يفترض أن تكون سرية، كان مثار نقاش وجدل كبير لدى الأوساط السياسية، كما أن الإصرار على أن بوتين سيشن حربًا ضد كييف والتأكيد على ذلك مرارًا وتكرارًا زاد من هذا الجدل الذي تحول عند البعض إلى شكوك.
لا يمكن قراءة التسريبات الاستخباراتية الأمريكية في إطار الشفافية التي تسعى واشنطن إلى تبادلها مع أطراف الأزمة، رغم النفي الضمني لموسكو لها واتهام الجانب الأمريكي بالتخطيط لأمر ما، فما دوافع إدارة بايدن من خلال استخدام “إستراتيجية مكبر الصوت” إزاء تلك الأزمة كما تصفها مجلة “شتيرن” الألمانية؟
حرب استخباراتية
تحولت أوكرانيا إلى ساحة حرب استخباراتية واسعة النطاق بين واشنطن وموسكو، حيث يسعى كل طرف لإحراز أكبر قدر من الأهداف في شباك الطرف الآخر، دون أن يكبده ذلك أي خسائر من أي نوع، ولم يجد الطرفان أفضل من السجال الإعلامي والسياسي كلغة حوار متبادلة في تلك المعركة.
الأجواء الجيوسياسية تحقق الأفضلية النسبية للروس في تلك الحرب، فالقرب من ساحة النزاع وسهولة الحشد العسكري في أي وقت والدعم الذي يحصلون عليه من الانفصاليين في كييف وإقليم “دونباس” شرق أوكرانيا، كل هذا يميل لتغليب كفتهم ميدانيًا، مقارنة بالكلفة الكبيرة للأمريكان حال انخراطهم بشكل أكثر عمقًا في تلك الساحة.
ومن ثم وجدت واشنطن في الحرب الاستخباراتية البديل الأسهل للتعامل مع التفوق الروسي في المراحل التمهيدية للأزمة الأوكرانية، فمارست العديد من أنواع الضغط السياسي والإعلامي، بالتلويح بورقة شن موسكو حربًا ضد كييف، وهي الورقة التي تضع بوتين في موقف حرج عالميًا.
باتت موسكو في موقف صعب إزاء العزف المتكرر على هذا الوتر، ففي حال شن غزو عسكري ضد أوكرانيا فستصدق الرواية الأمريكية ويثبت جدارة جهازها الاستخباراتي، الأمر الذي قد يترتب عليه تحالف دولي قوي خلف أمريكا في مواجهة روسيا، وفي حال التراجع بشكل مباشر وكامل فربما يفسر ذلك على أنه انتصار أمريكي وهزيمة روسية، وهو ما لا يقبله بوتين.
وفي ضوء تلك المعادلة المعقدة حاول الرئيس الروسي التعامل مع نظيره الأمريكي عبر الأدوات ذاتها، من خلال تسريب بعض الأنباء والمعلومات عن التزام موسكو بالتهدئة والميل نحو الحل الدبلوماسي، على شاكلة خبر انسحاب القوات الروسية من أوكرانيا دون اتخاذ خطوات جادة، في محاولة لتبريد حالة الاحتقان الدولي التي غزتها واشنطن بتخوفاتها المستمرة، وفي الجهة المقابلة ممارسة نوع من الضغط في الإطار ذاته كتصويت مجلس الدوما (النواب) الروسي، الثلاثاء 15 فبراير/شباط 2022، للاعتراف بمنطقتَي دونيتسك ولوهانسك، شرق أوكرانيا كـ”جمهوريتَين مستقلتَين”، ما يمكن قراءته على أنه تمهيد لضمهما على غرار القرم عام 2014.
ماذا تريد الولايات المتحدة؟
السؤال الذي بدأ يفرض نفسه مع موجة الأخبار والتصريحات والتسريبات الأمريكية بشأن الغزو القريب والمحتمل لأوكرانيا من الروس: ماذا تريد واشنطن من وراء تلك الإستراتيجية؟ وهل بالفعل هناك معلومات استخباراتية بوجود هجوم خلال الأيام القادمة أم أن ما يحدث يندرج تحت عنوان أكبر وهو الضغط على الروس لإثنائهم عن أي تفكير في الإقدام على هجوم ضد كييف في أي وقت؟
أستاذ السياسة الدولية الروسية، نينا خروشيفا، ترى أن موسكو ليس لديها أي سبب قوي لشن حرب ضد أوكرانيا، لافتة أنها لو أقدمت على ذلك سيكون “جنونًا”، معتقدة أن ما يحدث ليس إلا حملة أمريكية تستهدف إثارة القلق في تلك المنطقة تمهيدًا للتدخل، على غرار الغزو العراقي في 2003 حتى قادت الولايات المتحدة العالم إلى الاعتقاد بأن صدام حسين كان يمتلك أسلحة دمار شامل، ما يستوجب التصدي له عبر استهدافه وشن هجوم ضد بلاده.
