ترجمة وتحرير: نون بوست
كانت عمدة ليفربول تنتظر بابتسامة يشوبها التوتّر وترتدي ثيابا رسميّة وسلسلة ذهبية مميزة من النوع الذي يرتديه المسؤولون في حضرة الملوك أو الشخصيات الأجنبية في استقبال يليق باللاعب محمد صلاح الملقب بـ “الملك المصري”.
في يوم خريفي صاف في مدينة ميرسيسايد، دخل مهاجم ليفربول النجم محمد صلاح إلى قاعة المدينة لتصوير مقابلة مع قناة تلفزيونية مصريّة. وقد أراد المنتجون أن يكون موقع التصوير ملهمًا وفخمًا من أجل هذه المقابلة مع رمزهم الوطني، وبصراحة لن يجدوا مكانًا أفضل من هذا المبنى الفاخر على طراز أواخر العصر الجورجي، الذي يتميّز بأعمدة كورنثية وأفاريز مزخرفة بالذهب وثريات كريستالية في قاعة الاحتفالات، التي أخبرتني العمدة ماري بأن كل واحدة منها تزن طنًا.
كان الموظفون يتجولون في المكان بتوتر ويثرثرون بأصوات منخفضة بينما تصور الكاميرات في الغرفة المجاورة المقابلة مع صلاح. وحتى العمدة ماري، المعروفة بكونها مشجعة إيفرتون – أكبر منافسي ليفربول – كانت متحمسةً، فهمست قائلةً: “أنا لست مشجعة متحيزة”، وبغض النظر عن المنافسة من لا يحب محمد صلاح؟
في مصر حيث يحظى بشهرة واسعة، يُلقّب محمد صلاح بـ “صانع السعادة”. يرجع ذلك إلى إنجازاته في الملعب فقد قاد ليفربول خلال خمسة مواسم وفاز معه بلقب الدوري الإنجليزي ودوري أبطال أوروبا وحطّم عددًا لا يحصى من الأرقام القياسية، وذلك بقدر مآثره خارجه أيضًا.
ويُعرف عن صلاح ابتسامته المشرقة وشعره الأفريقي ناهيك عن تجسيده الصورة الكاملة لرجل الأسرة الدؤوب. وفي نجريج، القرية الواقعة في دلتا النيل شمال القاهرة حيث نشأ صلاح، كان كرمه أسطوريًا فقد تبرّع لبناء مدرسة ومحطة لمعالجة المياه ومحطة إسعاف، وتقدم مؤسسته الطعام والمال للمعوزين شهريًا.
يكثر الحديث عن الأعمال الخيرية لصلاح لدرجة أن بعضها أحيانًا لا يكون صحيحًا، ولكن لا يمكن معرفة الصحيح منها نظرًا لأن صلاح قلّما يُجري مقابلات تلفزيونية. قد تبدو بعض الحكايات التي تُروى عن صلاح خياليّة لولا ما تؤكده الصور ومقاطع الفيديو التي توثقها. فعلى سبيل المثال، بينما كان رجل مشرد في محطة بنزين محليّة يتعرض للمضايقة من قبل مجموعة من المشاغبين ظهر صلاح في سيارته البنتلي وتدخّل لإنقاذ الموقف ثم أعطى ذلك الرجل المال للبحث عن مأوى. وفي حادثة أخرى، سرق لص 30 ألف جنيه مصري – حوالي 1500 دولار- من سيارة والد صلاح وألقت الشرطة القبض على الجاني، لكن صلاح أقنع والده بإسقاط الدعوى ثم أعطى اللص المال لمساعدته على تغيير حياته.
وفقًا لباحثين من جامعة ستانفورد، ارتبط وصول صلاح إلى ليفربول في سنة 2017 بتسجيل تراجع بنسبة 18.9 بالمئة في جرائم الكراهية في المدينة. وفي مصر، أدت مشاركته في حملة حكوميّة لمكافحة المخدرات إلى زيادة المكالمات إلى خط المساعدة بأربعة أضعاف. وبالنظر إلى ما يحظى به من شهرة وقبول، فقد انتشرت خلال الانتخابات الرئاسية الأخيرة في مصر التي أجريت في سنة 2018 تقارير واسعة النطاق عن قيام الناخبين بكتابة اسم محمد صلاح على أوراق الاقتراع.
