قبل عام 1993، كان الوضع السياسي الفلسطيني تحكمه الأحزاب والفصائل ومنظمة التحرير الفلسطيني، ولم يكن مفهوم الدولة السياسية بمطمحٍ حينها، بل هدفًا تبتغي معظم فصائل المقاومة أن تصله وتقيم دولتها على كل فلسطين التاريخية، بعد اندحار الاحتلال وهزيمته في هذه الأرض المقدسة.
لكن خطوةً منفردة قامت بها منظمة التحرير ممثَّلة بحركة فتح، دون دعم فصائل المقاومة الفاعلة كحماس والجهاد، تمثلت بمدّ اليد إلى الاحتلال للسلام، وتوقيع اتفاقية أوسلو، وما يترتّب عنها من مفهوم إجراءات إقامة الدولة الفلسطينية، ولكن ضمن حدود الأراضي المحتلة عام 1967، أي الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس، وإقامة دولة “إسرائيل” على الأراضي المحتلة عام 1948.
على إثر توقيع الاتفاقية، أُسِّست “دعائم” السلطة الوطنية الفلسطينية، وبدأ الحديث عن دولة بمؤسسات حكومية ووزارات وبرلمان (مجلس تشريعي) ووزارة خارجية وسفراء، وبدأت السلطة تمهّد الطريق أمام حلّ الدولتَين الذي وقّعت عليه في أوسلو في خطوة أحادية الجانب، بينما كان الاحتلال مستمرًّا بالاستيطان والتهام أراضي الدولة الفلسطينية المبنية في مخيلة السلطة.
في ضوء ذلك، أُنشئت وزارة الخارجية الفلسطينية، والتي يفترض أن تُعنى بالدبلوماسية الخارجية لفلسطين، وتحاول استقطاب الدعم العالمي لقضية حلّ الدولتَين، وفضح جرائم الاحتلال، وبناء جسور التواصل مع العالم الخارجي تكون الرواية الفلسطينية فيها سيدة الموقف، إلا أن وزارة الخارجية -كحال أي مؤسسة رسمية فلسطينية- لم تسلم من فساد الحكومة، بل كانت أحد عناوين الفساد الرئيسية فيها.
الدبلوماسية: حكر الفئة الحاكمة
مع مطلع العام الحالي، ضجّ الشارع الفلسطيني بخبر تعيين سلام الزواوي سفيرة لفلسطين لدى إيران خلفًا لوالدها صلاح الزواوي، الذي تولّى منصبه على مدار 4 عقود، والانتقادات التي جاءت ضمن سلسلة من التعيينات طالت أبناء المسؤولين وقيادات السلطة الفلسطينية وحركة فتح، وتوريث المناصب من الجيل الأول من الفئة الحاكمة إلى أبنائهم، دون أدنى معيار من المسؤولية والشفافية والنزاهة.
الزواوي، ابنة الصديق الشخصي للرئيس الفلسطيني محمود عباس، ليست الأولى التي تعيَّن في منصب دبلوماسي مهمٍ استنادًا لمنصب والدها، ففي عام 2021 عيّن الرئيس الفلسطيني ابنة القيادي الراحل في حركة فتح جمال محيسن سفيرةً لفلسطين في السويد، فيما عُيِّن ابن القيادي في الحركة ورئيس المجلس الوطني في منظمة التحرير سفيرًا في إسطنبول، وابنة عضو اللجنة التنفيذية لحركة فتح محمود أبو إسماعيل مستشارة دبلوماسية في دبي.
ليست التعيينات فحسب التي يجول فيها حُكم الفساد، بل الجوازات الدبلوماسية، حيث مؤخرًا أصدر الرئيس عباس قرارًا بشأن جوازات السفر الدبلوماسية، ينصّ على منحه لـ 28 فئة، وقد جاءت هذه الفئات وفق ما يروق السلطة، بعيدًا عن الأحقّية الدبلوماسية، وبشكل يخالف أصلًا القانون الأساسي الفلسطيني الذي لا يمنحه صلاحية إصدار التشريعات إلا بالضرورة القصوى ووقت الخطورة.
وبحسب القرار بالقانون الجديد، يُمنح جواز السفر الدبلوماسي لكل من رئيس الدولة والرؤساء السابقين، رئيس الوزراء والوزراء ومن في حكمهم الحاليين والسابقين، أعضاء اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير السابقين والحاليين، رؤساء المجلس الوطني لمنظمة التحرير والمجلس المركزي للمنظمة والمجلس التشريعي، أعضاء المجلس المركزي للمنظمة، قادة ورؤساء وأمناء عامّين لفصائل منظمة التحرير وأعضاء هيئاتها القيادية، وأعضاء المجلس التشريعي الحاليين.
