لم تكن صورة الشباب التركي الذي توافد إلى ميدان تقسيم في إسطنبول ليل 15 يوليو/ تموز 2016، استجابةً لدعوة الرئيس رجب طيب أردوغان في مواجهة دبابات الانقلاب الفاشل، وعدم مراوحة أماكنهم حتى سقوط المخطَّط؛ سوى انعكاس منطقي وعملي على مستوى الوعي الذي وصل إليه شباب تركيا في السنوات الماضية.
غير أن تلك الصورة لا تعكس ديمومة الفاعلية السياسية للشباب التركي بصفة عامة، والذي يعاني من أزمات حادة على معظم المستويات أبعدته نسبيًّا عن ساحة التأثير والتأثُّر السياسية تحديدًا، بينما وجدَ نفسه أكثر في بوتقة العمل الاجتماعي والأهلي بحسب شهادة الكثير منهم.
وفي الوقت الذي يتجاوز فيه الشباب حاجز الـ 13 مليونًا، بما نسبته 16.4% من إجمالي عدد السكان، يلاحَظ غيابه النوعي عن الخارطة السياسية التركية في السنوات الأخيرة، وهو التناقض الذي استفاقت بشأنه القوى السياسية مؤخرًا، لتبدأ استراتيجية جديدة نحو استقطاب هذه الشريحة المؤثرة في إطار الاستعداد للانتخابات القادمة 2023، علمًا أنها تشكّل ما يزيد عن 22% ممّن لهم حقّ التصويت في البلاد.
غالبية من الشباب، ولكن…
بحسب الإحصاءات الرسمية، يتربّع الشباب وصغار السن على الخارطة الديموغرافية لتركيا، إذ تشكّل الفئة العمرية 0-14عامًا ما نسبته 26% من عدد السكان، أما فئة 15-64 عامًا فتشكّل 67% متصدرة المشهد بفارق كبير عن الفئة التي تليها ممّا يزيد أعمارهم عن 65 عامًا، والتي تشكّل 7% من الأتراك.
من المتوقع أن تحافظ تلك الخارطة على تقسيماتها العمرية خلال السنوات القادمة، إذ إنه من المتوقع أن يصل عدد السكان في البلاد بنهاية هذا العام إلى 85.7 مليون مواطن، مقارنة بـ 84.34 مليون خلال عام 2021، بزيادة قدرها 1.4 مليون، لكنّ هناك أزمة ربما تواجه المجتمع التركي مستقبلًا إذا استمرَّ الوضع على ما هو عليه اقتصاديًّا على وجه التحديد.
لا يتجاوز معدل النمو السكان الحالي الـ 1.09% وهنا مكمن الخطورة، إذ إنه في حال استمرار هذا المعدل على هذا النحو، فمن المتوقع أن ترتفع نسبة كبار السن خلال العقود القادمة، ما سيشكّل كارثة ستضع اقتصاد ومستقبل تركيا على المحكّ، وهو ما فطنت إليه الحكومة التركية حين شجّعت على زيادة نسبة المواليد، وحفّزت على ذلك عبر حزمة من المغريات.
لكن على الأقل خلال العقد القادم سيظل الشباب على قائمة الفئات الأكثر عددًا، غير أن هذا العدد وتلك النسبة الكبيرة لا يعكسان حضورهما السياسي والمجتمعي، مع الأخذ بعين الاعتبار التطور الكبير في أدوات قراءة العقل الشبابي خلال السنوات الأخيرة، والتي شهدت طفرة تكنولوجية هائلة.
واقع مشتَّت
من سوء حظ هذا الجيل، الذي نشأ مع بداية التجربة الأردوغانية، تزامنه مع حزمة من الأزمات والتحديات التي واجهت العالم بأكمله، ومن بينها بطبيعة الحال تركيا، فإذ به يصطدم بكثير من الأزمات الاقتصادية والمعيشية، رغم انبهاره بالتجربة ذاتها التي مثّلت له مرحلة فاصلة للتخلُّص من إرث الفساد المثقل والتحول نحو المسار الديمقراطي.
وكعادة معظم الشباب، تتصدّر الوضعية المعيشية قائمة أولويات شباب الأتراك، بل إن البعض يضع هذا الملف كمعيار وحيد لتقييم نجاح نظام من عدمه، وربما لا يعي كثير منهم قائمة التحديات التي ربما تعرقل الاقتصاد وتعثِّره بين الحين والآخر، والتي ربما لا يكون للحكومة فيها دخل مباشر.