وبالعودة إلى المقابلة التلفزيونية، عندما فُتحت الأبواب المزدوجة لقاعة الاحتفالات أقبل صلاح مرتديًا سترة بقلنسوة سوداء اللون من علامة “هاكولا” وسروال جينز وحذاءً رياضيًا من علامة “إم جي إس إم”، فتهافت عليه أكثر من 20 عاملًا من طاقم التصوير أملًا في الحصول على صورة سيلفي مع محبوب الجماهير، وقد وافق صلاح على طلباتهم مبتسمًا للكاميرا إلى أن تدخل وكيله في النهاية. لجأنا إلى قاعة أخرى رائعة بنفس القدر تبدو مناسبة لإقامة حفل زفاف حيث جلس صلاح واضعًا يداه في جيبيه غير منزعج من كل ما حدث، لأنه اعتاد على محبة الناس له، وحيال ذلك قال: “إنه شيء أردته لكن ليس بهذا القدر!”.
لكن ذلك لا يضاهي الحشد الغفير الذي قد يجده في انتظاره إذا خرج إلى الشارع في ليفربول – المدينة التي تُبجّل لاعبيها بقدر ما تُبجّل فرقة البيتلز – أو في نيويورك حيث لا يمكنه المكوث في فندق دون أن يتصل به بعض الموظفين المصريين ويتتبعوا رقم غرفته للإعراب عن مدى تقديرهم له بينما يحاول النوم. وحتى في مصر نفسها؟ في الحقيقة، أعجز عن التعبير بشكل كافٍ عن مقدار الحب الذي يحظى به صلاح في بلده؛ حيث تنتشر في البازارات سلع طُبع عليها وجهه وكثيرًا ما أعيد تسمية الشوارع والمدارس باسمه تكريمًا له. كما أخبرني الإعلامي عمرو أديب، مذيع التلفزيون المصري الذي جاء لإجراء مقابلة معه، أن “صلاح هو الحلم، إنه نموذج يحتذى به، إنها قصة نجاح لشخص بدأ من الصفر وأصبح رقم واحد في العالم”. وبالنسبة لبلد كافح للوقوف على قدميه مرة أخرى منذ انتفاضة الربيع العربي قبل أكثر من عقد من الزمان، يُعد صلاح أكثر من مجرد رياضي؛ إنه قُدوة.
إن المسؤولية الملقاة على عاتقه هائلةً. فمنذ وقت ليس ببعيد، زار صلاح رفقة زوجته ماجي صادق وطفلتيه مكة البالغة من العمر سبعة أعوام وكيان البالغة من العمر عامًا واحدًا مسقط رأسه في نجريج بمناسبة العيد. في حديثه عن هذه الزيارة، قال صلاح: “كنا نهمّ بالخروج للصلاة فوجدت أمام منزلي من 300 إلى 400 شخص في الانتظار”. كان الحشد كبيرًا لدرجة أنهم لم يتمكنوا من مغادرة المنزل، وقد نشر صلاح تغريدة تحدث فيها عن ذلك، وكانت تلك من المناسبات القليلة التي أظهر فيها غضبه علنًا: “كنت غاضبًا جدًا، فقد كانت كل من أمي وأختي وزوجتي تبكين… بينما شعر والدي بخيبة أمل، كنت بحاجة إلى أن أكون معهم”. ومع ذلك، يعلم صلاح في قرارة نفسه أن ما حدث يومها نابع من حب الناس له: “أنا أتفهم حقًا ما حدث، الناس متحمسون لرؤيتك، هذا ما هو عليه الأمر، عليك أن تتعايش معه”.
يتذكر صلاح كيف نشأ في ظروف متواضعة. فعندما سألت صلاح عن حادثة اللص، حاول في البداية المراوغة في الإجابة وكان يحاول أن لا يبدو فظًا من خلال الحديث عن أعماله الخيرية، وعندما ألحيّت في السؤال “لماذا تركته يرحل؟” أجابني قائلا: “أنا لا أدعم [السرقة]، لكنني متأكد من أن لديه سببًا أكبر للسرقة، لقد شعرت أنه فعل ذلك لسبب ما، وعندما سأل والدي عنه، قالت الشرطة إنه رجل مُعدم، فقلت له ساعده واتركه وشأنه”، ويعرف محمد صلاح جيدًا معنى أن تتغير حياة المرء لذلك وهو من أشد المؤمنين بقوة الفرص الثانية.
