ترجمة وتحرير: نون بوست
خلال الحرب على الإرهاب، اعتمدت الاستراتيجية الدولية على مسؤولي استخبارات من أنظمة متهمة بالفساد والتعذيب. وقد كان العديد من هؤلاء المسؤولين وعائلاتهم يملكون حسابات في مصرف “كريدي سويس” أودعت فيها أموال طائلة.
في فيلم الجاسوسية “كتلة أكاذيب” الصادر في سنة 2008، ساعدت الشخصية الخيالية “هاني سلام” عميلين من وكالة المخابرات المركزية (لعب دورهما الممثلان راسل كرو وليوناردو دي كابريو) في القبض على الإرهابيين. ولكن ما لم يدركه رواد السينما هو أن شخصية هاني سلام مقتبسة عن شخصية حقيقية: وهي رئيس المخابرات الأردني سعد خير.
ترأس سعد خير دائرة المخابرات العامة الأردنية ما بين 2000 و2005، وكان حليفًا رئيسيًا للولايات المتحدة في الحرب على الإرهاب. ورغم الاحتفاء به كبطل يساعد الولايات المتحدة، إلا أن أنشطة خير في الحياة الواقعية كانت موضع شك من الناحية الأخلاقية. إلى جانب مزاعم تهريب النفط، فقد أشرف أيضًا على دور الأردن في برنامج الترحيل الاستثنائي الأمريكي وكان يدير وكالة متهمة بتعذيب السجناء والإشراف على المحاكم الصورية أو ما يعرف بـ “محاكم الكنغر”.
في سنة 2003، فتح سعد خير حسابًا شخصيًا في مصرف كريدي سويس. وعلى امتداد السنوات السبع اللاحقة، زاد رصيد الحساب إلى 28.3 مليون فرنك سويسري (21.5 مليون دولار في ذلك الوقت)، قبل أن يُغلَق بعد أشهر من وفاته في سنة 2009.
لم يكن خير ضابط المخابرات الوحيد الذي أودع مبالغ كبيرة من المال في بنك كريدي سويس. فقد وجد الصحفيون أن ما لا يقل عن 15 شخصية استخباراتية بارزة من جميع أنحاء العالم أو أفراد عائلاتهم المقربين كانوا من عملاء هذا البنك.
تأتي هذه الاكتشافات من مجموعة ضخمة من البيانات المصرفية لبنك كريدي سويس التي تم تسريبها إلى صحيفة “زود دويتشه تسايتونغ” الألمانية والتي تشاركتها مع مؤسسة مكافحة الجريمة المنظمة والفساد.
معظم الشخصيات الـ 15 من كبار قادة المخابرات في بلادهم. وقد تضمنت هذه البيانات هويات عدد من المسؤولين الآخرين الذين اختارت مؤسسة مكافحة الجريمة المنظمة والفساد عدم الكشف عن أسمائهم، لأنه لا يمكن التحقق من هوياتهم بما لا يدع مجالًا للشك. إلى جانب خير، كان لدى ثلاثة من ضباط الاستخبارات علاقات وظيفية مشتركة تجعلهم شخصيات بارزة: المصري عمر سليمان، والجنرال الباكستاني أختر عبد الرحمن، واللواء اليمني غالب القمش.
كان هؤلاء الأربعة يديرون وكالات استخبارات حكومية وسيطروا على ميزانيات سوداء كبيرة لا تخضع للرقابة البرلمانية والتنفيذية. وكان أفراد أسر هؤلاء الأشخاص يملكون بدورهم حسابات شخصية في بنك كريدي سويس أرصدتها كبيرة دون مصادر واضحة للدخل الشخصي يمكن أن تفسر مصدر ثرواتهم.
اضطلع أربعتهم بأدوار في التدخلات الأمريكية الرئيسية في الشرق الأوسط وأفغانستان بدءًا من المحاولات الأولية لوكالة المخابرات المركزية لدعم المجاهدين المناهضين للاتحاد السوفيتي في أواخر السبعينات وصولًا إلى حرب الخليج الأولى في سنة 1990، وما يسمى بـ “الحروب الأبدية” التي انطلقت في أفغانستان والعراق منذ سنة 2001.
كان ثلاثة منهم، القمش وسليمان وخير، مسؤولين عن وكالات معروفة بتورطها في التعذيب. وكان لدى ثمانية من أفراد أسرهم على الأقل حسابات في بنك كريدي سويس. ونظرًا لأن هؤلاء المسؤولين الاستخباراتيين يعتبرون من “الشخصيات البارزة سياسيًا”، كان لا بد من فحص حساباتهم بعناية وطرح أسئلة على بنك كريدي سويس.
