أعلنت الولايات المتحدة وأوروبا عن سلسلة من العقوبات الاقتصادية على روسيا، في أول رد فعل رسمي إزاء خطوة الرئيس فلاديمير بوتين، الاعتراف بـ”دونيتسك ولوغانسك” الانفصاليتين (شرق أوكرانيا) كـ”جمهوريتين مستقلتين” في 21 فبراير/شباط الحاليّ، التي اعتبرها البعض خطوةً استفزازيةً تستهدف تعقيد المشهد وتقرب من إشعال الحرب في تلك المنطقة.
الرئيس الأمريكي جو بايدن في مؤتمر صحفي عقده بالبيت الأبيض، مساء أمس الثلاثاء، تعليقًا على التوترات التي تشهدها الساحة الأوكرانية تعهد بفرض عقوبات أكثر تصعيدًا إذا استمر الروس في تصعيدهم، قائلًا: “سنحرم موسكو من أي تعاملات تجارية في الولايات المتحدة، وستدفع ثمنًا باهظًا وأكثر فداحةً إذا واصلت عدوانها”.
وعلى ذات النهج كشفت بعض الدول الأوروبية عن عدد من الإجراءات العقابية ردًا على التحرك الروسي الأحادي، لكنها العقوبات التي تفتقد للموقف الموحد، إذ تباينت من دولة لأخرى وفق عدد من المعايير التي تراعي مصالح تلك الدول واحتمالية تأثرها بالتصعيد إزاء موسكو.
العقوبات على الروس ليست الأولى من نوعها، لكنها تأتي في وقت يعاني فيه الاقتصاد الروسي من أزمات طاحنة، وهو ما يدفع للتساؤل عن قدرة موسكو على الصمود أمام تلك الضغوط ودور الصين تحديدًا في دعم الموقف الروسي وعبوره حاجز مخاطر تلك الإجراءات.
عقوبات اقتصادية
شملت الدفعة الأولى من العقوبات التي اتخذتها إدارة بايدن – التي حرصت قدر الإمكان على عدم الإضرار باستقرار أسواق الطاقة العالمية – حرمان روسيا من أي تعاملات تجارية في الولايات المتحدة، مع استهداف لعدد من البنوك الروسية، على رأسها مؤسستان ماليتان رئيسيتان في موسكو، بالإضافة إلى الديون السيادية، وفرض عقوبات لاحقة على شخصيات سياسية واقتصادية مقربة من بوتين.
وعلى الجانب الأوروبي، كشف مسؤول السياسة الخارجية والأمن في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل، سلسلة عقوبات تشمل 27 كيانًا وشخصًا ساهموا في تقويض سيادة أوكرانيا، موضحًا خلال مؤتمر صحفي عقده مع وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان في باريس، أن العقوبات تشمل المصارف التي تموّل صناع القرار الروس وأي نشاط في المناطق الانفصالية.
وفي السياق ذاته علق المستشار الألماني أولاف شولتز مشروع خط أنابيب الغاز الطبيعي “نورد ستريم 2” محذرًا خلال مؤتمر صحفي مع رئيس الوزراء الأيرلندي مايكل مارتن، “يجب علينا أن نعيد تقييم الوضع، خاصة ما يتعلق (بمشروع) نورد ستريم 2”.
كما فرضت بريطانيا عقوبات على 3 رجال أعمال روس، إضافة إلى 5 مصارف روسية، فيما أشار رئيس الوزراء بوريس جونسون – في كلمة أمام مجلس العموم – أن هذه العقوبات مرحلة أولى، محذرًا من أن عقوبات أخرى “ستكون جاهزة لتفرض على موسكو” بالمشاركة مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
ودخلت أستراليا على خط الأزمة، دعمًا للموقف الأوروبي الأمريكي، فأعلنت نيتها فرض عقوبات على بعض الأفراد الروس والمؤسسات المالية الروسية، كذلك اليابان وعلى لسان رئيس وزرائها فوميو كيشيدا وتشمل العقوبات حظر إصدار سندات روسية في اليابان وتجميد أصول بعض الأفراد الروس.