تعرضت تركيا في السنوات القليلة الماضية لهزات اقتصادية كبيرة، بعضها نتيجة سياسات خاطئة والأخرى جرّاء مؤامرات ومخططات إقليمية ودولية، تعززت أكثر مع جائحة كورونا وأسفرت عن تراجع واضح في المستوى المعيشي للمواطن التركي، إذ ارتفعت نسبة البطالة بين الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و25 عامًا إلى 20%، وفقًا لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية.
يرى الخبير الاقتصادي التركي، مراد كوبيلاي، أن انخفاض معدلات الأمان الوظيفي لدى الشباب التركي تتصدر قائمة الأزمات والتحديات التي تواجههم، إذ إن واحدًا من كل 5 طلاب جامعيين لا يجد عملًا، وعليه يعدّ هذا سببًا مباشرًا إن لم يكن الأكثر حضورًا وراء عزوفهم عن المشاركة السياسية والانخراط في النشاط السياسي.
وعي مرحلي
تعدّ تركيا واحدة من أعلى دول العالم في نسب المشاركة في الانتخابات والاستفتاءات، فمنذ أول انتخابات جرت في البلاد بعد تأسيس الدولة عام 1950 وحتى الانتخابات الأخيرة، تراوحت نسبة الاقتراع بين 64% و93% تقريبًا، وفي غالبية الجولات الانتخابية الأخيرة فاقت نسبة المشاركة الـ 80%، بحسب إحصاء المعهد الدولي للديمقراطية والانتخابات (IDEA).
هذه النسبة المرتفعة يفترض أنها تعكس إرادة ملحوظة للشباب التركي في المشاركة في الاستحقاقات الانتخابية المختلفة، ولعلّ ما يؤكد ذلك الإقبال التاريخي على الاستفتاء الذي أُجري على الدستور في أبريل/نيسان 2017، حيث تجاوزت نسبة المشاركة 85% (49.7 مليون ناخب صوّتوا من إجمالي 58.2 مليون لهم حقّ التصويت).
لكن وفق الشواهد والتقارير الصادرة عن مراكز دراسات الرأي العام، فإن تلك المشاركة تعكس تنامي الوعي لدى الشباب الذي وجدَ في المشاركة في هذا الاستفتاء ضرورة قومية، لوأد أي مخطط خارجي للانقلاب على الديمقراطية في البلاد والعودة إلى عصور الظلام، ما يعني أنها استجابة مؤقتة لمرحلة استثنائية فرضتها ظروف وتحديات حرجة.
في فخّ التناقضات
أجرى موقع “الجزيرة” عام 2017 مقابلات مع 6 شباب أتراك ذوي خلفيات أيديولوجية وسياسية مختلفة، ينتمي بعضهم إلى العدالة والتنمية وينتمي آخرون إلى حزب السعادة وتيار ثالث مستقلّ يمثل الشباب غير المنضوي تحت لواءات حزبية، في محاولة للوقوف على واقع الشباب في البلد الذي تحول في السنوات الأخيرة إلى قبلة شباب العالم.
عكست الإجابات في معظمها حالة التناقض التي تخيّم على العقلية الشبابية في البلاد، إذ ذهب البعض إلى وقوع الشباب، لا سيما طلاب الجامعات، في مستنقع الاستقطاب الحزبي بين اليمين واليسار والعلمانيين والمحافظين، وأنهم فقدوا تأثيرهم في الحياة السياسية نتيجة هذا السقوط الذي أفقدهم الكثير من قدراتهم الإبداعية، التي تجمّدت داخل ثلاجات الأحزاب التقليدية.
مروة سريرة، عضو فرع الشباب في لجنة العلاقات الخارجية بحزب العدالة والتنمية، كشفت في المقابلة أن “الأحزاب السياسية لا تمنح الشباب الفعالية المطلوبة”، مرجعة ذلك إلى سيطرة “الجيل الأكبر” على القرارات الفوقية لتلك الكيانات، ما يلغي دور الشباب بصورة تامة، وعليه كان التحول أكثر نحو الدور الإنساني والاجتماعي عبر منظمات وهيئات غير حكومية.
