خلال الأشهر الماضية ظلّت أزمة أوكرانيا واحدة من أكثر القضايا الشائكة التي تصدّرت نشرات الأخبار وصفحات المواقع، مثيرة الكثير من الجدل في أوساط الساسة والمحلِّلين الذين تتباين آراؤهم في تقييم الدافع الروسي وردّة الفعل الأمريكية المتوقعة، ضاربين بذلك على طبول الحرب العالمية الثالثة، لا سيما بعد دعم روسيا للانفصاليين والاعتراف بجمهوريتَي دونيتسك ولوغانسك.
في خضمّ النقاش القائم، يسعى المقال إلى محاولة فهم طبيعة الأزمة من خلال تحليل الوضع الجيوسياسي لروسيا، وإدراكه ضمن السياق العريض للمحددات والخطوط العامة التي ترسم ملامح السياسة الخارجية لموسكو، وتقييم ردة الفعل الأمريكية ضمن الإطار نفسه.
روسيا والمعضلة الجغرافية المزمنة
في القرن التاسع قامت مجموعة من قبائل شرق أوروبا السلافية بتكوين اتحاد قَبَلي في محيط مدينة كييف، عاصمة أوكرانيا حاليًّا، لتشكّل قلب الأمة الروسية، إلا أن هذا الاتحاد نشأ في بيئة جغرافية قاسية وغير محصّنة، يتربّص بها الفايكنغ من الشمال، وتضطرب أوروبا في غربها، ويتوسّع المسلمون في جنوبها وبالقرب من سهولها الشرقية.
وجاء الغزو المغولي في القرن الثالث عشر ليفصل الكيان الروسي إلى كتلتَين، ويتمكّن المغول من غزو كييف وتدمير معظم المدن، مرسّخين بذلك للمعضلة الجيوسياسية كأهمّ عنصر في الثقافة الاستراتيجية الروسية، ولمبدأ التوسُّع كأهم محدِّد في سياستها الخارجية.
فخلال الفترة ما بين عامَي 1552-1917 كانت روسيا تتوسّع بمقدار 100 ألف كيلومتر مربع سنويًّا في جميع الاتجاهات، وتضمّ إليها سهولًا وأراض غير مأهولة في محاولة لاكتساب عمق استراتيجي يؤمّنها من الغزو.
عام 1814، وفي أعقاب حرب نابليون، غدت روسيا القوة الأكبر في ميزان القوة العالمي، وبدا أن قيصرها ألكسندر الأول يحاول رسم ملامح السلام الأوروبي الجديد في مؤتمر فيينا، غير أن هذا التوافق لم يدُم طويلًا، حيث وجدت روسيا نفسها تدافع عن محيطها الحيوي في حرب القرم ضد السلطنة العثمانية عام 1848، ومن ثم المناطق المتاخمة في آسيا الوسطى ضدّ حليفتها بريطانيا، وبدا جليًّا أن السيطرة على ميزان القوة لا تكفي لصناعة أمن روسي ما لم تكن مصاحبة بحزام جغرافي آمن.
هذه الحقيقة لم يستطع البلشفيون تخطّيها، حيث حين وصولهم إلى السلطة عام 1917 أعلن الثوار الشيوعيون انسحاب بلادهم من الحرب العالمية الأولى، لما في ذلك من تناقض صريح مع الأيديولوجيا اليسارية النابذة للإمبريالية والاستعمار.
إلا أنهم، وتحت ضغط الجغرافيا، سرعان ما بدؤوا بحملات توسُّعية لضمّ المناطق الجغرافية المحيطة بهم واحتلال أراضي الدولة العثمانية المتاخمة لتكوين الاتحاد السوفيتي، ومن ثم صناعة حزام جيوسياسي من خلال مجموعة من الدول التابعة (Satellite States)، والذي وصل إلى ذروته في الحرب الباردة التي قسمت العالم ما بين قوتَين، تسعى كل منهما إلى تكوين نطاق نفوذها الجيوسياسي بمسوِّغات أيديولوجية.
روسيا الجديدة
عمّق سقوط الاتحاد السوفيتي المعضلة الجغرافية الروسية، حيث خرجت العديد من الأقاليم الجغرافية من الاتحاد، قرابة 5 ملايين كيلومتر مربع، لتصبح دولًا مستقلة ويتمُّ رسم خارطة جديدة لروسيا ومحيطها الجغرافي، ويظهر معها واقع جيوسياسي جديد تحاول روسيا رسم استراتيجيتها الكبرى فيه.
وازداد الطين بلّة حينما قررت الولايات المتحدة توسعة عضويات دول حلف شمال الأطلسي (الناتو)، ليضمَّ أجزاء سابقة من الاتحاد السوفيتي وأعضاء سابقين من المعسكر الاشتراكي.