ضغوط سياسية وعسكرية
بالتزامن مع العقوبات الاقتصادية حاول الغرب قدر الإمكان ممارسة نوع آخر من الضغوط على المسارين السياسي والأمني، البداية كانت مع إلغاء وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، اجتماعه الذي كان مقررًا مع نظيره الروسي سيرغي لافروف، غدًا الخميس، في جنيف، معتبرًا أن روسيا بهذا التصعيد رفضت الخيار الدبلوماسي، رغم تأكيد المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا، عقد الاجتماع في موعده.
عسكريًا.. أمر بايدن بتحركات إضافية للقوات الأمريكية المتمركزة في أوروبا لدعم دول البلطيق (إستونيا ولاتفيا وليتوانيا)، تشمل 800 جندي مشاة، ونحو 8 طائرات مقاتلة “إف-35” (F-35) إلى عدة مواقع تشغيل على امتداد خاصرة حلف شمال الأطلسي “ناتو” (NATO) الشرقية، بجانب 32 طائرة مروحية هجومية “إيه إتش 64” (AH64) أباتشي، موضحًا أن “تلك التحركات دفاعية في المقام الأول وأن بلاده ليس لديها أي نية في محاربة روسيا” وفق تعبيره.
وعلى الجانب الأوكراني استدعى الرئيس فولوديمير زيلينسكي جنود الاحتياط لفترة خاصة، مع وضع دورات تدريبية مكثفة للشباب وفرض التجنيد الإجباري مؤقتًا، لكنه في الوقت ذاته استبعد التعبئة العامة بعد قرار موسكو نقل قواتها إلى الجمهوريتين المستقلتين الجديدتين.
الغرب.. مواقف متباينة
لم يكن الغرب كله على قلب رجل واحد في التعاطي مع التصعيد الأوكراني، فالموقف ينعكس بالتباين وفق كل دولة على حدة، في ضوء نسبة التهديد في المصالح والحسابات الخاصة، فبينما تسعى واشنطن للوصول نسبيًا إلى أقصى درجة ممكنة في الضغوط تحاول بعض دول أوروبا مسك العصا من المنتصف والاكتفاء بتوجيه رسائل عابرة خوفًا على مصالحها مع الروس لا سيما فيما يتعلق بالطاقة.
ألمانيا على سبيل المثال تعد الدولة الأكثر تأثرًا بتلك الوضعية، في ظل العلاقات الاقتصادية القوية مع موسكو التي تغطي أكثر من 40% من احتياجاتها من النفط و50% من الغاز الطبيعي، هذا بخلاف حجم التجارة الهائل بين البلدين الذي يسير عكس عقارب الساعة السياسية في كثير من الأحيان خلال السنوات الماضية.
وزير المالية الألماني كريستيان ليندنر عبر أكثر من مرة عن تخوف بلاده من تأثير العقوبات الغربية المحتملة على إمدادات الغاز الروسي لأوروبا، ما قد يهدد الاقتصاد الأوروبي برمته، لافتًا في تصريحات له إلى أن روسيا التي كانت دومًا مصدر موثوق للغاز لألمانيا حتى في ذروة الحرب قد تجد نفسها مضطرة لإعادة النظر في إمداداتها حال توقيع عقوبات غربية عليها، وهو الموقف الذي عبر عنه المستشار الألماني الذي أكد أن العقوبات ستؤثر بقوة على اقتصاد بلاده.
أما فيما يتعلق بتعليق الألمان لمشروع خط أنابيب الغاز الطبيعي “نورد ستريم 2” الذي لم يدخل حيز التشغيل بعد، فلا يمكن قراءته إلا كاستجابة ألمانية للضغوط الأمريكية وتلك التي يمارسها الاتحاد الأوروبي من أجل الحفاظ على سمعة الغرب عالميًا من خلال وجوب اتخاذ ردة فعل قوية إزاء التحرك الروسي.
الموقف نفسه مع فرنسا وهولندا والنرويج ممن لديهم شبكة مصالح كبرى مع الغاز الروسي، وسط ضغوط من شعوب تلك البلدان بضرورة تأمين مصادر الطاقة في ظل تزايد الاحتياجات عامًا تلو الآخر، ما يقوض استقلاليتها في التعامل مع مثل تلك الملفات، وعليه فإن العقوبات المفروضة لا تعكس كما أشير موقف غربي واحد وإنما مواقف عدة وهو التهديد الأبرز لعدم استمراريتها أو الالتفاف عليها عبر تعزيز علاقات الأبواب الخلفية كما حدث قبل ذلك.
