نشرت صحيفتا “ذي غادريان” البريطانية و“نيويورك تايمز” الأمريكية ووسائل إعلام دولية عديدة أخرى، الأحد 20 فبراير/ شباط 2022، تحقيقات مبنية على تسريبات بنكية لعشرات الآلاف من عملاء بنك “كريدي سويس”، ثاني أكبر البنوك في سويسرا، وقالتا إن صحيفة “زود دويتشه تسايتونغ” الألمانية قد حصلت على الوثائق عبر البريد الإلكتروني من مُرسِل مجهول، وتُظهر البيانات أن البنك قبِلَ “قادة مستبدين ومفسدين” من عدة بلدان حول العالم بينها عربية، فيما رفض البنك الاتهامات الموجَّهة إليه.
شملت التسريبات حسابات 30 ألف عميل من عملاء البنك أودعوا أكثر من 100 مليار فرنك سويسري (108 مليارات دولار) في البنك، يتخللهم قادة ومسؤولون مستبدّون وفاسدون وضالعون في جرائم حقوقية، فيما كشفت الصحيفتان أن البيانات المسرَّبة تشير إلى قصور كبير من قبل إدارة البنك في مراجعة ملفات عملائها بالشكل المطلوب، ما سمح لبعض الفاسدين بإيداع أموالهم المشكوك في سلامة مصادرها في خزينة إحدى أكبر المؤسسات المالية في العالم، وذلك رغم التعهُّد قبل عقدَين تقريبًا باتّخاذ إجراءات صارمة ضد الأموال غير المشروعة.
المتحدثة باسم البنك السويسري، كانديس صن، في أول تعليق لها على تلك التسريبات، رفضت ما وصفته بـ”المزاعم والاستنتاجات حول الممارسات التجارية المزعومة للبنك”، لافتة في بيان لها إلى أن العديد من الحسابات الواردة في التسريب تعود إلى عقود من الزمن، إلى “وقت كانت فيه قوانين وممارسات وتوقعات المؤسسات المالية مختلفة تمامًا عمّا هي عليه الآن”.
يُذكر أن هذه ليست المرة الأولى التي يواجه فيها “كريدي سويس” فضائح مالية، ففي أكتوبر/ تشرين الأول 2021 فرضت السلطات الأمريكية والبريطانية على البنك غرامات بقيمة 475 مليون دولار، بسبب منحه القروض لمؤسسات عامة في موزمبيق متورِّطة في قضية فساد.
وفي مارس/ آذار الماضي تعرّض البنك لهزّة عنيفة بإعلان شركة “غرينسيل” المالية، التي استثمرت فيه حوالي 10 مليارات دولار، إفلاسها، وفي 7 فبراير/ شباط الماضي ذكر موقع مجلة “فوربس” أن البنك ذا السمعة الكبيرة يواجه اتهامات في محكمة سويسرية بالسماح لعصابة تهريب مخدرات بلغارية بغسل ملايين الدولارات.
وتشمل البيانات المسرَّبة أسماء الكثير من المشاهير في عالم السياسة والاقتصاد من شتى دول العالم، على رأسهم ملوك ورؤساء وأبناء ملوك وأصهار زعماء ورجال أعمال ومخابرات عرب، وهو ما سيتمُّ التركيز عليه في هذا التقرير للوقوف على حجم الفساد الذي خيّم على أرجاء الكثير من الأنظمة العربية قبيل وأثناء الربيع العربي، وكيف هرب هؤلاء بأموال شعوبهم لإيداعها في الخارج بينما يقبع الملايين من أبناء أوطانهم في مستنقعات الفقر والجوع.
افتضاح الفساد السياسي العربي
لا يمكن قراءة تلك التسريبات بمعزل عن الموجة التي بدأت عام 2016، والتي عُرفت بـ”أوراق بنما” التي حوَت 11.5 مليون وثيقة وتتعلق بالملاذات الضريبية المغرية للساسة ورجال الأعمال، تلتها “أوراق الجنة” التي سُرِّبت للإعلام في 5 نوفمبر/ تشرين الثاني من عام 2017، ويصل عددها إلى 13.4 مليون وثيقة متعلِّقة بالاستثمارية الخارجية وفضائح كبار الساسة في العالم، وأخيرًا “أوراق باندورا” العام الماضي التي كشفت الحسابات السرّية الخارجية لأكثر من 35 من الرؤساء وكبار الساسة ورجال المال، بالإضافة إلى حسابات 100 ملياردير وشخصية شهيرة.