تقع روسيا حاليًّا في 17 مليون كيلومتر مربع، ورغم المساحة الشاسعة إلا أنها واحدة من أكثر الدول عزلة وافتقارًا إلى المنافذ؛ فمن الشمال يحول صقيع المنطقة القطبية وتجمُّد مياهها دون إمكانية استغلال الأراضي لتكوين تجمعات سكانية فعّالة أو إنشاء موانئ بحرية، بينما في الجنوب تجدُ روسيا نفسها محاصرة بمساحات برّية شاسعة مع منفذ وحيد عبر البحر الأسود.
غير أن طبيعة البحر الأسود شبه المغلقة بمضيقَي البوسفور والدردنيل، اللذين يقعان ضمن نفوذ تركيا -عضو في الناتو-، يضعفان الموقع الاستراتيجي لروسيا، والتي ازداد الخناق عليها بعد انضمام حليفتَيها السابقتَين في البحر الأسود، رومانيا وبلغاريا، إلى الناتو.
السيناريو الأقرب هو استمرار بوتين في استخدام حروب الوكالة من خلال الانفصاليين وخوض حروب محدودة في الأقاليم المناصرة لروسيا، وتحييد عوامل قوة أوكرانيا الحربية من خلال تدمير البنية التحتية العسكرية
المشهد نفسه يتكرر في الغرب من خلال حصار برّي يمتدُّ من البحر الأسود في الجنوب الغربي، وصولًا إلى المنطقة القطبية في أقصى الشمال، مع منفذ وحيد على بحر البلطيق عبر ميناء سان بطرسبرغ، وهو أيضًا بحر شبه مغلق تسيطر الدنمارك -عضو الناتو- على مضائقه الموصلة إلى بحر الشمال.
وقد ازداد الموقف الاستراتيجي الروسي في البلطيق صعوبة بعد خروج دول البلطيق من الاتحاد السوفيتي عام 1991، وانضمامها إلى الناتو عام 2004، بينما يقلِّل البُعد الجغرافي وصعوبة المناخ من فرص استغلال إطلالة روسيا على المحيط الأطلسي شرقًا.
والخلاصة أن روسيا تعاني من حصار جغرافي متمثِّل في التحديات الطبيعية، وحصار جيوستراتيجي متمثِّل في انضمام دول الاتحاد السوفيتي وحلف وارسو إلى المعسكر الغربي، ما يعني تضييق الخناق وإضعاف الثقل الروسي في ميزان القوة العالمي، وخسارة العمق الاستراتيجي من خلال تحوُّل أراضي سوفيتية/ حاجزة إلى قواعد متقدمة للناتو على الحدود الروسية.
الخصوصية الأوكرانية
تتضاعف أهمية الحدود الغربية لروسيا لأسباب ديموغرافية، حيث تتركّز معظم التجمعات السكانية في غرب البلاد، وكذا أسباب سياسية تتمثّل في كونها خطّ التماسّ مع دول المعسكر الغربي، لهذا تكتسب دول شرق أوروبا أهمية استراتيجية قصوى لموسكو باعتبارها نقاط الاتصال والانفصال عن الغرب، التي يجب السيطرة عليها كجزء رئيسي من منظومة الأمن القومي الروسي.
في هذا السياق، يمثّل انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو أو حتى الاتحاد الأوروبي خسارة مضاعفة للروس على الصعيد الجيوسياسي والاقتصادي والعسكري، حيث ترتبط الدولتان بشريط حدودي يمتدُّ لأكثر من 1100 كيلومتر وعمق 800 كيلومتر عن العاصمة موسكو.
كما تُعتبر المنفذ البرّي لخطوط إمداد الغاز الطبيعي الروسي لأوروبا الغربية، والذي يمثل الرافد الاقتصادي الأكبر للبلاد، وقد حرص الرئيس بوتين منذ وقت مبكّر على إنذار الغرب من ضمّ أوكرانيا إلى المعسكر الغربي، مبيّنًا أن عاقبته ستكون محو أوكرانيا من الخريطة.
تُظهر تهديدات بوتين مدى حساسية الملف الأوكراني باعتباره قضية مصيرية لروسيا، غير أن أمريكا والاتحاد الأوروبي لم يتعاملا معها بحكمة، حيث كانت هناك مساعي حثيثة لتغريب أوكرانيا بداية من دعم الثورة البرتقالية عام 2014 ضد الرئيس يانوكوفيتش الموالي لموسكو، ومن ثم تصريحات الرئيس الأمريكي الأسبق أوباما عن ضمّ أوكرانيا إلى الناتو، بالإضافة إلى المساعي الأخيرة لإدخالها ضمن منطقة اليورو؛ في إطار هذه التحركات تبدو عسكرة الحدود الروسية-الأوكرانية ردة فعل متوقعة.