من 2014 إلى 2022.. ما الجديد؟
كما ذكرنا، فتلك العقوبات ليست الأولى من نوعها، إذ إنها تقريبًا وبنفس المسميات والصيغ تم توقيعها على الروس في 2014 حين أعلنت ضم شبه جزيرة القرم، حيث فرض الأمريكان وأوروبا واليابان وكندا حظرًا للسفر على مسؤولين وسياسيين من روسيا ومن القرم، فيما جُمدت الكثير من المحادثات مع موسكو عن ملفات عسكرية واقتصادية.
وانضمت لقائمة الدول المشاركة في العقوبات كل من ألبانيا وإيسلندا وأوكرانيا، أما الاتحاد الأوروبي فحظر سفر 15 شخصيةً روسيةً، فيما أعلنت الدول الأعضاء بمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية تعليق مباحثات انضمام روسيا للمنظمة.
كانت التقديرات الأولية للخسائر المتوقعة إزاء تلك العقوبات الغربية وما تبعها من تداعيات تهاوي أسعار النفط، حسبما جاء على لسان وزير المالية الروسي – آنذاك – أنطون سيلوانوف، إن بلاده ستتكبد ما بين 130 و140 مليار دولار سنويًا، ما يعني أنها ستخسر 7% من ناتجها القومي، فيما هرب أكثر من 75 مليار دولار من روسيا بنهاية 2014.
وإزاء تلك الوضعية ردت موسكو بحظر استيراد الأغذية من الدول التي فرضت عليها عقوبات أو التي دعمتها، وعلى رأسها منتجات الفواكه والخضراوات واللحوم والأسماك والحليب والألبان، التي كانت تستوردها من أمريكا ودول الاتحاد الأوروبي وكندا وأستراليا.
وردًا على تلك العقوبات والضغوط الغربية حولت موسكو بوصلتها صوب دول آسيا لا سيما الصين لتوثيق العلاقات الاقتصادية معها، فدشنت شبكة تحالفات جديدة على أنقاض العلاقات مع أوروبا، وهو التوجه الذي وجدت فيه تلك الدول فرصتها لتعزيز حضورها والانتقام من الاستهداف الغربي المتواصل.
هناك ملاحظة تستوجب التوقف عندها إزاء رد الفعل الغربي، يتعلق باستبعاد بوتين من قائمة العقوبات، رغم أنه صاحب القرار والديكتاتور الذي يبحث عن زعامة دولية على حساب جيرانه، وهو ما يمكن إرجاعه إلى أن دول أوروبا عمومًا لا ترغب في تجاوز الخطوط الحمراء، فتضمين بوتين يحول روسيا إلى دولة منبوذة دوليًا، ولذلك تداعيات ربما تضر بمصالح الغرب مستقبلًا.
الصين.. إسفنجة العقوبات ضد الروس
لعبت الصين دور “الإسفنجة” التي امتصت العقوبات الغربية طيلة سنوات العقوبات، حيث فتحت أسواقها وخريطتها الاستثمارية أمام الروس، ما كان له أبلغ الأثر في التخفيف من وطأة الضغوط الاقتصادية التي تعرضت لها موسكو، وبالفعل نجحت في تخطيها طيلة السنوات السبعة الماضية.
وقبل أيام، وبينما كانت موسكو تجيش قواتها على الحدود الأوكرانية وصراخ الغرب لم يتوقف تحذيرًا وتهديدًا ووعيدًا، أبرمت الصين وروسيا حزمة اتفاقيات تاريخية، فقد اتفقتا على رفع حجم التبادل التجاري بينهما إلى ما قيمته 140 مليار دولار، مع زيادة إمدادات الغاز الروسي للصين إلى 48 مليار متر مكعب سنويًا، فيما تضمن الإعلان المشترك الصادر في 4 فبراير/شباط الحاليّ دعمًا غير مسبوق لموسكو في معارضتها توسيع حلف شمال الأطلسي.
الموقف الصيني من روسيا ليس مستغربًا، إذ يمكن قراءته في ضوء صراع النفوذ الاقتصادي بين بكين وواشنطن، والحرب الباردة المستعرة بينهما منذ نهاية ولاية الرئيس أوباما وبداية إدارة الرئيس دونالد ترامب، واستمرت مع مرحلة بايدن رغم شعارات التهدئة المتبادلة.