وخلال حوار لها مع مجلة “شتيرن” الألمانية، استعرضت خروشيفا الدوافع الإستراتيجية الأمريكية من وراء هذا التصعيد المعلوماتي الإعلامي الاستخباراتي ضد موسكو، منوهة أن واشنطن لم تنس بعد احتلال الروس لشبه جزيرة القرم في 2014، معتبرة أن ذلك كان بمثابة “إذلال” للأمريكان وقتها، ويتطلب الانتقام اليوم عبر توريط الروس في فخ أوكرانيا ليكونوا هدفًا سهلًا للتحالف العالمي.
كما أن إدارة بايدن تسعى لتجميل صورتها التي تأثرت مع الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، الذي قوبل بانتقادات حادة من الشارع الأمريكي الذي اعتبر بلاده خرجت مهزومة من تلك الحرب بعد ترك كابول لحركة “طالبان”، وعليه تجد الإدارة الديمقراطية الأمريكية في الملف الأوكراني فرصةً لتقديم نفسها في صورة جديدة، بصفتها الداعم للشعب الأوكراني والمناهض للتحركات الروسية، هكذا ترى خروشيفا.
وتعتقد الباحثة الروسية أن بايدن يسعى قدر الإمكان لـ”تركيع” بوتين، وذلك عبر عدد من أوراق الضغط، منها تسميم سكريبال والهجوم على المعارض نافالني، وآخرها توريطه في المستنقع الأوكراني الذي إن ولج فيه سيكون المسمار الأول في نعشه السياسي، داخليًا وخارجيًا.
وخلص الحوار إلى أن كل الضغوط التي تمارسها الولايات المتحدة لإقناع العالم أن موسكو على أبواب كييف، محاولة لخلق “صدام حسين” جديد في روسيا، ما يتطلب حشد المجتمع الدولي ودعم أوروبا وحلفائها للرغبة الأمريكية في الانتقام من بوتين في إطار حرب النفوذ بين القطبين.
ليس الحمل الوديع.. ماذا عن بوتين؟
وفي المقابل يبدو أن بوتين – رغم استنكار الموقف الأمريكي – سعيد بحالة احتباس الأنفاس التي تخيم على المجتمع الدولي الأيام الماضية، وأجواء الترقب التي تفرض نفسها على الجميع في انتظار الرصاصة الأولى التي على بعد دقائق معدودة بحسب الرواية الأمريكية، إذ يجد في تلك الأرضية البيئة الخصبة لتحقيق الأهداف التي يسعى لتحقيقها من وراء التجييش العسكري على الحدود الأوكرانية.
تحت عنوان “لماذا قد لا يهاجم بوتين أوكرانيا، لكنه سيخرج منتصرًا” استعرض الكاتب يورجن أورستروم مولر في تحليله المنشور بموقع “Responsible Statecraft” أبرز الأهداف التي يحاول الرئيس الروسي تحقيقها من خلال المحطة الحاليّة في الأزمة الأوكرانية، أو على الأقل أكبر قدر منها.
مولر يرى أن هناك 3 أهداف إستراتيجية روسية رئيسية في هذا الملف: أولها إعادة الاعتبار للدولة الروسية كقوة يجب على الأمريكان أن يعملوا لها ألف حساب، في محاولة لإحياء نفوذ الاتحاد السوفييتي القديم، وهو ما حاول أن يرسخه من خلال التعاطي مع بعض الملفات منها التدخل في سوريا وكازاخستان، والنفوذ النسبي في الملف الليبي وربما اليمني.
أما الهدف الثاني فيتعلق بإثبات إمكانية موسكو في ممارسة نفوذ كبير على أوروبا، لا سيما في إمدادات الطاقة وكيانها المؤثر في إشباع الاحتياجات الأوروبية المتصاعدة من الغاز، إذ يلبي الغاز الروسي قرابة ثلث ما يحتاجه الأوروبيون، وهو ما يجعلها رقمًا صعبًا يصعب تجاهله في خريطة سوق الطاقة العالمي رغم الضغوط والتحديات الغربية لتقليم أظافرها في هذا الشأن.
وأخيرًا يأتي الهدف الثالث الذي يبدو أنه أقرب إلى رسالة يحاول بوتين توصيلها لأوروبا والغرب عمومًا بأن بلاده قادرة على اللعب في الملف الأوكراني، كيفما شاءت، لدرجة استهداف العاصمة كييف ذاتها، في الوقت الذي تريده، وهي الرسالة التي ربما يكون لها صداها مستقبلًا في إجبار الأوكرانيين على التبعية للروس والميل للكرملين بمسافات أقرب من تلك التي تقطعها مع الغرب.
وهكذا تحولت الورقة الأوكرانية إلى ساحة نفوذ عالمية، وبعيدًا عن الشعارات التي يرفعها طرفا النزاع، سواء حماية الأقليات والدفاع عن الأمن القومي روسيًا أم الدفاع عن استقلال كييف وسيادة الدولة الأوكرانية أمريكيًا، يبقى الملف برمته معركة نفوذ جانبية بين موسكو وواشنطن، فيما يحبس الأوكرانيون أنفاسهم في انتظار من سيطلق الرصاصة الأولى.