إلا أن شن روسيا لعملية عسكرية، والتي بدأت بالفعل فجر اليوم الخميس، في أوكرانيا، يمثّل مخاطرة كبيرة، فالبلد تبلغ مساحته أكثر من 600 ألف كيلومتر مربع، ويبلغ تعداد سكانه حوالي 42 مليون نسمة منقسمين بشدّة ثقافيًّا وعرقيًّا وسياسيًّا، لا سيما في موقفهم تجاه التوتر الروسي-الغربي. وبشكل عام تتركز العرقيات الناطقة بالروسية في شرق البلاد، بينما يتركز الناطقون بالأوكرانية في غرب ووسط البلاد.
ولذا حين تقييم خيارات الحرب الروسية في أوكرانيا، فالسيناريو الأقرب هو استمرار بوتين في استخدام حروب الوكالة من خلال الانفصاليين وخوض حروب محدودة في الأقاليم المناصرة لروسيا، وتحييد عوامل قوة أوكرانيا الحربية من خلال تدمير البنية التحتية العسكرية كالمطارات التي أعلنت روسيا صباح اليوم بالفعل عن إخراجها عن الخدمة، وذلك من خلال ضربات مكثفة وخاطفة طبقًا لبنك أهداف معد مسبقًا.
الأزمة الأوكرانية ليست محاكاة لنوستالجيا تاريخية ورغبة روسية في استعادة حلم الإمبراطورية، بل هو استجابة لمعضلة جغرافية ملحّة ومحاولة إعادة فرض روسيا كقوة عالمية كبرى.
وعليه، إن ما يصبو إليه بوتين من خلال عسكرة الحدود الروسية-الأوكرانية ودعم الحركات الانفصالية، هو توجيه رسالة شديدة اللهجة للمجتمع الغربي حول بقاء أوكرانيا، في أقل تقدير، منطقة عازلة بين روسيا والمعسكر الغربي، أو فصلها لدويلات منقسمة بين روسيا والغرب تقوم الشرقية منها بدور الكيانات الحاجزة.
ويُعتبر هذا استمرارية للمعضلة الجغرافية نفسها التي هيمنت على صناعة الاستراتيجية الروسية، ويمكن القول إنه من خلال استجابته للتحدي الراهن، يسعى الرئيس الروسي إلى صناعة ما يمكن تمثيله بنسخة بوتين من “مبدأ مونرو”.
بالنسبة إلى أمريكا لا تعدّ أوكرانيا أولوية استراتيجية قصوى قد تدفع البيت الأبيض إلى استخدام الخيار العسكري ضد أي حراك روسي مرتقب، غير أن المعضلة التي يواجهها الرئيس بايدن هي أنه في حال تمَّ الرضوخ للرغبة الروسية في أوكرانيا أو السماح لوبتين بتقسيمها، فإن هذا سيعني ضمنيًّا الاعتراف بحقّ روسيا في تعريف مجال جغرافي حيوي لا يمكن المساس به، وبالتالي صياغة واقع جيوسياسي جديد تفرض فيه روسيا نفسها كقوة عالمية، وتنتهي بموجبه رفاهية حرية التحرك في العالم التي تمتّعت بها أمريكا طوال 22 عامًا ماضية.
وبالتأكيد لن يتوقف ذلك عند أوكرانيا وسيمتدُّ إلى جورجيا وآسيا الوسطى وبحر قزوين، والأسوأ من ذلك، بالنسبة إلى أمريكا، سيكون في حال قررت الصين أن تحذو حذو روسيا، وبدأت تحاول صناعة “مبدأ مونرو” الخاص بها في تايوان وبحر جنوب الصين والمحيط الهادئ، ولعلّ حضور بوتين لحفل افتتاح دورة الألعاب الشتوية في بكين يمثل رسالة ضمنية حول أبعاد الأزمة وانعكاساتها الجيوسياسية.
الخلاصة أن الأزمة الأوكرانية ليست محاكاة لنوستالجيا تاريخية ورغبة روسية في استعادة حلم الإمبراطورية، بل هو استجابة لمعضلة جغرافية ملحّة ومحاولة إعادة فرض روسيا كقوة عالمية كبرى.
وفي الجانب الأمريكي، لا يمثل تجييش الحدود الروسية-الأوكرانية ودعم الانفصاليين تهديدًا لحليف أمريكي أو انتهاكًا للديمقراطية وقيم الليبرالية، وإنما تهديدًا للهيمنة الأمريكية وحرية التنقل حول العالم، وإمكانية تحول النظام العالمي من حالة النظام الأحادي القطب الى النظام متعدد الأقطاب، لا سيما إذا امتدّت الأزمة الروسية إلى الأقاليم الجغرافية الأخرى، أو كان ذلك محفّزًا للصين أن تبدأ هي الأخرى بتعريف حزامها الجغرافي الآمن.