واجتمعت التسريبات الأربعة (بنما والجنة وباندورا وكريدي سويس) على محور واحد، يتعلّق باستغلال العديد من رموز الأنظمة السياسية الفاسدة لصلاحياتهم ومناصبهم لنهب أموال شعوبهم وإيداعها في حسابات سرّية لهم بالخارج، تحسُّبًا لأي عارض مستقبلًا، علمًا أن البلدان التي ينتمي إليها أغلبية هؤلاء الفاسدين تعاني شعوبها من أوضاع معيشية غاية في الصعوبة.
كشفت تسريبات البنك السويسري الآنية، وبشكل شبه كامل، حجم الفساد المتفّشي في المطبخ السياسي للكثير من بلدان العرب، من خلال الإجابة عن التساؤلات حول كيفية تورُّط شخصيات ورموز مرتبطة بأنظمة الأردن ومصر وليبيا وسوريا والجزائر في نقل أموال بلدانهم إلى بنك “كريدي سويس” قبل وأثناء ثورات الربيع العربي عام 2011، ما يعكس نوايا مبيَّتة بشأن سرقة الشعوب وثرواتها والهرب بها للخارج.
عام 2011 أُبلغت السلطات السويسرية -بحسب التسريبات- عن زيادة حجم المعاملات المشبوهة داخل البنوك الخاصة في البلاد، والتي رُجِّحت أن تكون مرتبطة بعمليات غسيل أموال ورشوة من الدول العربية.
بلغت تلك المعاملات قيمتها في تلك الفترة أكثر من 600 مليون فرنك سويسري، وفي سبتمبر/ أيلول من العام ذاته كشف بنك التسويات الدولية (مؤسسة مالية مملوكة للبنوك المركزية مقرّها سويسرا) عن زيادة في حجم إيداع أموال للمصريين بأكثر من 6 مليارات دولار، ولليبيين أكثر من مليارَي دولار، خلال 3 أشهر فقط (يونيو/ حزيران، يوليو/ تموز، أغسطس/ آب) من العام نفسه.
العاهل الأردني.. الحاضر في كل المناسبات
كان العاهل الأردني، الملك عبد الله الثاني، أبرز الأسماء التي تضمّنتها التسريبات السويسرية التي كشفت أنه يمتلك 6 حسابات بنكية، أحدها تجاوز رصيده الـ 224 مليون دولار، وفق ما ذكرته صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية، التي أوضحت أن الحسابات تضمُّ أجزاء من ثروة العاهل الأردني الخاصة التي اُستخدمت في النفقات الشخصية، ومشاريع ملكية في القدس التي هو وصيها.
فيما نفى الديوان الأردني في بيان له تلك التسريبات، مؤكدًا على وجود “سلوك غير قانوني أو غير لائق” فيما يتعلق بالحسابات المصرفية، ليصبح عبد الله الثاني واحد من المسؤولين القلائل الذين تناولتهم التسريبات وهم ما زالوا في السلطة، الأمر الذي ربما يزيد من الوضعية الحرجة.
جدير بالذكر أن تلك ليست المرة الأولى التي يواجه فيها العاهل الأردني مثل تلك الاتهامات، ففي 4 أكتوبر/ تشرين الأول 2021 كشفَ الاتحاد الدولي للصحفيين (جهة مستقلة تتّخذ من واشنطن مقرًّا لها) عن إنشاء الملك شبكة من الشركات الخارجية، بشكل غير مباشر، لتدشين ثروة عقارية بين العامَين 2003 و2017 تتجاوز قيمتها 100 مليون دولار، بينها 15 منزلًا في كاليفورنيا وواشنطن ولندن، فيما عُرفت بتسريبات “وثائق باندورا”.
ومن النخب السياسية التي كُشف عن حساباتها في البنك السويسري، رئيس الحكومة الأردنية السابق سمير الرفاعي، الذي يمتلك 3 حسابات بنكية منذ عام 2008 برصيد إجمالي 15 مليون فرنك سويسري، وقد أُجبر على الاستقالة في ربيع 2011 حيث ضحّى به العاهل الأردني لتهدئة الشارع الثائر.
عائلة مبارك
وجاءت عائلة الرئيس المصري الراحل حسني مبارك على قائمة الأسماء التي تناولها التسريب، إذ كان من بينها نجلاه علاء وجمال، صاحبا أكبر إمبراطورية اقتصادية خلال ولاية حكم أبيهما التي استمرَّت 30 عامًا، قبل أن يُطاح به في ثورة 25 يناير/ كانون الثاني 2011.