واتفق الشباب الست الذين أُجريت معهم المقابلة، رغم اختلاف هويتهم الثقافية والسياسية، على 3 نقاط رئيسية، الأولى تتعلق بأهمية دورهم وضرورة إحيائه وتعزيزه بشتى السبل؛ الثانية هي غياب هذا الدور، والذي أرجعوه إلى الحضور الطاغي لجيل الكبار وتفشّي سياسات الاستقطاب الراهنة؛ أما الثالثة فكانت التأكيد على تمسُّكهم بالبقاء في بلادهم رغم تلك التحديات، والتشبُّث بالأمل، مهما كان ضعيفًا، في أن يكون المستقبل أكثر إشراقًا لهم.
العزوف السياسي.. ما الأسباب؟
في بحث جاء تحت عنوان “الشباب والسياسة في تركيا… ما المستقبل“، والمنشور في “المجلة التركية للعلوم السياسية” في عددها الصادر في يناير/ كانون الثاني 2021، حاول الباحث التركي كان أكمان تقديم تفسير علمي أكاديمي لأسباب عزوف الشباب التركي عن العمل السياسي رغم نفوذهم العددي.
توصّل الباحث، من خلال عدد من الدراسات والأبحاث التي تمّت على الشباب التركي خلال السنوات الأخيرة لاستطلاع وتقييم العلاقة بينهم وبين العمل السياسي، إلى عدد من المسبِّبات الرئيسية التي كانت وراء تلك الفجوة، من بينها الثغرات التشريعية المعرقلة للممارسة الشبابية للسياسة مثل ارتفاع سنّ الترشح، وهي المسألة التي تمّت مراعاتها في التعديلات الدستورية الأخيرة، حيث تمَّ خفض سن الترشُّح لخوض الانتخابات العامة من 25 عامًا إلى 18 عامًا، كما رُفع عدد نواب البرلمان من 550 إلى 600 لتوسيع المشاركة الشعبية.
فقدان ثقة الشباب في السياسة بصفة عامة، ومدى تأثيرها على تغيير الواقع الاجتماعي والاقتصادي، كان من الأسباب المهمة وراء الابتعاد النسبي عن المشاركة السياسية، هذا بجانب اللوائح الحزبية المعقدة والمعرقلة لطموحات الشباب، الذي أدرك أنه لا يستطيع تولّي منصب فاعل في الأحزاب السياسية في سن صغير في ظل الهيمنة الكبيرة للعجائز.
غياب دور المجتمع المدني وإهمال العنصر الشبابي ضمن رادار المنظمات والكيانات ذات الشأن المجتمعي، زادا من معدلات الإحباط من مبدأ المشاركة بصفة عامة، ومن بينها المشاركة السياسية، حيث تنامى شعور العزلة والتهميش لدى قطاع كبير من الشباب.
وفي نهاية الدراسة، حاول أكمان تقديم روشتة عاجلة لتحفيز الشباب على العمل السياسي، منها مراعاة التطورات العصرية والتغيُّر الفكري اللذين أرستهما التكنولوجيا في التعامل مع الشباب بأدواتهم هم وليس بالأدوات التقليدية، كذلك إعادة النظر في القوانين الحالية بما يشجّع الشباب على العمل السياسي والانخراط المجتمعي أكثر ممّا هو عليه الآن، وفي الأخير ضرورة إزالة الحواجز التي تحول دون المشاركة في السياسة.
الشباب وتغيير موازين القوى
الكتلة التصويتية الكبيرة للشباب، والتحديات الجسام التي تواجه القوى السياسية المتنافسة، جعلتا من هذه الشريحة هدفًا رئيسيًّا لقطبَي التحالفات في البلاد، بهدف استقطاب أكبر عدد منهم لتوسيع القاعدة الشعبية قبيل الماراثون الانتخابي العام المقبل، وعليه بدأت حمّى السباق مبكرًا.
بدأ حزب العدالة والتنمية وتحالفه السياسي “الجمهور” خطوات مغازلة الشباب بصورة رسمية، عبر حزمة من اللقاءات والندوات والمؤتمرات الشبابية المكثَّفة خلال الآونة الأخيرة، على رأسها “مهرجان الشباب للإدارات المحلية” الذي شارك فيه الرئيس رجب طيب أردوغان.