ووفقًا لخبيرة الامتثال السويسرية مونيكا روث، تعتبِر البنوك عملاء المخابرات السرية عملاء حساسين بشكل خاص. وقالت روث “لم أكن لأتخذهم عملاء – فهذا أمر محفوف بالمخاطر للغاية”، مضيفة أن رؤساء المخابرات غالبًا ما يكونون “أشخاصا يتمتعون بقدر كبير من النفوذ، وعلاقات مشكوك فيها، ومصادر مالية غامضة للغاية”.
أفاد أحد المسؤولين التنفيذيين السابقين في بنك “كريدي سويس” لمؤسسة مكافحة الجريمة المنظمة والفساد بأنه “في حالة رئيس مخابرات مثل سعد خير، يعد فتح حساب بمثابة علامة حمراء ولن تقبله العديد من البنوك في سويسرا، لكن بنك كريدي سويس فعل ذلك”.
لكن إجراءات العناية الواجبة التي نُفذت غير واضحة، هذا إن وُجدت. وقد رفض بنك كريدي سويس التعليق على الحالات الفردية، مستشهدًا بقوانين السرية التي تتبعها البنوك السويسرية وتحظر تحديد هوية العملات أو تقديم معلومات عنهم. وأكد البنك أنه “يدير أعماله وفقًا لجميع القوانين واللوائح العالمية والمحلية المعمول بها” وأنه عزز “إطار إدارة المخاطر وأنظمة التحكم”.
أختر عبد الرحمن والتدفقات النقدية السرية
قبل وقت طويل من فتح خير حسابًا له في بنك كريدي سويس، كان لدى المسؤولين الاستخباراتيين الذين ساعدوا الولايات المتحدة في خوض حرب بالوكالة ضد السوفييت في أفغانستان علاقاتهم الخاصة بهذه المؤسسة المصرفيّة.
في أواخر السبعينات، دعمت الولايات المتحدة سبعة مجموعات مختلفة من المجاهدين كانوا يحاربون الروس في أفغانستان. وكان دعم المملكة العربية السعودية للجهاديين يضاهي التمويل الأمريكي وغالبا ما كانت ترسل الأموال إلى الحساب المصرفي السويسري التابع لوكالة المخابرات المركزية. وكان المتلقي النهائي في العملية هو وكالة الاستخبارات الباكستانية بقيادة أختر.
بحلول منتصف الثمانينات، كان أختر بارعًا في إيصال أموال وكالة المخابرات المركزية إلى الجهاديين الأفغان. وفي هذه الفترة تقريبًا، فتح حسابات في بنك كريدي سويس بأسماء أبنائه الثلاثة.
كتب محمد يوسف، زميل أختر في وكالة الاستخبارات الباكستانية الذي ألّف لاحقًا كتابا عن تلك الفترة، “تم تحويل الأموال الأمريكية والسعودية المجمعة، التي تبلغ قيمتها مئات الملايين من الدولارات سنويا، من قبل وكالة المخابرات المركزية إلى حسابات خاصة في باكستان تابعة للمخابرات الباكستانية”.
يزعم كل من يوسف وستيف كول – مؤلفا كتاب “حروب الأشباح” الحائز على جائزة بوليتزر لسنة 2005 – أن أختر كان المسؤول عن توزيع هذه الأموال. فقد زودته وكالة المخابرات المركزية بالملايين من أجل تدريب المجاهدين على استعمال أسلحة متطورة. بحلول سنة 1984، كانت ميزانية وكالة المخابرات المركزية في أفغانستان وحدها تناهز 200 مليون دولار.
كانت الرقابة متساهلة بشكل دائم ولطالما تم التشكيك في الدور الذي يلعبه أختر. وحسب ما أفاد به مصدر استخباراتي من جنوب آسيا مطلع على العمليات في أفغانستان لمؤسسة مكافحة الجريمة المنظمة والفساد فإنه “كان من السهل في ذلك الوقت فتح حسابات مصرفية في البنوك السويسرية بأي طريقة ومهما كان نوعها لتحويل الأموال العلنية”. وأضاف المصدر ذاته أن “أختر كان يقوم بذلك لتعبئة جيوبه. وقع اختلاس الكثير من الأموال من الحرب الأفغانية وتحويلها إلى حساباته المصرفية”.