الأزمة الأوكرانية جاءت لبكين على طبق من ذهب لتعزيز حضورها الدولي على المستوى السياسي، وهو الجزء المفقود في سياستها الخارجية، ولو كان من خلف الستار الروسي، فيما ينصب الاهتمام الأكبر على التفوق الاقتصادي وتجاوز منافسيها على التربع على عرش الاقتصاد العالمي.
ومن هنا فإن التبعية الصينية للرؤية الروسية في الملفات السياسية، ومن بينها الملف الأوكراني، تبعية برغماتية بحتة، ترى فيها بكين تعزيزًا لمصالحها، وليست تبعية أيديولوجية مطلقة كما يتوقع البعض، حتى إن استمر مداها 3 عقود كاملة، ومن ثم يمكن الانقلاب عليها في أي وقت.
الصينيون ليس لديهم مواقف سياسية متطرفة على المطلق إزاء الغرب، إذ تحدد مصالحهم بوصلة التوجهات، وبالطبع تلك عملية مرحلية يعاد تقييمها بين الحين والآخر، ومن ثم قد لا تستمر بكين طويلًا في تبني الموقف الروسي، حال تعريض علاقاتها بالغرب للخطر إلى الحد الذي تفقد فيه مصالحها هناك، فهي تسعى قدر الإمكان لتحقيق التوازن لكن بشكل برغماتي، وهو ما يجب أن يضعه قادة الغرب في الحسبان عند تقييم ردة الفعل المفترضة تجاه قرار بوتين الأخير.
الباب ما زال مفتوحًا
تحول الطاقة إلى سلاح إستراتيجي في يد روسيا، دفع الغرب إلى الإبقاء على باب الحوار الدبلوماسي مفتوحًا مع موسكو رغم سلسلة العقوبات الموقعة، وهو ما عبر عنه بايدن صراحة بقوله “الوقت ما زال متاحًا” أمام الدبلوماسية لتجنّب “السيناريو الأسوأ” في أوكرانيا ومنع صراع دموي شامل، وذلك بعد أن كشف عن أهدافه من وراء التصعيد العسكري الأخير: “لا نية لدينا لمحاربة روسيا، لكننا نريد أن نرسل رسالة إلى موسكو بأننا لن نترك حلفاءنا وسندعمهم، ولا يزال هناك مجال لتلافي السيناريو الأسوأ الذي سيكبِّد الملايين المعاناة”.
الرئيس الأوكراني هو الآخر رغم الحشد الواضح للبعد التسليحي والعسكري أكد أنه لا يزال يسعى إلى إيجاد سبل دبلوماسية للخروج من الأزمة، مرحبًا بأي وساطات دولية للخروج من المأزق، وعلى رأسها استعداد تركيا للمشاركة في محادثات متعددة الأطراف.
بوتين هو الآخر أبقى على نفس الباب مواربًا إياه، لافتًا إلى أن الحل الأفضل للخروج من الوضع الحاليّ تخلي كييف عن رغبتها في الانضمام لحلف الناتو وأن تختار الحياد، مستبعدًا ما يثار بشأن رغبته في استعادة الإمبراطورية الروسية القديمة، مضيفًا أن “هذا لا يتوافق إطلاقًا مع الواقع”.
في ضوء المعطيات السابقة، من المرجح تكرار سيناريو القرم 2014 حتى إن لم تضم موسكو الدولتين الانفصاليتين لها بشكل رسمي، لكن قدرتها على نشر قواتها العسكرية فوق أراضيها تماسًا مع قوات الناتو في كييف، سيعيد ترتيب المعادلة بما يجمد الموقف نسبيًا، في ظل سياسة النفس الطويل التي ينتهجها طرفا الصراع.
روسيا تعلم جيدًا قوة وتأثير أسلحة الضغط التي تمتلكها، وفي المقدمة منها الغاز، كما تعتمد على استمرار الدعم المطلق من حاضنتها الاقتصادية “الصين”، وعليه إذا أراد الغرب أن تتجاوز ردة فعله حاجز العقوبات غير المؤثرة، فعليه أن يعيد النظر في إستراتيجية التعامل مع هاتين المسألتين، البحث عن بدائل للغاز الروسي لوأد هذا السلاح الإستراتيجي الذي يقوض السيادة الأوروبية وهيكلة التعامل مع بكين لتفكيك جدارها مع روسيا لبنة تلو الأخرى.. فهل يمتلك الغرب تلك الإرادة؟