كانت البداية عام 1993 حين فتح النجلان أول حساب مشترك لهما في البنك السويسري، وبحلول عام 2010 وصل حساب علاء الـ 232 مليون فرنك سويسري (أكثر من 252 مليون دولار)، فيما هناك حسابات أخرى له ولشقيقه لم يتمَّ الإفصاح عنها حتى اليوم.
وقد تمّت محاكمتهما سويًّا عقب الثورة بتهمة الفساد واستغلال منصبَيهما للتربُّح من ثروات الشعب المصري، وصدر بحقّهما ووالدهما حكم بالسجن 3 سنوات عام 2015 بتهمة الاختلاس، وقد أُفرج عنهما بعد دفع 6 ملايين دولار للحكومة المصرية في اتفاق تسوية بينهما.
يُذكر أن العديد من التقارير الإعلامية إبّان ثورة يناير كانت قد كشفت عن تنامي ثروة أسرة مبارك خلال سنوات حكمه بصورة لم يشهدها رئيس دولة عربية أخرى، وصلت في بعض التقديرات إلى 70 مليار دولار داخل البنوك البريطانية والسويسرية، إلى جانب بعض الممتلكات الخاصة به فى أمريكا وبريطانيا حسبما نشرت “ذي غارديان” في ذلك الوقت.
ومن العائلة المباركية كذلك يوجد المليارديران محمد مجدي راسخ (صهر علاء) إمبراطور العقارات والغاز، والذي حُكم عليه بالسجن 5 سنوات عام 2012 لتورُّطه في قضايا فساد؛ ومحمود يحيى الجمال (صهر جمال) صاحب عشرات المشاريع في مجال السياحة، والمتّهم هو الآخر بالعديد من قضايا الاختلاس.
لم يتوقّف تهريب ثروات المصريين عند مبارك وأسرته فقط، بل طالَ كذلك مقرَّبي أسرته، على رأسهم رجل الأعمال الراحل حسين سالم، مهندس صفقات الغاز مع دولة الاحتلال، والذي كان يلقَّب بـ”الصندوق الأسود لمبارك” نظرًا إلى علاقته الوطيدة مع أفراد العائلة الحاكمة.
واتُّهمَ سالم بقائمة مطوَّلة من تُهم الفساد والاستغلال وغسيل الأموال، لكنه بُرِّئ منها جميعًا عام 2017، بعد سداده للدولة 5 مليارات و341 مليونًا و850 ألفًا و50 جنيهًا بما نسبته 75% من إجمالي ثروته، والمقدَّرة قيمتها بمبلغ 7 مليارات و122 مليونًا و466 ألفًا و733 جنيهًا مصريًّا، نظير إسقاط كافة التُّهم المنسوبة إليه.
ومن “شلّة” رجال أعمال مبارك التي تضمّنتهم التسريبات، ملياردير العقارات هشام طلعت مصطفى، الذي أُدين عام 2009 بالضلوع في مقتل المغنية اللبنانية سوزان تميم، ليصدر بحقّه حُكم بالسجن 15 عامًا، لكن الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي أفرج عنه صحيًّا عام 2017 بعد تسريبات تشير إلى إعطاء جزء من ثروته للدولة مقابل الإفراج.
كما وردَ اسم رئيس المخابرات السابق عمر سليمان، حيث كُشفت تفاصيل حساب بنكي يعود إليه وإلى شركائه عن امتلاكهم أرصدة تقدَّر بـ 63 مليون فرنك سويسري (حوالي 35 مليون دولار) عام 2007، فيما تشير “ذي غارديان” إلى أن الجنرال المصري أحد الضالعين في جرائم تعذيب وانتهاكات حقوق إنسان واسعة داخل مصر في عهد مبارك.
خدّام سوريا ومخلوفها
ومن القاهرة إلى دمشق، حيث كشفت التسريبات عن حساب بنكي لنائب الرئيس السوري السابق عبد الحليم خدّام، التي جمعها وأرسلها إلى سويسرا أثناء وجوده في الحكومة، وذلك قبل أن ينشقَّ ويغادر إلى فرنسا، الحساب الذي كان باسمه وأسرته تمَّ فتحه عام 1994، ووصل رصيده إلى 90 مليون فرنك سويسري عام 2003.
