ترجمة حفصة جودة
“اسمي الحقيقي أمين الله” هذا ما قاله المسؤول – 81 عامًا – عن أقدم مساجد أستراليا، لكنني أصبحت روبرت هنا عندما عملت في المناجم ومقصات الأغنام، فلم يستطع أحد نطق اسمي بشكل صحيح.
يشرف أمين الله شامروز – الشهير بـ”بوبي” – على متحف مسجد بروكين هيل، وهي مدينة تعدين نائية في أستراليا يسكنها 17 ألف نسمة وغنية بتاريخها الإسلامي غير المعروف.
بُني مسجد بوبي عام 1887 ويعد أقدم مسجد ما زال موجودًا في أستراليا، أسس المسجد أشخاص معروفون باسم “الجمّالون الأفغان” وهو مصطلح يصف نحو 2000 إلى 4000 من قائدي الجمال الذين جاءوا إلى أستراليا في بداية القرن الـ19 من باكستان والهند وأفغانستان، لتصل أستراليا أكبر موجة من الإسلام عن طريقهم.
وصل الجمّالون هناك بعد أن أدرك المستعمرون الأوروبيون الذين سافروا إلى مناجم الذهب في وسط أستراليا الأحمر الوعر، أنهم بحاجة إلى طريقة جديدة لنقل الإمدادات، فبسبب الرمال الناعمة والحرارة، لم تتمكن الأحصنة من القيام بالعمل جيدًا، لذا كان القرار باستيراد الجمال، لكن بمجرد وصولهم أستراليا اكتشف المستعمرون أنهم لا يملكون الخبرة لقيادتها، وأنهم بحاجة إلى خبراء.
الجمّالون الأفغان
اتُخذ القرار بإدخال الجمّالين الأفغان الذين بدأوا في الوصول بحرًا عبر موانئ مزدحمة مثل ميناء فريمانتل وميناء بيري وميناء أوغستا، شُحن نحو 20 ألف جمل بين عامي 1860 و1930 إلى أستراليا، وقد وصل أول 3 جمّالين إلى أستراليا عام 1860: اثنان مسلمان والثالث هندوسي.
كان الجمّالون يحملون الإمدادات للمستعمرين العاملين في مناجم الذهب وسط أستراليا، ويرشدون البعثات بين الماشية البعيدة ومحطات الأغنام، ويحددون مصادر المياه للمسافرين، أنشأوا أيضًا محطات إمدادات على طول الطريق، وفي بعض الأحيان أسسوا مساجد بجوار الجداول والبحيرات الصغيرة.
كان هذا العمل الشاق أساسيًا لتطور سكك حديد أستراليا وصناعة التعدين، كانت درجات الحرارة في المناطق النائية بأستراليا متنوعة بشكل مدهش، إذ تصل إلى 38 درجة سليزية في شهور الصيف وعادة ما تصبح تحت الصفر في ليالي الشتاء، كان الجمّالون يبتعدون عن ديارهم لأشهر، تاركين أطفالهم في رعاية زوجاتهم اللاتي يكن عادة من النساء المحليات.
يمكنك أن تشعر بآثار هؤلاء الجمّالين في أستراليا الحديثة سواء في المدن الكبرى مثل مدينة أديليد حيث أسسوا مسجد أديليد المركزي، أم في المراكز الإقليمية النائية مثل بروكين هيل.
اشتُق اسم “The Ghan” أشهر خط سكة حديد أسترالي يبلغ طوله 3 آلاف كيلومتر ويمتد من السواحل الشمالية حتى الجنوبية، من الجمّالين الأفغان، ومثل خط السكة الحديد – الذي سُمي في الماضي باسم “أفغان إكسبرس” – تمكن الجمّالون من اجتياز أصعب المناطق الأسترالية.
يقول بوبي: “كان عملًا شاقًا حقًا، لقد اعتادوا سكب الماء حول الأشجار في حاويات كبيرة من الصُلب، وبذلك تمكنوا من تحديد مكان المياه عند عودتهم”.
