مجددًا حلَّ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ضيفًا على أفريقيا في جولة شملت 3 دول، الكونغو الديمقراطية والسنغال وغينيا بيساو، لتضاف إلى جولاته العديدة السابقة في القارة السمراء خلال السنوات الأخيرة، في ظلّ تركيز أنقرة على تطوير علاقاتها مع الدول الأفريقية.
ويعكس حجم الوفد الكبير المرافق للرئيس التركي المكوَّن من أبرز وزراء حكومته وعدد من رجال الأعمال، إضافة الى جدول أعمال الجولة الذي يشملُ توقيع العديد من الاتفاقيات الأمنية والاقتصادية، وافتتاح العديد من المشاريع الكبرى المشتركة؛ مدى تنامي الشراكة التركية الأفريقية والتطور البالغ للعلاقات بين الجانبَين.
وبينما تتعدّد الزيارات المتبادلة بين القادة الأفارقة والأتراك، وتتنوع المؤتمرات والقِمَم والفعاليات التي تجمعهما، يتزايد حجم التعاون الاقتصادي والعسكري والثقافي بين الطرفَين، ويتزايد معه حجم وقوة النفوذ التركي في القارة السمراء، والذي يأتي في رأي كثير من الخبراء على حساب نفوذ القوى الاستعمارية القديمة، وعلى رأسها فرنسا التي طالما اعتبرت أفريقيا بمثابة الحديقة الخلفية لها.
وفيما تتعدد خطوط المواجهة التركية الفرنسية في العديد من المحافل والأزمات، سواء على الساحة الأوروبية أو في شرق المتوسط أو العالم العربي، تبدو الساحة الأفريقية ميدانًا جديدًا لصراع محتدِم بين أنقرة التي نجحت خلال 20 عامًا في تحقيق شراكة مذهلة ونفوذ استراتيجي واسع في مختلف أرجاء أفريقيا، مقابل سخط أفريقي متزايد -على الأقل شعبيًّا- ضد فرنسا، التي ظهرت منبوذة مؤخّرًا في بعض مناطق نفوذها التقليدية مثل منطقة الساحل الأفريقي، مقابل ترحيب متزايد بدور تركي يطلب ودّ الأفارقة من باب الشراكة والتعاون والاستثمار.
تطور العلاقات التركية الأفريقية
خلال عقدَين فقط من الزمان، شهدت العلاقات التركية الأفريقية تناميًا متزايدًا وصلَ حدّ الشراكة المتكاملة في مختلف المجالات، فقد احتلَّت أفريقيا مكانة مهمة في السياسة الخارجية التركية منذ أن تولى حزب العدالة والتنمية السلطة عام 2002، وبدأت هذه السياسة تجاه أفريقيا رسميًّا عام 2003، عندما أعلنت الحكومة التركية عن استراتيجيتها الجديدة تجاه أفريقيا بوثيقة عنوانها “استراتيجية تطوير العلاقات الاقتصادية مع أفريقيا”.
مع استمرار الاهتمام المتزايد بأفريقيا، أعلنت الحكومة عام 2005 على أنه عام أفريقيا، وأصبحت تركيا “عضوًا مراقبًا” في الاتحاد الأفريقي عام 2005، ثم “شريكًا استراتيجيًّا” عام 2008.
وتمَّ تعزيز التعاون المتطور بين تركيا والقارة السمراء بشكل أكبر بعد القمّتَين الأولى والثانية بين تركيا وأفريقيا، اللتين عُقدتا في إسطنبول ومالابو عاصمة غينيا الاستوائية على التوالي في عامَي 2008 و2014، وصولًا إلى القمة الثالثة التي عُقدت في إسطنبول بمشاركة 16 رئيسًا و102 وزير أفريقي عام 2021.
أصبحت تركيا تتمتّع بإحدى الشبكات الدبلوماسية الأكثر كثافة في أفريقيا، بعد التزايد الكبير لفتح السفارات التركية بعدد من بلدان القارة.
وتجلّى اهتمام حكومة أردوغان غير المسبوق بتأسيس شراكات اقتصادية ودبلوماسية طويلة الأمد مع القارة السمراء، في الزيارات الرئاسية المتتالية لعدد من الدول الأفريقية، وما يرافقها من توقيع اتفاقيات ومذكّرات تفاهم بين أنقرة ونظرائها الأفريقيين.
وأصبحت تركيا تتمتّع بإحدى الشبكات الدبلوماسية الأكثر كثافة في أفريقيا، بعد التزايد الكبير لفتح السفارات التركية بعدد من بلدان القارة، إذ ارتفع عددها من 12 عام 2002 إلى 43 حاليًّا، وسيرتفع إلى 44 مع افتتاح سفارة في غينيا بيساو، بهدف افتتاح سفارات في 49 بلدًا من أصل 54 بلدًا أفريقيًّا، بالموازاة مع ذلك ارتفع عدد السفارات الأفريقية في أنقرة من 10 إلى 37.