حرص أردوغان في كلمته خلال المهرجان على التأكيد على أهمية الشباب كورقة انتخابية قوية، لافتًا إلى أن انتخابات 2023 الرئاسية والبرلمانية ستشهد 6 ملايين شابّ لهم حق التصويت لأول مرة، وأضاف: “نحن بلد نرى أن ميزة وقوة تركيا الكبرى في أطفالها وشبابها، فمن الأهمية بمكان أن نحو ثلث عدد سكاننا يشكّله الأطفال والشباب، في وقت بدأت فيه أوروبا وأمريكا وآسيا بشكل سريع بالشيخوخة”، مؤكدًا في الوقت ذاته على أن الحكومة تعمل جاهدة من أجل إعداد الشباب للمستقبل، من خلال الاهتمام بمجالات تنمية مهاراتهم وصحتهم وتعليمهم.
وفي الجهة المقابلة، تحاول المعارضة توظيف ملف الشباب لخدمة أجندتها السياسية، بما يسحب البساط من تحت أقدام العدالة والتنمية، عبر خطاب استقطابي ربما لا يتورّع عن التزام الميكافيللية لأجل تحقيق انتصار سياسي، مركّزة على الأزمات التي يواجهها الشباب وارتفاع معدلات البطالة وعلى ما يدفعهم إلى الهجرة.
يلمّح رئيس حزب الشعب الجمهوري (الضلع الأبرز في تحالف “الأمة” المعارض)، كمال كليتشدار أوغلو، إلى وضع أزمات الشباب وهمومهم تحت مجهر الاهتمام والرعاية، لافتًا في تصريح له، في نوفمبر/ تشرين الثاني 2021، أن كثيرًا من الشباب يسعى للبحث عن مستقبلهم بالخارج بسبب عدم قدرتهم على الحصول على الفرص المناسبة في الداخل، مستنكرًا عدم اهتمام الحكومة بالشباب الموهوب في جميع المجالات.
تذهب كافة المؤشرات إلى أن الاقتراب من واقع الشباب أكثر فأكثر، وفتح قنوات اتصال وتواصل معهم، والتعرُّف إلى خارطة اهتماماتهم واتجاهاتهم، الخطوة الأولى نحو الاستفادة من ثروة الشباب المهملة، والتي عانت طويلًا من التهميش والتسطيح لصالح حسابات وأيديولوجيات متباينة.
يعوِّل تيار كبير من المعارضة على فشل الحكومة في احتواء الشباب، لدفعهم للارتماء في أحضان تحالف “الأمة” كردِّ فعل على رفضهم لسياسات النظام وحلفه، ما يعزِّز قاعدتها الشعبية ويساعدها في تحقيق أكبر قدر ممكن من المكاسب خلال الجولة القادمة من الانتخابات.
لكن يبدو أن هذا التيار لا يراعي التركيبة السوسيولوجية المعقدة للعقلية التركية، والتي تلتزم بسياسة النَّفَس الطويل، وتتجنّب قدر الإمكان ردود الفعل المتسرِّعة، حيث لا يعني الاعتراض على الحكومة الانتقالَ إلى الفريق المعارض بتلك السرعة، فالتعبير عن الاختلافات السياسية مع النظام تكون عبر عدة أدوات، آخرها وأصعبها الانضمام للمعارضة بغمضة عين، إذ إن تلك الرؤية تعاني من اختزالية غير موضوعية.
تذهب كافة المؤشرات إلى أن الاقتراب من واقع الشباب أكثر فأكثر، وفتح قنوات اتصال وتواصل معهم، والتعرُّف إلى خارطة اهتماماتهم واتجاهاتهم، الخطوة الأولى نحو الاستفادة من ثروة الشباب المهملة، والتي عانت طويلًا من التهميش والتسطيح لصالح حسابات وأيديولوجيات متباينة.
في ضوء ما سبق، ووفق المعطيات الراهنة، بات من الأهمية بمكان إعادة النظر في التعاطي مع الشباب، بصفتهم مستقبل البلاد وأملها الوحيد، وليس ككتلة تصويتية ترجِّح كفة تيار في مواجهة آخر.
ستشهد العقود الثلاثة القادمة طفرة كبيرة في أعداد العجائز في ظلّ معدلات النمو السكاني الراهنة، ما يجعل التعويل على الشباب لقيادة المرحلة المقبلة هدفًا استراتيجيًّا يجب أن يُوضع تحت دائرة الضوء.