ويُذكر أن أحد الحسابات التابعة لأختر في بنك كريدي سويس – الذي يشترك فيه أبناء أختر أكبر وغازي وهارون – فُتح في الأول من تموز/ يوليو 1985، عندما كانوا في أواخر العشرينات وأوائل الثلاثينات من عمرهم. وفي نفس العام، أثار الرئيس الأمريكي رونالد ريغان مخاوف بشأن مآل الأموال المخصصة للمجاهدين. وبحلول 2003، بلغ رصيد هذا الحساب خمسة ملايين فرنك سويسري على الأقل (3.7 مليون دولار في ذلك الوقت). وبلغ رصيد الحساب الثاني، الذي فتح في كانون الثاني/ يناير 1986 باسم أكبر، أكثر من 9 ملايين فرنك سويسري بحلول تشرين الثاني/ نوفمبر 2010 (9.2 مليون دولار في ذلك الوقت).
توفي أختر في حادث تحطم طائرة سنة 1988 أودى أيضًا بحياة رئيسه الدكتاتور الباكستاني ضياء الحق. رفض ابناه أكبر وهارون خان التعليق على هذا الأمر، وفي رسالة إلى مؤسسة مكافحة الجريمة المنظمة والفساد قال غازي خان إن المعلومات التي قدمها الصحفيون حول الحسابات السويسرية للأسرة “غير صحيحة” وأنه “تم إنكارها”، دون تقديم المزيد من التفاصيل.
غالب القمش “الصندوق الأسود”
بينما كانت وكالة المخابرات المركزية وأختر يتعاونان في أفغانستان، كان اليمني غالب القمش في بداية مسيرته. في سنة 1980، ترأس مكتب الأمن السياسي اليمني الذي كان مسؤولاً عن المخابرات الداخلية. وتمامًا مثلما كان يفعل أختر في باكستان، قام القمش بتجنيد مقاتلين للحرب الأفغانية ضد السوفييت.
هيمن القمش على جهاز الأمن اليمني لعقود وكان القاتل المأجور الرئيسي للرئيس علي عبد الله صالح (1978-2012). وعندما قصف تنظيم القاعدة المدمرة الأمريكية “يو إس إس كول” في ميناء عدن اليمني في سنة 2000، كلّف صالح القمش – الذي كان مترددًا في البداية – بمساعدة وكالة المخابرات المركزية في تحديد المشتبه بهم.
وفقًا لثلاثة ضباط عملوا تحت قيادة القمش في جهاز الأمن السياسي في اليمن، كان القمش المسؤول الأمني الأكثر رهبةً في البلاد، وقد وُصف بأنه “الصندوق الأسود” للرئيس صالح. قالت المصادر الثلاثة، التي طلبت عدم الكشف عن هويتها خوفًا من الانتقام، لمؤسسة مكافحة الجريمة المنظمة والفساد إن القمش لديه “ميزانية مفتوحة بملايين الدولارات” ليفعل بها ما يحلو له.
بحلول الوقت الذي أصبح فيه رئيس جهاز المخابرات في اليمن وساعد الأمريكيين على تفكيك الخلايا الإرهابية في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، كان لدى القمش ملايين الدولارات المودعة في بنك كريدي سويس دون أن يكون لها مصدر واضح.
بحلول سنة 2006، بلغت قيمة حسابه الذي فتحه في سنة 1999 – قبل سنة من الهجوم الذي تعرضت له المدمرة الأمريكية – حوالي 5 ملايين فرنك سويسري (3.7 مليون دولار) وهي نفس السنة التي فرّ فيها بعض المشتبه بهم في هجوم كول من سجن يمني. ووفقًا لضباط المخابرات السابقين والمبادئ التوجيهية الرسمية لقانون الرواتب اليمني، كان الراتب الشهري لقمش يتراوح ما بين 4000 و5000 دولار شهريًا، بما في ذلك البِدل والمكافآت.
بعد أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر، أنشأت وكالة المخابرات المركزية “مواقع سوداء” في دول حليفة حول العالم، وهي سجون سريّة يُحتجز فيها المشتبه بهم في قضايا الإرهاب بمعزل عن العالم الخارجي. وقد صدّر الأمريكيون طرق الاستجواب إلى أنظمة قمعية مثل مصر والأردن واليمن، حيث تم تعذيب المعتقلين لانتزاع معلومات منهم تدعم الحرب على الإرهاب.
اتُهم القمش بارتكاب انتهاكات مختلفة بما في ذلك المشاركة في برنامج الترحيل الاستثنائي للولايات المتحدة، الذي تم في إطاره إنفاق الملايين من أموال وكالة المخابرات المركزية على المسؤولين وغيرهم من المساعدين في الدول الحليفة. وتظهر الوثائق الرسمية دفع مبالغ ضخمة للدول التي استضافت المواقع السوداء، وأولئك الذين طبّقوا عمليات التعذيب والاستنطاق.