على أرض الملعب، يعتبر محمد صلاح لاعبًا في مركز الجناح الأيمن يلعب دور المهاجم وهو هدّاف رفيع المستوى بثبات غير معهود. احتفل صلاح بوصوله إلى ليفربول في سنة 2017 بتحطيم الرقم القياسي للأهداف التي سجلها في موسم من 38 مباراة، وفي الموسم التالي، قاد الفريق إلى لقبه السادس في دوري أبطال أوروبا، وفي العام الذي تلاه، فاز النادي بلقب الدوري الإنجليزي الممتاز لأول مرة منذ 30 عامًا، لكن أزمة الإصابات الغريبة جعلت الموسم الماضي، وفقًا لمعاييرهم، مخيبًا للآمال (فقد احتل النادي المركز الثالث رغم ذلك). وحتى وقت كتابة هذا التقرير، زاد صلاح سقف التوقعات خلال هذا الموسم بتسجيل 19 هدفًا والمشاركة في صناعة تسعة أهداف أخرى في 20 مباراة، وهو ما يضعه على المسار الصحيح لتحطيم رقمه القياسي.
إن مشاهدة صلاح على أرض الملعب تجربة تمزج بين المتعة والإثارة لرؤية موهبة رياضية حقيقية تكشف عن نفسها، مثل رؤية قمة جبال الألب عند انقشاع الضباب عنها. وقد أخبرني مدرب ليفربول يورغن كلوب عبر البريد الإلكتروني: “في هذه اللحظة، أعتقد أن “مو” يستحق عن جدارة لقب أفضل لاعب كرة قدم على هذا الكوكب”.
تم التقليل من شأن محمد صلاح خلال مسيرته المهنية، فقد تجاهله نادي تشيلسي مرتين في تشكيلة لقب فريق العام بما في ذلك في موسم 2018-2019 عندما كان أفضل هداف في الدوري الإنجليزي الممتاز. ويُقال إن صلاح لاعب أناني – وهو تصور لا أساس له من الصحة – وأنه يحب إحراز الأهداف وأنه يطارد المجد الفردي على حساب نجاح الفريق، وهو ما يمكن دحضه بسهولة بالأرقام: فلا يوجد مهاجم في الدوري يجري تمريرات أكثر من صلاح منذ وصوله إلى ليفربول، ولا حتى منافسوه المعتادون على الفوز بجائزة الحذاء الذهبي على غرار ساديو ماني أو رحيم سترلينج أو هاري كين.
يقول عنه المدرب كلوب إنه “أفضل مثال للجشع؛ إنه يريد المزيد للفريق والمزيد لنفسه، لكن الحافز الأول هو الذي يحرّكه: إن ما يريده للفريق هو الفوز أولًا وقبل كل شيء”. لقد سجّل أهدافًا في الدوري الإنجليزي الممتاز أكثر من أي لاعب أفريقي في التاريخ، ووصل إلى 100 هدف أسرع من أي لاعب آخر في ليفربول، لكنه مع ذلك، لم يصل إلى المراكز الثلاثة الأولى لنيل جائزة الكرة الذهبية التي تعد الجائزة الفردية الأكثر احترامًا في كرة القدم. وهذا يُفسّر جزئيًا بسوء حظه نظرا لوجود اثنين من أعظم اللاعبين في كرة القدم، ولكن هناك أيضًا شعور طويل الأمد بأن موهبته لا تحظى بالتقدير الذي تستحقه.
ويقول صلاح إن هذا الأمر لا يزعجه: “أنا متأكد من أن الكثير من الناس يقدرون ما أفعله، أنا لا أهتم حقًا؛ وحدهم أصحاب العقول الصغيرة يعتقلون ذلك، أما أنا فلا”.
على أي حال، سيكون هذا بالتأكيد الموسم الذي سيؤمن فيه المشككون بموهبته، إنه يُسجل أهدافًا جميلة بشكل حاسم ويعتبر بالنسبة للرياضيين المحترفين مثل الترانيم بالنسبة للمبشرين. لنأخذ مثلا الهدف الذي سجله ضد مانشستر سيتي في تشرين الأول/أكتوبر: تلقى صلاح الكرة خارج منطقة الجزاء وسط ثلاثة لاعبين من الفريق الخصم، حيث تمكن من تجاوز أحدهم بينما واصل المناورة بالكرة أمام اللاعبين الآخرين قبل أن يندفع داخل منطقة الجزاء بينما كان الجميع ينتظرون منه التسديد بقدمه اليسرى، لكنه لم يفعل ذلك وإنما تجاوز قلب الوسط وركل الكرة بقدمه اليمنى بزاوية حادة.