الرئيس، وعلى خلاف القرار بالقانون الذي أصدره، حاول تصفية حساباته مع خصومه في الساحة الفلسطينية الداخلية، فحرم القرار الجديد سياسيي حركة حماس والجهاد من الجوازات، كما حرّمه على مسؤولين مقرّبين من الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، والمقرّبين من الأسير الفلسطيني القيادي في فتح مروان البرغوثي، كناصر القدوة وزير الخارجية السابق، بحكم الخلافات الداخلية والتيارات المتصادمة الحالية داخل حركة فتح.
عند الحديث عن “سوق” الدبلوماسية للسلطة الفلسطينية، لا بدَّ من الإشارة بشكل مثير للاستغراب، أن وزير الخارجية الفلسطيني رياض المالكي على رأس عمله منذ عام 2009، بتعاقب 3 حكومات فلسطينية لحركة فتح، حيث لم يتغيّر وزير الخارجية، وكأن المنصب صُنع لأجله.
من أموال الشعب
الأزمة المالية للسلطة الفلسطينية سيناريو قديم متجدِّد، تعجز الحكومة عند وقوعه دفع كامل رواتب الموظفين العموميين، الذين بلغ الحد الأدنى للأجور لديهم مؤخرًا 600 دولار، في وقت تستلزم فيه ظروف المعيشة في فلسطين للأسرة المتوسطة أكثر من 1400 دولار، فضلًا عن ذلك تعاني القطاعات والبنى التحتية الفلسطينية ترهُّلًا وسوء أحوال، وما زالت العديد من القرى، خاصة البدوية، خارج حسابات التنمية للسلطة، وتفتقر إلى المدارس والدعم الصحي والاقتصادي.
في ظلّ هذا الوضع، يحظى دبلوماسيو السلطة الفلسطينية برواتب تصل إلى 3200 دولار أمريكي شهريًّا، مع علاوة سنوية تقدَّر بـ 1.25%، والمسكن والمواصلات ورزمة مالية للثلاثة أشهر الأولى من تولّي المنصب تغطيهم الدولة خارج إطار الراتب الكبير.
الحضور صفر!
عند تعيين سلام الزواوي سفيرةً في إيران خلفًا لوالدها، تفاجأ الفلسطينيون حينها، إلى جانب توريث المنصب، من وجود سفير فلسطيني أصلًا في إيران طوال 4 عقود، حيث لم يصدر عن هذا الأخير، الذي تولّى منصبه عام 1981، أي نشاط دبلوماسي أو تصريح صحفي، ويجهل الشارع الفلسطيني وجوده رغم أنه قضى أطول مدة يقضيها سفير في العالم.
ليس الأمر في إيران فحسب، فالتاريخ يتذكر جيدًا عجز السفارة الفلسطينية في بلغاريا عن حماية القيادي في الجبهة الشعبية الفلسطينية عمر نايف من رصاص الموساد الإسرائيلي الذي اغتاله داخل السفارة، بل ذهب الحديث وقتها إلى تواطؤ السفارة في عملية الاغتيال.
وفي الوقت ذاته، ما زال عدد كبير من الشعوب الغربية يجهل وجود فلسطين، وإن كنتَ سائحًا فلسطينيًا في إحدى الدول ستصادف بشكل حتمي من يعتقد أنك من باكستان، عندما تبوح له باسم وطنك بالإنجليزية، وتحاول جاهدًا شرح موقع بلدك الجغرافي على خارطة العالم، ولكنه يعجز عن الذهاب بتفكيره هناك إلا إن ذكرت كلمة “إسرائيل”.
حضور “إسرائيل” في الشارع الغربي، وغياب فلسطين، تتحمل مسؤوليتهما العظمى السفارات الفلسطينية، التي تتقاضى أموالًا ضخمة لتنجز مهامها وترسّخ الرواية الفلسطينية وتكسب الدعم الدولي، حتى أنها عجزت عن الوقوف أمام اللوبي الصهيوني الضاغط في الأوساط الغربية، أو عرقلة مشروع صفقة القرن الذي طرحه الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب.
دبلوماسيو السلطة الفلسطينية تفتقدهم عندما تكون مغتربًا خارج البلاد وتحتاج إلى مساعدة رسمية لقضية ما، تعلم أنهم موجودون هناك في سفاراتهم، لكن لا تعلم حقًّا هل هم يمارسون ضغطًا خفيًا لا ترى بوادره على أرض الواقع، أم أن عبارة “تعيين السفير” تعني رحلة استجمام طويلة الأمد مدفوعة الأجر.