حسب روث بلاكيلي من “مشروع الترحيل السري”، وهي مجموعة من الأكاديميين البريطانيين الذين أجروا تحقيقات حول البرنامج الأمريكي، فإن أي معلومات جديدة تظهر أن هناك شخصيات استخباراتية مرتبطة بالتعذيب لديها أموال مخفية تستوجب معاينة دقيقة. وأضافت: “في حال وجود دليل يثبت أن كبار مسؤولي المخابرات كانوا يكسبون المال من التواطؤ في برنامج الترحيل والاعتقال والاستجواب الذي تقوده وكالة المخابرات المركزية، فإن ذلك يستدعي إجراء تحقيق شامل”.
على الرغم من تساءل بنك كريدي سويس عن مصدر أموال القمش أو مدى ملاءمته كعميل، فإن ذلك لم يمنع البنك من التعامل معه وبقيت حساباته موجودة لفترة طويلة بعد مشاركته في برنامج الترحيل السري وقمع المعارضين السياسيين اليمنيين.
وقال أحد الضباط السابقين إنه “بالاستعانة بجهاز الأمن السياسي، كان القمش مسؤولاً عن اعتقال جميع العناصر التي يُعتقد أنها معارضة لنظام صالح”، بينما أضاف ضابط آخر: “لا أحد يعرف كيف أنفِقت أموال جهاز الأمن السياسي”.
توترت العلاقات بين القمش وصالح عندما بدأ الرئيس في إعداد ابنه لخلافته، كما أنشأ صالح وحدة استخبارات داخلية جديدة، وهي مكتب الأمن القومي في سنة 2002 تحت قيادة ابن أخيه، وسرعان ما طغى هذا المكتب على جهاز الأمن السياسي، ليبدأ في سحب البساط من تحت قدمي القمش ببطء.
في كانون الثاني/ يناير 2011، سحب القمش آخر أصوله من كريدي سويس، التي تقدّر بقيمة 3.8 مليون فرنك سويسري (4 ملايين دولار)، في الوقت الذي كانت الحشود تحتج في شوارع عدن في أولى شرارات اندلاع ثورات الربيع العربي. وفي سنة 2014، بعد الإطاحة بصالح، اتخذ الرئيس عبد ربه منصور هادي قرار عزل القمش من منصبه كرئيس لجهاز الأمن السياسي.
إن القمش يُقيم حاليًا في إسطنبول، وفي السنوات الأخيرة بقي متواريا عن الأنظار ببنما ظلّ أبناءه نشطين في مجال الأعمال التجارية في اليمن والبحرين والبرازيل وتركيا. وقد رفض القمش التعليق على الأمر.
عمر سليمان: الأكثر رهبةً في مصر
في برقية دبلوماسية تم تسريبها إلى ويكيليكس في كانون الثاني/ يناير 2009، قالت مارغريت سكوبي، سفيرة الولايات المتحدة في مصر، إن رئيس المخابرات المصرية عمر سليمان كان اليد اليمنى للديكتاتور حسني مبارك، وأضافت أن مبارك كان ينام ملء جفنيه بفضل أساليب سليمان الوحشية.
لا يبدو أن بنك كريدي سويس كان قلقًا أكثر من اللازم بشأن سليمان أيضًا. فرغم حقيقة أنه كان مرتبطًا شخصيًّا بتعذيب ضحايا برنامج الترحيل السري الأمريكي، فقد احتفظ بعض الأفراد من عائلة سليمان بالكثير من ثرواتهم في البنك السويسري.
وفي شباط/ فبراير 2003، بينما كان حلفاء سليمان في الولايات المتحدة يخططون لغزو العراق، كان أفراد عائلته يقومون بالاستعدادات المالية الخاصة بهم؛ ففي ذلك الشهر، فُتح حساب في كريدي سويس بأسمائهم تضخم رصيده لاحقًا بالملايين. ومثل أختر وخير والقمش، كان يُنظر إلى سليمان على أنه حليف موثوق للولايات المتحدة.
وقبل أسابيع من فتح حساب سليمان، أوضح وزير الخارجية الأمريكية كولن باول في حديث وجّهه إلى الأمم المتحدة سبب الحاجة الملحة للإطاحة بنظام الرئيس صدام حسين في العراق؛ حيث أخبر الأمم المتحدة أن لديه أدلة تثبت تدريب العراق للقاعدة على استعمال الأسلحة الكيماوية، وكان المصدر الذي اعتمده أحد ضحايا نظام استخبارات سليمان، وهو ابن الشيخ الليبي.
الليبي هو مواطن ليبي أُلقي القبض عليه في باكستان سنة 2001 قبل أن تسلمه وكالة المخابرات المركزية إلى مصر في سنة 2003. وكان الليبي قد اعترف بالتهمة الموجهة له لأن المسؤولين المصريين أخبروه بأن “ثلاثة آلاف شخص جلسوا على ذات الكرسي الذي يجلس عليه” واعترف كل واحد منهم. وبعد حشره داخل زنزانة صغيرة، قال الليبي لاحقًا إنه أخبر المصريين “بما كانوا يريدون سماعه”، إذ كان سليمان يحصل دائمًا على ما يريد.