أشارت “ذي غارديان” إلى أن خدّام جمعَ معظم تلك الأموال خلال الفترة من عام 1970 وحتى عام 2005 حين كان في السلطة، بداية من كونه وزيرًا للخارجية في عهد حافظ الأسد مرورًا بنائب الرئيس، فيما صعد إلى صدارة الهرم السياسي خلال الحرب الأهلية في لبنان عام 1980، حين دشّن علاقة قوية مع رجل الأعمال اللبناني رفيق الحريري الذي أصبح رئيسًا للوزراء فيما بعد.
أشارت التقارير إلى حصول خدّام على 500 مليون دولار من الحريري على مدى 20 عامًا، بعضها في صورة نقدية والأخرى على شكل عقارات ويخوت، فيما ذكرت وسائل إعلام أخرى عن تلقّيه رشاوى نظير السماح لفرنسا وألمانيا بدفن النفايات المشعّة في الصحراء السورية.
وغادر خدام سوريا إلى باريس بعد انشقاقه عن نظام الأسد عام 2005، ليتوفى هناك عام 2020، ولتظلَّ حساباته السرّية وثرواته محل جدال في ظلّ عدم ردّ أسرته على الاتصالات الخاصة بشأن حقيقة هذه الثروة، كما رفض “كريدي سويس” التعليق على حساب عائلة خدام، وإن أكّد أنه يلتزم بالسياسات واللوائح ذات الصلة.
ومن بين العملاء الـ 30 ألف الذين تمَّ تسريب بياناتهم، رجل الأعمال السوري محمد مخلوف (خال بشار الأسد)، والد الملياردير رامي مخلوف، وصاحب الإمبراطورية الكبيرة من العقارات والبنوك والتبغ والنفط، والذي توفي عام 2020، وقد أرسل مشروع الإبلاغ عن الجريمة المنظمة والفساد (OCCRP) رسائل إلى نجله لبحث تُهم الفساد المتورِّط بها، لكنه لم يتلقَّ أي ردّ بحسب “ذي غارديان”.
جنرال الجزائر وطبيب العراق
أيضًا شخصيات عسكرية واستخباراتية تضّمنتها التسريبات، أبرزها الجنرال الجزائري خالد نزار، الذي شغل منصب وزير الدفاع في البلد العربي وعضو المجلس الأعلى للدولة من عام 1992 إلى عام 1994، والذي يمثل أمام القضاء حاليًّا بتُهم ارتكاب جرائم تعذيب واعتقال تعسفي بحقّ الجزائريين.
ويمتلك نزار حسابًا بنكيًّا بمليونَي فرنك سويسري (1.25 مليون دولار)، ظلّ مفتوحًا حتى عام 2013، علمًا أنه قد اُعتقل عام 2011 في سويسرا بعد شكوى ضدّه من مواطنين جزائريين بالتعذيب وانتهاكات حقوق الإنسان وجرائم حرب، ثم أُطلق سراحه حينها بعد التحقيق معه، لتعود قضيته إلى الأضواء مرة أخرى الشهر الحالي.
وإلى العراق حيث فتح رئيس الوزراء السابق (2004-2005)، إياد علاوي، حسابَين بنكيَّين في “كريدي سويس” أوائل الثمانينيات، وآخر منتصف التسعينيات تجاوز رصيدهما الـ 5 ملايين فرنك سويسري، وظلّت تلك الحسابات مفتوحة حتى عام 2016، فيما وصفت صحيفة “زود دويتشه تسايتونغ” الألمانية، صاحبة التسريبات، علاوي بـ”المستفيد في أعقاب الغزو الأميركي للعراق”.
وكان علاوي أحد المقرَّبين من صدام حسين حتى عام 1970، حين غادر البلاد لاستكمال دراسة الطب في لندن، ولينقلب على حزب البعث ومن ثم الصدام مع الرئيس، وبعد سقوط الأخير عاد إلى العراق مرة أخرى وأصبح عضوًا في مجلس الحكم الذي عيّنته أمريكا عام 2003، ثم رئيسًا للوزراء في العام التالي، ليبقى في السلطة عامًا واحدًا.
عامًا تلو الآخر وشيئًا فشيئًا تسقط الأقنعة المزيَّفة عن النخب السياسية العربية لينجلي الغبار عنها، كاشفة عن الوجوه الحقيقية لتك الأسماء التي طالما غرّدت بألحان النزاهة ومحاربة الفساد، مؤكّدة أن آفة الدول العربية في نخبتها وأنظمتها الفاسدة، والتي تدفع الشعوب وحدها ثمنها أجيال وراء أجيال.