وماذا عن هدفه في المباراة التي فاز فيها فريقه بنتيجة 2-0 على بورتو في تشرين الثاني/ نوفمبر؟ أولاً، قام بتمريرة خلفية إلى كابتن ليفربول جوردان هندرسون على حافة منطقة الجزاء، ثم ركض مع عودة هندرسون، ثم ركل الكرة بشكل عمودي باتجاه المرمى نحو مدافع بورتو، وعندما كان صلاح يهم بالتسديد، ارتمى المدافع على الأرض في محاولة لصدها؛ لكن صلاح في حركة سريعة ورشيقة أسكن الكرة شباك المرمى القريب ببراعة بمشط قدمه.
هذا هو أعظم سلاح لصلاح، الشعور بأنه يرى الواقع باتصال أسرع منا؛ إنه لا يتباهى وإنما يركض باتجاه المدافعين بأسرع ما يمكن في انتظار أقل هفوة منهم أو تحول الزخم حتى يتمكن من تجاوزهم، حيث يقول صلاح عن هذا: “كانت هذه لعبتي منذ أن كنت صغيرًا”. بعد مباراة بورتو، كان صلاح يسترخي في سترة من علامة نايكي وحذاء رياضي من علامة “ييزي” ويتناول وجبة خفيفة من التوت الأزرق وعصير فيتا كوكو، وهو يقول: “حصلت على الكرة، أنا قادم إليك. أنا قادم إليك!”.
وفي ليلة مباراة بورتو، بدأ جمهور الأنفيلد يهتف باسمه في الدقيقة السابعة، وتواصل الهتاف في الحانات المجاورة لفترة طويلة بعد صافرة النهاية، ولهذا فإن ليفربول – من نواحٍ عديدة – هو الأنسب لصلاح، فوجهه يزين المكان خارج الملعب مع علم عملاق على منصة “الكوب”.
وتحت قيادة المدرب كلوب، اشتهر الفريق بتغلبه على خصومه قبل أن يتمكنوا حتى من الخروج من نصف الملعب الخاص بهم، والفعالية القاسية لهذا النهج – والمعروفة باسم الضغط العكسي – لا يمكن تقديرها إلا شخصيًّا؛ حيث يكون الفريق بأكمله يصطاد الفريق الآخر في مجموعات، فصلاح يصرخ لزملائه في الفريق بالضغط عاليًا، ليجعلوا من الأخطاء فرصًا لتسجيل الأهداف، وهذه الفرص لا يتم إنتاجها من خلال اللعب الدقيق وحده ولكن من خلال قوة الإرادة المطلقة، وصلاح هو الأفضل في تحويلها من أي لاعب آخر على قيد الحياة.
القصة الأكثر شهرة عن صلاح هي أنه عندما كان طفلاً كان عليه أن يسافر بالحافلة ذهابًا وإيابًا مدة تسع ساعات يوميًّا للوصول إلى مكان التدريب؛ هذا صحيح، فلقد تعلم اللعب على الطريقة المصرية؛ في الشوارع، وفي بطولات الشباب المحلية – غير المعترف بها – بالقرب من قرية نجريج التي تقع في محافظة الغربية، حتى تم اكتشافه في سن الثالثة عشر من قِبَل نادي المقاولون العرب، وهو فريق في الدرجة الأولى في مصر، والتي يشير إليها صلاح عادة باسمها الإنجليزي، ويقع مقرها في مدينة نصر، إحدى ضواحي القاهرة على بعد 82 ميلاً جنوب مسقط رأسه.
لذلك كان صلاح يذهب كل صباح إلى المدرسة في الساعة السابعة صباحًا، ثم يغادر بعد ساعتين (حيث أعطاه النادي تصريحًا) ويمشي لمسافة ميل واحد عبر حقول الياسمين إلى محطة للحافلات، هناك يستقل ميكروباص -عربة نقل مكتظة بثلاثة أو حتى أربعة صفوف من المقاعد- إلى مدينة بسيون، ومنها إلى طنطا ثم إلى ميدان رمسيس الصاخب بالقاهرة، وأخيرًا إلى ملعب التدريب بمدينة نصر، وهي الرحلة التي يقول عنها صلاح: “نصف ساعة، ثم ساعة، ثم ساعتان، ثم نصف ساعة أو 45 دقيقة لآخر مرة”، مشيرًا إلى إنتهاء عدد مرات تنقله.