ومع انتقال حرب العراق من المعارك الضارية إلى مكافحة التمرد؛ تضخّمت ثروة عائلة سليمان؛ فبحلول سنة 2007، بعد أربع سنوات من سقوط صدام حسين، بلغت قيمة حساب العائلة في بنك كريدي سويس 63 مليون فرنك سويسري. لم تستجب العائلة لطلبات التعليق المتكرّرة.
وبقي الحساب قائمًا بعد سقوط ديكتاتورية مبارك في مصر في سنة 2011 تحت وطأة الربيع العربي، ورغم أنه بعد الإطاحة بمبارك؛ قالت السلطات السويسرية إنها جمّدت أصول تابعة لشخصيات مرتبطة به وبحكومته، لكن يبدو أنّ الحملة لم تطال آل سليمان؛ حيث لا يوجد دليل في البيانات على إغلاق الحساب، على الرغم من المخاوف المتعددة التي أُثيرت في أماكن أخرى حول جرائم الزعيم (سليمان).
وكان سليمان؛ إلى جانب الإشراف على التعذيب، متورطًا أيضًا في المعاملات المالية السرية للوكالة؛ ففي محاكمة مبارك، استشهد القاضي بشهادة سليمان ومسؤولين آخرين بأن حسين سالم – رجل أعمال مصري ومعروف في جهاز المخابرات – يمتلك مجموعة متنوعة من شركات الغاز وقطاعات أخرى تابعة لوكالة التجسس، وكتب القاضي أن سليمان اعترف بأن وكالة مخابراته أنشأت شركات وهمية لأسباب تتعلق بـ”الأمن القومي”، بالاستعانة بسالم في كثير من الأحيان.
وكان سالم أيضًا أحد عملاء بنك كريدي سويس؛ حيث كان لديه عدة حسابات احتوى أحدها على أصول بقيمة 105 مليون فرنك سويسري (79.3 مليون دولار) في سنة 2003، والذي ذُكِر في الإجراءات القانونية عندما زعم المحققون أنه تم استخدامه لدفع وتلقي ما بدا أنه عمولات فاسدة للمديرين التنفيذيين في “فلوتيكس” ( FlowTex)، وهي شركة ألمانية متهمة بعمليات احتيال ضخمة.
وقد لا يكون مصدر ثرواتهم معروفًا أبدًا، لكن الخبراء يقولون إن المقتنيات السرية لهذه الشخصيات الاستخباراتية تثير تساؤلات حول الطرق غير الشرعية التي لجأوا إليها؛ حيث قال روبرت باير، عميل سابق في وكالة المخابرات المركزية الأمريكية في الشرق الأوسط: “أراد مبارك لجنرالاته ورؤساء المخابرات أن يسرقوا الأموال، لأنه لا يمكن الوثوق بأي شخص لا يستفيد من هذا المنصب”، وأضاف: “هؤلاء هم الأشخاص الذين يقومون بالانقلابات”.
سعد خير: المُغامر الأردني
وتصدّرت شخصية سعد خير الأردني فيلم “كتلة من الأكاذيب” (Body of Lies)، الذي وصفه الكاتب في صحيفة واشنطن بوست وصاحب الرواية التي أُخِذ منها الفيلم، ديفيد إغناتيوس، بأنه “بارع ولكنه مجروح عاطفيًّاً”، ولكن الاستجوابات التي أجرتها دائرة المخابرات العامة كانت غير قانونية إلى حد كبير، بحسب تقارير منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش.
وأفادت منظمة هيومن رايتس ووتش أن دائرة المخابرات العامة الأردنية كانت تحتجز السجناء الذين تريد وكالة المخابرات المركزية إبقائهم بعيدًا عن الأنظار، تمامًا كما فعلت مخابرات سليمان في مصر.
ووثقت المنظمة الحقوقية إرسال الولايات المتحدة ما لا يقل عن 14 سجينًا إلى السجون الأردنية للتعذيب -على الأرجح – بين سنتي 2001 و 2003، فيما أفادت منظمة العفو الدولية، نقلاً عن شهادات الضحايا، أن دائرة المخابرات العامة الأردنية حصلت على أكثر من 100 اعتراف عن طريق التعذيب، ثم أحالت هذه القضايا إلى محكمة أمن الدولة الأردنية، التي أصدرت عقوبات الإعدام على بعضهم.