أنجب بوبي وزوجته 3 بنات، وهو السليل المباشر لأحد أشهر الجمّالين في بروكين هيل، وآخر الأحياء من جيله أيضًا، كان والد بوبي شامروز خان وجده لأمه زيد الله فيض الله من أكثر الجمّالين نجاحًا وقد صلّوا في المسجد الذي يشرف عليه بوبي الآن.
أمضى بوبي 30 عامًا في البحث عن الجمّالين وأصبح أشهر المتحدثين باسم أحفادهم، يقود بوبي الجولات في المسجد ويقوم بمقابلات مع محطات التليفزيون المهتمة.
أجرى بوبي معظم بحثه من خلال البحث في صور العائلة والتحدث مع الأقارب، وهو أمر اهتم به بعد أن تحدث إليه الكثير من الغرباء الفضوليين أو المسلمين المارين بالمدينة للحصول على معلومات.
ساعد بوبي في الكشف عن فصل من تاريخ أستراليا يضم أول موجة من الإسلام في البلاد، كان معظم الجمّالين الذين وصلوا أستراليا من المسلمين السنة، وقد أسسوا أول مساجد في البلاد، بعضها بُني على بُعد مئات الكيلومترات من المراكز الرئيسية.
بناء مجتمع
بنى الجمّالون أول مسجد – مسجد ماري – عام 1861 وهو يقع على بُعد 600 كيلومتر من أديليد أقرب مدينة رئيسية، لكنه لم يعد موجودًا في موقعه الأصلي، واليوم ما زال موقع المسجد غير معروف، لكن البعض يعتقد أنه هُدم في خمسينيات القرن الماضي، بنُيت صورة طبق الأصل منه لاحقًا من أجل السياح لكن ليس في نفس الموقع الأصلي.
كان جد بوبي الذي تُوفي عام 1962 آخر مُلا في مسجد بروكين هيل، لكنه ووالد بوبي لم يعلما الصغار لغتهم الأم – الأوردو – التي كان يسمعها بوبي عندما يتحلقون حول النار ليلًا، لم يعلماهم كذلك عاداتهم الدينية والإيمانية.
يقول بوبي: “المشكلة تكمن في أننا كنا صغارًا وكانا مشغولين للغاية، لذا اندمجنا في الحياة الأسترالية”، لكن المسلمين الأوائل في بروكين هيل علموا بوبي كيف يقيم جنازة إسلامية، وقد ساعد في دفن جده وأوصى بدفنه وزوجته وفقًا للعادات الإسلامية.
يضيف بوبي “لدينا جزء خاص في المقبرة، سوف نُدفن كما دُفن الأفغان القدامى وأمي وأبي، لدي قبر هنا ولزوجتي كذلك”.
في بداية القرن الـ20 كان هناك نحو 400 جمّال يعيشون في بروكين هيل، عاشوا في مخيمين على الأطراف الشمالية والغربية للمدينة، كان لكل مخيم مسجده، لكن المسجد الشمالي فقط – حيث يعمل بوبي – ما زال على حاله.
يعمل المسجد الشمالي الآن أغلب الوقت كمتحف، لذا تصلي الـ15 عائلة المسلمة في بروكين هيل بمركز المعراج للدراسات الإسلامية والصوفية الذي افتُتح عام 2013، يضم المركز قاعة صلاة ومكتبة ومناطق للدراسة ومتجر كتب كبير – منذ 2019 – ومخبز صوفي.
انجذب مؤسسو مركز الدراسة بقيادة المرشد علي السنوسي – ليبي وصل أستراليا عام 1990 – إلى بروكين هيل في محاولة لإعادة إحياء التراث الروحي الذي بدأه الجمّالون قبل 200 عام، يقول الدكتور أبو بكر سراج الدين كوك – زميل باحث في مركز الدراسة -: “يقول الإسلام إن المياه رمز للمعرفة، هل هناك أفضل من الحصول على نبع ماء في الصحراء؟”.