جولات أردوغان الأفريقية
قبل الجولة الحالية، قام الرئيس التركي بآخر جولة له في أكتوبر/ تشرين الأول 2021، حيث زار أنغولا ونيجيريا وتوغو.
وقام الرئيس أردوغان بجولة أفريقية في مارس/ آذار 2018، شملت موريتانيا والجزائر ومالي والسنغال، وقبلها قام بجولة في مارس/ آذار 2016 شملت كلًّا من ساحل العاج وغانا ونيجيريا وغينيا، وفي عام 2015 زار الرئيس التركي كلًّا من إثيوبيا وجيبوتي والصومال، حيث زار أردوغان أفريقيا نحو 40 مرة منذ عام 2005، بصفته رئيسًا للوزراء ثم رئيسًا للبلاد، ودائمًا يرافقه رجال أعمال أتراك.
التعاون الاقتصادي
ازداد حجم التجارة التركية الأفريقية من 5.4 مليارات دولار فقط عام 2003، إلى 25.4 مليار دولار نهاية عام 2020، فيما تسير هذه المبادلات بطموح تحقيق رقم 50 مليار دولار، كما بلغ حجم الاستثمارات التركية في أفريقيا 6 مليارات دولار عام 2020.
وخلال فعاليات القمة التركية الأفريقية الثالثة نهاية العام الماضي، قال الرئيس التركي إنه في الأشهر الـ 11 الأولى من عام 2021 وحده، وصلت قيمة المبادلات إلى 30 مليار دولار، موضّحًا أنه يتطلّع إلى بلوغها 75 مليارًا في المستقبل.
وشهدَ شهر أكتوبر/ تشرين الأول الماضي انعقاد منتدى الأعمال التركي الأفريقي الثالث، الذي استمرَّ يومَين بحضور حوالي 3 آلاف رجل أعمال، بينهم حوالي 1600 من 45 دولة أفريقية، إضافة إلى وزراء ومسؤولين رفيعي المستوى من 34 دولة أفريقية.
ومع إنشاء منطقة التجارة الحرة الأفريقية، يمكن للمستثمرين الأتراك دعم حركة الاستثمارات في القارة وتسويق بضائعهم في دولها مع الحدّ الأدنى من الرسوم الجمركية، ما سيمكّنهم من تعزيز حضورهم في منطقة يبلغ عدد سكانها نحو 1.3 مليار نسمة، حيث قال أردوغان: “نتابع عن كثب اتفاقية منطقة التجارة الحرة القارية الأفريقية التي دخلت حيّز التنفيذ في 1 يناير/ كانون الثاني 2021”.
كما أُبرمت مذكرة تفاهم بين الجانبَين للفترة من عام 2022 إلى عام 2026، وتنصُّ على “تعزيز التعاون” مع أفريقيا في 5 مجالات رئيسية: التجارة والاستثمار، السلام والأمن والحوكمة، التعليم، الشباب وتنمية المرأة، البنية التحتية والتنمية الزراعية، وتعزيز النظم الصحية القادرة على الصمود.
التعاون الأمني والعسكري
ثمة أشكال متعددة للتعاون العسكري بين أفريقيا وتركيا، تترواح بين فتح قاعدة عسكرية في الصومال أو دعم جهة شرعية لمحاربة التهديدات العسكرية مثل تلك الموجودة في ليبيا، أو توفير الخبرة المهنية للجيوش، وتوفير المعدات العسكرية، وبيع القدرات الدفاعية عالية التقنية مثل الطائرات المسيّرة والصواريخ.
وكتبت مجلة “كابيتال” الاقتصادية الفرنسية الشهرية أن تركيا تبيع طائراتها المسيّرة المسلحة كـ”الخبز الطازج”، بعد أن ساعدت بنجاح أذربيجان في دفاعها ضد أرمينيا، مؤكدة أن تركيا ترغب في التطور بقطاع الدفاع في أفريقيا عقب التقدم في مجالَي التعاون والتجارة، وتثق بمسيّراتها المسلحة بهذا الخصوص.
تركيا ستجلس عبر مسيّراتها المسلحة إلى طاولة المفاوضات مع المزيد من الأوراق الرابحة.
كما قالت المجلة إن القمة الأفريقية التركية الثالثة ركّزت بشكل خاص على القضايا الأمنية، ولفتت إلى وجود قاعدة عسكرية تركية في الصومال، وإلى أن المغرب وتونس تسلما أولى المسيّرات التركية المسلحة في سبتمبر/ أيلول، حيث كان المغرب قد وقّع على صفقة استيراد 12 من مسيّرات بيرقدار.