ونفى كبار مسؤولي دائرة المخابرات العامة في وقت لاحق احتجاز سجناء تابعين للولايات المتحدة، أو أن التعذيب قد حدث أصلًا، فيما راجت شائعات عن تورّط سعيد خير في قضايا فساد بما فيها صفقات نفطية، لكن لم يتم توجيه أي اتهامات رسمية له على الإطلاق.
النفط العراقي بسعر رخيص
واتهم رئيس المخابرات الأردنية السابق سعد خير منذ وقت طويل بالربح سرًّا من تجارة النفط غير المشروعة منذ أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، الأمر الذي استدعى بعض نواب المعارضة لمطالبة خير بمواجهة هذه التهم، لكنه لم يفعل، ولم يتم تقديم أي دليل على الإطلاق.
وقام مراسلو “أو سي سي آر بي” بالبحث عن أدلة، وعلى الرغم من عثورهم على أدلة مثيرة للاهتمام، إلا أنها لم تكن حتمية، فيما أشار عدد قليل من المصادر المُطّلعة غير الرسمية إلى أنّ خير ودائرة المخابرات العامة أشرفوا على شركة واجهة كانت تتاجر في النفط من مصادر في العراق، لكن لم يتم التوصل إلى أي دليل قاطع.
ومن خلال الاطّلاع على السجلات والمعلومات السرية، توصّل الصحفيون إلى شركة نفط تسمى حرانة، يديرها عبد الرحمن أبو حسن، وهو صديق قديم لخير، والذي قال إنه سمع منذ فترة طويلة نفس الشائعات – أنه أصبح ثريًّا بسبب خير ودائرة المخابرات العامة – لكنه نفى بشكل قاطع أن يكون لخير أي تورط في شركته.
واعترف أبو حسن بأنه حصل على النفط من العراق “بالمجان تقريبًا”، ثم باعه في الخارج بأسعار السوق العالمية، وقال إن رئيس الوزراء العراقي آنذاك، إياد علاوي، باع النفط بثمن بخس لأن الأردن منحته ملاذًا آمنًا بعد تعرّضه لمحاولة اغتيال من قِبل حكومة صدام حسين.
وقال أبو حسن إن شحناته النفطية المنقولة بواسطة الشاحنات، والتي تبلغ حوالي 300 شحنة يوميًّا، كانت محمية من قبل دائرة المخابرات العامة التابعة لخير عندما عبروا الحدود، ولم تتعدّى علاقة خير بالشركة إلى أبعد من ذلك؛ حيث قال أبو حسن إن خير لم تكن له علاقة بالتجارة ولم يحقق أي أرباح منها، مشيرًا إلى أنّ الكثير من أرباحه الخاصة تمّ التبرع بها لجمعيات قدامى المحاربين الأردنيين، على الرغم من أن وزارتي المالية والطاقة في الأردن جنتا مئات الملايين من أعمال خارجية.
ولم يجد الصحفيون أي دليل على تورط خير، أو أنه ناقش تورطه في تجارة النفط مع أي شخص قبل وفاته.
ومن جهته؛ اعتبر أبو حسن أن ما تردّد من شائعات عن استخدام شركة “حرانة” كواجهة من دائرة المخابرات العامة ما هو إلا “هراء”، قائلًا: “اتهم الجميع المخابرات الأردنية لأنها كانت تسهّل التجارة لنا”، مضيفًا: “لكنّي أنا طلبت منهم ذلك”، فيما صرّح سياسي أردني لـ”أو سي سي آر بي” قائلاً: “لقد تسبّب كل من خير ورئيس الوزراء آنذاك أبو الراغب في فساد مؤسسي كبير لا يزال يطارد الأردن حتى اليوم”.
وفي آذار/مايو 2005، أقال الملك عبد الله الثاني سعد خير من منصبه في دائرة المخابرات العامة، ثمّ توفي في فندق فخم في فيينا في كانون الأول/ديسمبر 2009، وقبل وفاته بثلاث سنوات بلغت قيمة حسابه في كريدي سويس 28.3 مليون فرنك سويسري (21.5 مليون دولار)، فيما وصلت قيمة حساب شقيقه سعيد خير في كريدي سويس إلى 13 مليون فرانك سويسري بحلول 2011، قبل إغلاقه في سنة 2014؛ أما زوجة خير، جانيش فريح، فكان لديها حسابها الخاص الذي بلغت قيمته 6 ملايين فرنك سويسري (5.9 مليون دولار) في 2010، لكن حسابها قد أُغلق أيضًا في سنة 2014.