واليوم، يتأرجح عدد سكان بروكين هيل المسلمين نظرًا لوضع المدينة كوجهة لآلاف العمال المؤقتين الذين يعملون في مناجم الزنك والرصاص القريبة (هناك حقيقة أخرى غير معروفة وهي أن شركة “BHP” أكبر شركة تعدين في العالم، ترمز إلى “Broken Hill Proprietary”).
من بين العمال المؤقتين ضباط شرطة وموظفو الصحة المتدربون الذي يقضون فترة تخصصهم في بروكين هيل، وبعضهم يأتي للصلاة في المركز.
الإرث الروحي
بالإضافة إلى إمامة المصلين وإلقاء خطبة الجمعة في مركز الدراسة، يبحث دكتور كوك في التاريخ الإسلامي الواسع بأستراليا، حتى الآن، ما زالت الأبحاث قليلة عن الجمّالين وأوائل المسلمين الذين زاروا أستراليا مثل تجار مدينة ماكاسر الإندونيسية وهو ما يبحث فيه دكتور كوك.
بقراءة تقارير الصحف الأرشيفية عن الجمّالين، تمكن كوك من استخدام معرفته الإسلامية لتفسير العادات التي لم يتمكن المستعمرون الأوروبيون من فهمها في ذلك الوقت، يقول كوك: “تتحدث إحدى مقالات الصحف عن صراخ الجمّالين بأعلى صوتهم، ربما يكون ذلك من أقدم الأمثلة الموثقة عن حلقات الذكر الصوفية في أستراليا”.
من الصعب تتبع رحلة الجمّالين من شبه القارة الهندية حتى وصولهم إلى موانئ أستراليا، فالهجرة إلى أستراليا كانت خاضعة لمراقبة شديدة في ذلك الوقت، لكن وثائق مثل بطاقات الوصول والمغادرة كانت بلغات مثل الأوردو والعربية والفارسية والإنجليزية، ما يعني أن الباحثين بحاجة إلى أن يكونوا متعددي اللغات.
يقول دكتور كوك: “لدينا كل هذه التسجيلات في أماكن مثل ميناء أوغستا وفريمانتيل، لكن الوصول إليهم أمر صعب”.
عاد بعض الجمّالين إلى بلادهم بعد سنوات من العمل في أستراليا، فقوانين الهجرة التمييزية منعتهم من الحصول على الجنسية، لكن آخرين بدأوا في تأسيس عائلات مع نساء محليات، فقد كان الزواج من نساء سكان البلاد الأصليين أمرًا شائعًا.
يقول دكتور كوك: “كان هناك اعتراف متبادل مع السكان الأصليين في أستراليا لأن معظم الجمّالين جاؤوا من ثقافة قبلية، هناك بعض الحديث عن نساء من البيض اعتنقوا الإسلام وذهبوا إلى الحج”.
بينما بدأت الطرق والسكك الحديد التي ساعد الجمّالون في بنائها بربط أستراليا ببعضها البعض، قلت الحاجة إلى الجمال وقائديها، وبدأ بعض الجمّالين مثل شامروز – والد بوبي – بالعمل في المناجم، وجد آخرون عملًا في محطات الماشية والأغنام التي ساعدوا في إمدادها سابقًا بالماء والطعام.
يقول بوبي: “انتهى آخر فريق من الجمال أعرفه عام 1929، كان قائده سلطان عزيز، الذي نقل آخر حمولة من بروكين هيل إلى مكان يُسمى “دورهام داونز” وكان عمره 79 عامًا آنذاك”.
بعد نحو 100 عام، كان تاريخ الجمّالين مثل سلطان عزيز وزيد الله فيض الله وشامروز خان محفوظًا في المساجد والجداريات والتماثيل في أنحاء أستراليا، وهو تذكير صغير بفصل لم يحظ بالتقدير الكافي من التاريخ الأسترالي.
المصدر: ميدل إيست آي