كما أبدت أنغولا اهتمامها بالمسيّرات المسلحة التركية خلال زيارة أردوغان في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، ووقّعت تركيا اتفاقية عسكرية مع إثيوبيا، حيث بلغت قيمة صادرات الصناعات الدفاعية التركية إلى إثيوبيا 94.6 مليون دولار العام الماضي.
وأضافت المجلة الفرنسية أن تركيا ستجلس عبر مسيّراتها المسلحة إلى طاولة المفاوضات مع المزيد من الأوراق الرابحة، مشيرة إلى أن جهود تركيا لتطوير التعاون مع أفريقيا في قطاع الدفاع لا تقتصر على بيع الأسلحة أو الذخيرة العسكرية أو المركبات، وأن الجيش في توغو تمَّ تحديثه بدعم تركي، وأن تركيا وفّرت تأهيلًا عسكريًّا وذخائر وعربات إزالة ألغام، كما عززت نفوذها تدريجيًّا في أفريقيا من خلال 37 مكتبًا عسكريًّا.
وقد تداولت عدة جهات تفاصيل الاتفاقيات العسكرية الموقّعة مع النيجر، وتحدثت معلومات عن اتفاق على إقامة قاعدة عسكرية تركية على الأراضي النيجرية قرب الحدود مع ليبيا، ما يمنح تركيا موطئ قدم علني في دولة أفريقية ثالثة بعد القاعدة العسكرية في الصومال، التي أنشأتها عام 2016، وقاعدتَي الوطية ومصراتة في ليبيا هذا العام، ويشمل التعاون العسكري مع النيجر عقدًا للأسلحة يتضمّن تسليم طائرات بيرقدار تي بي 2.
وإضافة إلى الطائرات المسيّرة، فإن بعض الدول الأفريقية (النيجر، توغو، تشاد، إثيوبيا، الصومال..) تشتري بالفعل معدات أخرى من تركيا (مثل طائرات تدريب “هورکوش”، عربات مدرعة، شاحنات).
وفي جولة أردوغان الحالية، قال الرئيس الكونغولي، فيليكس تشيسكيدي: “لقد طلبنا دعم تركيا لمكافحة الميليشيات والجماعات الإرهابية في شرق بلادنا”.
التعاون الثقافي
عززت تركيا نفوذها في أفريقيا بمنحه بُعدًا إنسانيًّا وثقافيًّا ودينيًّا وتعليميًّا، وضاعفت الحكومة التركية من افتتاح مكاتب وكالة التعاون والمساعدة الإنمائية التابعة لها (“تيكا” – وكالة التعاون والتنسيق التركية)، حيث وصل عددها إلى 22 في القارة لحدّ الآن.
كما استثمرت في عمليات ترميم التراث (خاصة إعادة تأهيل ميناء سواكن العثماني السابق في السودان)، أو في بناء المساجد في البلدان الإسلامية مثل مالي، وأيضًا في دول ذي غالبية مسيحية مثل غانا، حيث تمَّ افتتاح “مسجد الشعب الكبير” في أكرا عام 2017، الذي بُني على طراز المساجد العثمانية.
وغالبًا ما تكون هذه المباني الدينية مصحوبة بأعمال خيرية (توزيع مواد غذائية خلال شهر رمضان، إلخ) أو إنسانية (دعم مشاريع الري الزراعي، تشييد بنى تحتية كالمستشفيات، إلخ).
وتشارك في هذه المبادرات الإنسانية أو الدينية أو الثقافية هيئات عمومية، مثل رئاسة الشؤون الدينية التركية أو معاهد يونس أمره (النظير التركي للمعاهد الفرنسية) أو وكالة أنباء “الأناضول”، ناهيك عن منظمات غير حكومية إسلامية كبيرة، مثل الهلال الأحمر التركي ووقف عزيز حمود هدائي أو هيئة الإغاثة الإنسانية وحقوق الإنسان والحريات
كما يشكّل العمل التربوي أحد الأبعاد الرئيسية لهذه القوة الناعمة، وكانت في الأساس حركة “غولن” هي التي تتولّى الأمور في البداية، وقد قامت بإنشاء مدارس ناطقة باللغة الإنكليزية أو الفرنسية في العديد من بلدان القارة، ولكن منذ تصنيفها منظمة إرهابية إثر محاولة الانقلاب عام 2016، عملت الحكومة التركية على استعادة السيطرة على هذه الشبكة التعليمية من خلال مؤسسة “معارف”، الذراع التعليمية الخارجية التركية، التي باتت تملك 23 فرعًا في أفريقيا.