وقال سعيد خير لـ”أو سي سي آر بي” أنه نظرًا لمنصب شقيقه الحساس فإنه “لم يشاركني أبدًا أي معلومات حول عمله في المخابرات”، وأكد أنه لا يعرف أي شيءٍ عن أي حساب تابع لشقيقه في بنك كريدي سويس، وأنه لم يقم هو نفسه بإنشاء أي حسابات، مبينًا أن كل دخله الخاضع للضريبة “تم التصريح به لمصلحة الضرائب في الأردن”، وأنه لم يشارك أخيه في أي حساب مصرفي أو تلّقى أموالًا منه.
يعاني الجواسيس من مشاكل عملية أيضًا إضافة إلى التنقل ضمن صراعات السلطة الداخلية للأنظمة القمعية
وفي رسالة إلى “أو سي سي آر بي”؛ وصفت فريح الشائعات المتداولة حول حسابات العائلة في بنك كريدي سويس بأنها “غريبة وشائنة” واصفة خير بأنه “رجل شريف حارب الإرهاب طوال حياته حتى ينعم الناس بالأمان في هذه الحياة”، فيما نفت وجود أي حساب خاص بها في كريدي سويس، وأضافت أن ليس لديها فكرة عن أي أموال هناك، بل كانت مجرد “ربّة منزل”.
“شيء ثمين جدا”
ووفَّر العمل مع بنك كريدي سويس بالنسبة للشخصيات الاستخباراتية خدمة كان من الصعب العثور عليها في عالم يزداد عولمة؛ حيث قال ضابط استخبارات أوروبي؛ طلب عدم الكشف عن هويته: “إن هذه البنوك تمثل شيئًا ثمينًا للغاية بالنسبة لمجتمع الاستخبارات وهو السرية، وهذه السرية تجعل خدماتهم مفيدة جدًا للعمليات الخفية”.
وصرَّح مدير مخابرات ألماني سابق – وعمل في الشرق الأوسط – لمؤسسة مكافحة الجريمة المنظمة والفساد وشركائها؛ إنه لم يفاجأ بأن موظفي مخابرات رفيعي المستوى من دول غير ديمقراطية قد فتحوا حسابات في سويسرا؛ حيث يمكن أن تكون مثل هذه الحسابات بمثابة دعم، واقترح المصدر أن يتم تجميدها في حالة الإطاحة بالأنظمة التي يخدمها هؤلاء الجواسيس، أو في حال هم أنفسهم لم يعودوا ذوي أهمية.
وردد باير هذه الفرضية، وهو العميل السابق لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية؛ حيث قال: “قد تبقى في وظيفتك فقط لفترة طويلة في العالم العربي، ويتوجب عليك أنت وعشيرتك سرقة ما تستطيع لتكوين مدخراتك المستقبلية؛ عندها تُعد سويسرا المكان الأكثر أمانًا، بمجرد الانتهاء من إعداد حساباتك”.
ويبدو أن فقدان الدعم هو أحد المخاطر الرئيسية لعالم التجسس؛ فبعد سقوط مبارك سنة 2011، أبدى عمر سليمان رغبة في قيادة مصر، لكن تم استبعاده كمرشح، ثم توفي وفاة طبيعية في “كليفلاند كلينك” بعد ذلك بأشهر في تموز/ يوليو 2012.
ويعاني الجواسيس من مشاكل عملية أيضًا إضافة إلى التنقل ضمن صراعات السلطة الداخلية للأنظمة القمعية، وربما تكون البنوك السويسرية قد أسهمت في حلها؛ حيث يقول أفنير أفراهام، ضابط الموساد السابق: “تعمل وكالات التجسس والمنظمات الإرهابية أحيانًا بالطريقة نفسها، ويواجهون نفس المشاكل؛ فينبغي عليهم تحويل الأموال من النقطة أ إلى النقطة ب، من أجل الدفع لأحد الأشخاص، ولا يريدون لأي أحد أن يعرف من هو الشخص الذي يدفع، وكيف يتم التحويل، أو من أين يأتي”.
ويقول جراهام بارو، وهو خبير جرائم مالية في المملكة المتحدة، إن المبالغ الطائلة الموجودة في حسابات كريدي سويس المرتبطة بشخصيات استخباراتية كان ينبغي أن ترفع إشارات الخطر للبنك، مضيفًا: “لا يوجد سبب يمنع عميل استخبارات رفيع المستوى من فتح حساب مصرفي، لكن يجب عليهم تقديم مبرر لرغبتهم في فتح الحساب وما الغاية من استخدامه، ثم يجب استخدام الحساب بالطريقة التي أكدوا أنهم سيستخدمونه بها، ويجب على البنك أن يرفع إشارات الخطر في حال وجود أي تناقض في أي وقت كان”.
جواسيس آخرون
وعثر الصحفيون على ما يقرب من 40 حسابًا في بيانات بنك كريدي سويس مرتبطة بمسؤولين استخباراتيين ينتمون لحوالي 12 دولة. وتشمل تلك الحسابات:
– القائد في الجيش الفنزويلي السابق كارلوس لويس أغيليرا بورجاس، المعروف باسم “الرجل الخفي”، والذي عمل كحارس شخصي لهوجو تشافيز في التسعينيات، ثم مديرًا لأجهزة المخابرات الفنزويلية لمدة عامين في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، ثم استقال بحدود سنة 2002، بعد أن فشل في منع محاولة انقلاب كادت أن تطيح بالرئيس؛ حيث ركَّز أغيليرا بعد ذلك جهوده على الأعمال التجارية، ويقال إنه قام بإيداع حوالي 90 مليون دولار من صفقة فاسدة مزعومة لإصلاح خط مترو كاراكاس.
وافتتح أغيليرا حسابًا واحدًا في بنك كريدي سويس في حزيران/ يونيو سنة 2011، وخلال بضعة أشهر بلغت قيمة رصيده حوالي 7.8 ملايين فرنك سويسري ما يعادل (8.6 ملايين دولار أمريكي)، وتم افتتاح حساب آخر مرتبط بكيان قانوني يسيطر عليه في تموز/ يوليو سنة 2011، حيث بلغ رصيده الأقصى حوالي 5 ملايين فرنك سويسري.
ولم يستجب أغيليرا على طلب إبداء تعليق.
– وامتلك خلف الدليمي، كبير موظفي الشؤون المالية لجهاز المخابرات العراقي في عهد صدام حسين، حساب شركة برصيد مرتفع بلغ 178 مليون فرنك سويسري، إضافة لحساب شخصي برصيد بلغت قيمته 2.5 مليون فرنك سويسري، ووصف محامي الراحل الدليمي التقرير بـأنه “خبر قديم” و”غير دقيق”.
ارتبطت حسابات أخرى بشخصيات استخباراتية من العراق والأردن والجبل الأسود ونيجيريا وباكستان واليمن. يعود أقدمها إلى فترة منتصف السبعينات
– وافتتح أشرف مروان حسابًا بنكيًّا، وهو جاسوس من مصر، وكانت ولاءاته غامضة مثل موارده المالية؛ حيث عُرفَ عن مروان تسريبه معلومات استخباراتية إلى القوات الإسرائيلية خلال حرب 1973 أثناء عمله كمستشار استخباراتي لوالد زوجته، الرئيس جمال عبد الناصر، لكن تدعي عائلته ومؤيدين آخرين أن المعلومات التي قدمها لإسرائيل كانت مزورة، وتم فتح حساب مروان في بنك كريدي سويس، المدرج ضمن كيان قانوني، في سنة 2000.
وعند ذلك الوقت، ترك مروان العمل الاستخباراتي وانتقل إلى المملكة المتحدة؛ حيث اشترى حصة في نادي تشيلسي لكرة القدم، ثم توفي بعد سبع سنوات، إثر سقوط مريب من شرفة منزله في لندن، وصرَّحت زوجته منى عبد الناصر للصحافة، في وقت لاحق، إنَّ موته كان انتقامًا لخيانته المخابرات الإسرائيلية، ولم يستجب السيدة منى عبد الناصر للأسئلة التي أرسلتها مؤسسة مكافحة الجريمة المنظمة والفساد.
– ومن ألمانيا؛ افتتح ضابط الشرطة السرية السابق يورغن تشزيلنسكي حسابًا قيمته حوالي 218 مليون فرنك سويسري ما يعادل (206 مليون دولار) اعتبارًا من كانون الثاني / يناير 2010، وكان تشزيلنسكي قد غادر ألمانيا بعد انهيار الشيوعية، واستقر في الكونغو برازافيل، حيث قيل إنه استثمر في تدوير النفايات، ولم تنجح المحاولات المتكررة للتواصل مع تشزيلنسكي.
ويوجد في البيانات أيضًا حسابات تعود لشخصيات لها علاقات بأجهزة المخابرات الأوزبكية، والتي اتهمتها العديد من منظمات حقوق الإنسان بالتعذيب والإخفاء القسري والاحتجاز التعسفي؛ ففي سنة 2009، صرَّح ضابط المخابرات السابق إكرام يعقوبوف لبرنامج “بي بي سي نيوزنايت” إنه عاين هذه الانتهاكات رأي العين، وادعى أنه تم إجباره على اختلاق أدلة ضد أشخاص يوقن أنهم أبرياء.
وارتبطت حسابات أخرى بشخصيات استخباراتية من العراق والأردن والجبل الأسود ونيجيريا وباكستان واليمن. يعود أقدمها إلى فترة منتصف السبعينات.
المصدر: أو سي سي آر بي