تنافس فرنسي تركي
“سنواصل تعزيز تعاوننا مع قارة أفريقيا، ونضالنا هناك يزعج المستعمرين”.. تعبِّر هذه الكلمات للرئيس التركي عن احتدام الصراع التركي الفرنسي في القارة السمراء، وعن مغازلة أردوغان للأفارقة لجذبهم لمزيد من التعاون بعيدًا عن فرنسا ذات الماضي الاستعماري، حيث يقول أردوغان: “نضال تركيا في سبيل عالم أكثر عدلًا يزعج كثيرًا المستعمرين وامتداداتهم بيننا، نحن لا نتعامل أبدًا مع أولئك الذين يتطاولون على تركيا بدلًا من مواجهة ماضيهم الدموي والقاتل في أفريقيا”.
وكثيرًا ما حملت خطابات أردوغان الموجَّهة إلى الأفارقة رسائل مبطنة لفرنسا، ينتقدُ فيها الماضي الاستعماري، حيث قال: “لسنا ممّن يتبعون سياسات استعمارية قديمة بوسائل وطرق حديثة، على الإطلاق، نحن نسعى لتحقيق النجاح والمسير جنبًا إلى جنب مع إخوتنا الأفارقة”.
ويرى المؤيدون للنفوذ التركي في أفريقيا أن التعاون التركي-الأفريقي سيؤرق الغرب، المعتاد على السيطرة على مقدرات القارة الأفريقية على حساب “إذلال” وإفقار شعوبها، رغم الثروات الطبيعية التي تمتلكها، وأن توسعًا للنفوذ التركي غير الاستعماري يأتي على حساب تقليص أدوار ذيول الدول الاستعمارية، وأن تركيا تقوم علاقتها على أساس الشراكة والمصالح المتبادلة، عكس فرنسا التي تمارس النهب والقهر وتسلب الدول ثرواتها وقرارها.
يذهب بعض الناقمين على الدور التركي المتصاعد في أفريقيا بعيدًا، مشيرين إلى أن تركيا مجرد واجهة لحليفتها الولايات المتحدة التي ترغب في تقليص وإنهاء النفوذ الفرنسي في القارة السمراء.
وفي الواقع، إن تغطية الصحافة الفرنسية الواسعة لجولات أردوغان الأفريقية، تعكس قلق باريس المتزايد من تصاعد النفوذ التركي في أفريقيا، وتزايد حجم التجارة والتعاون الاقتصادي والتعاون العسكري بين أنقرة والقارة السمراء، والذي يأتي على حساب النفوذ الفرنسي الذي بدأ يتقلّص لصالح الدور التركي المتصاعد.
وعلّقَت صحيفة “لو موند” الفرنسية سابقًا على هذا التوجُّه التركي، قائلة إن “التوسع التجاري التركي الذي كان يشبه قوة ناعمة بات يتحول تدريجيًّا إلى قوة صلبة، مع سعي أنقرة لتعميق التعاون الأفريقي ونقله إلى الجانب الأمني والعسكري، وهو أمر يقلق فرنسا”.
وقد أزعج فرنسا أن التدخل التركي في أفريقيا قد أخذَ منحى سياسيًّا بشكل متزايد، ففي فترة 2020-2021، وبالتوازي مع تدخلها العسكري في ليبيا، وقّعت أنقرة اتفاقيات تعاون عسكري مع النيجر وإثيوبيا وتشاد وتوغو، كما كانت أول دولة تجري اتصالات مع حكومة مالي الانتقالية التي أُنشئت في أعقاب انقلاب أغسطس/ آب 2020، الأمر الذي أثار استياء باريس.
غير أن هناك من ينظر بعين الريبة إلى النفوذ التركي المتصاعد في أفريقيا، وينتقد بشدة حرص أنقرة على تنمية علاقاتها مع القارة السمراء، مؤكدين أن تحرك الدبلوماسية التركية نحو دول أفريقية لطالما اُعتبرت من “الملاعب التقليدية” للسياسة الفرنسية، ونقل المعركة بين أنقرة وباريس من ليبيا وشرق المتوسط إلى منطقتَي الساحل والصحراء، سينتج عنه توترات تكون مناطق “فقيرة ومتخلفة” مسرحًا لها.
أخيرًا.. يعكس التطور المذهل في العلاقات التركية الأفريقية على مدار العقدَين الماضيَين، وتصاعد النفوذ التركي في القارة السمراء، وجود استراتيجية ذات أهداف محدَّدة وتطلُّعات طموحة لدى حكومة أردوغان، تسعى إلى تحقيق مصالح أنقرة وزيادة دورها الاستراتيجي ووزنها الإقليمي والدولي، وهو ما قد يصطدم بالنفوذ الفرنسي، لكن ربما يصبُّ هذا التدافع التركي الفرنسي في النهاية في صالح أبناء القارة السمراء.