وكان التدريب يدوم بضع ساعات فقط، لكن صلاح كان يحاول الحضور مبكرًا والبقاء لوقت متأخر، ثم يبدأ رحلة العودة الطويلة إلى المنزل حوالي الساعة 6 مساءً، وفي ذلك الوقت؛ كان نادي المقاولون يدفع له راتبًا شهريًا قدره 125 جنيهًا -حوالي 6 جنيهات إسترلينية- وهو المبلغ الذي لم يكن يغطي حتى أجرة حافلة لمدة أسبوع، لذلك دفع والده، الذي كان يمتلك شركة لتجارة الياسمين، الباقي.
وحاول العديد من الصحفيين محاكاة رحلة صلاح بالحافلة، بشكل يمكنهم من كتابة مجموعة من المقالات حول الموضوع، لكن لم يتمكن أحد من إدراك ما كان يتطلبه الأمر؛ حيث الرتابة المرهقة، والعزلة الاجتماعية، كلها مختلطة مع أحلام اليقظة لطفل – يبلغ من العمر 14 عامًا – في أن يصبح محترفًا، فيقول صلاح: “أعلم أنه عندما نقول تسع ساعات يبدو هذا جنونًا، لكنني فعلت ذلك لأنني أحببته، أردت أن أكون حيث أنا الآن، لذلك لم أشعر أن الأمر كان بهذه الصعوبة”.
وفي النهاية، أثار صلاح إعجاب المدربين في نادي “المقاولون” بدرجة كافية جعلتهم يمنحونه غرفة في ملعب التدريب، وعند بلوغه 17 عامًا استحق الانضمام إلى الفريق الأول؛ حيث في الصور القديمة يمكنك أن ترى لمحات عما كان سيصبح عليه: السرعة والجوع.
وفي فبراير/شباط 2012؛ اندلعت أعمال شغب في أحد الملاعب بعد مباراة في الدوري المصري، بين فريقي المصري والأهلي، في بورسعيد؛ قُتل خلالها أربعة وسبعون شخصًا وردًّا على الكارثة؛ أوقفت السلطات المصرية الدوري، وأمرت بأن تُلعب جميع المباريات بدون جمهور لمدة عامين، وفي أعقاب ذلك، استطاع وكلاء صلاح تأمين انتقاله إلى “بازل”، أحد أكبر الأندية في سويسرا.
بالنسبة لصلاح؛ كان الوصول إلى “بازل” مثل القفز في مياه متجمدة، فقد علق عن الأمر قائلًا: “الجو بارد، ولا يمكنك التحدث باللغة الإنجليزية، ولا أحد في النادي يتحدث اللغة العربية”، وفي البداية، لم يتمكن صلاح من مشاهدة التلفزيون أو قراءة الصحف أو حتى طلب الوجبات الجاهزة، حيث يقول: “كان الأمر صعبًا حقًا، لكنني كنت بحاجة للتكيف، أو العودة، ليس هناك خيار ثالث”، وفي الميدان؛ لم تكن موهبته بحاجة إلى ترجمة، فخلال موسمين، ساعد ناديه في الحصول على لقبين متتاليين في الدوري، كما حصل على جائزة أفضل لاعب في الدوري.
ما حدث بعد ذلك هو أحد لحظات التساؤل ماذا لو؟
في شتاء 2014، تلقى صلاح عرضًا للانضمام إلى ليفربول لكنه وافق بدلًا من ذلك على الانتقال إلى تشيلسي؛ كان الأمر منطقيًّا في ذلك الوقت؛ حيث كان تشيلسي هو الفريق الأكثر سيطرة، لكن النادي كان مليئًا بالمهاجمين النجوم بقيادة المدرب جوزيه مورينيو، المعروف عنه عدم تغيير تشكيلته الأساسية، إلا نادرًا، وهو ما يقول عنه صلاح: “عندما أنظر إلى الوراء، أظن أني تلقيت نصيحة سيئة بشأن الوضع”.
كان التغيير الذي حصل بالانتقال إلى لندن أكبر منه في سويسرا؛ فبعد وقت قصير من وصوله، أنجبت زوجته ماجي طفلتهما الأولى، مكة، وفي مصر؛ ذاع صيت صلاح؛ لأنه في ذلك الوقت وحتى الآن، لم يُسمع عن لاعب مصري ينضم إلى أحد أفضل الفرق في الدوري الإنجليزي الممتاز.
وكافح صلاح من أجل الانضمام إلى التشكيلة الأساسية في تشيلسي، والتي غالبًا ما تم استبعاده منها تمامًا، وبدأ النقاد بالقول إنه تحرك في وقت مبكر جدًا، وأنه لم يكن مناسبًا من الناحية البدنية في الدوري الإنجليزي الممتاز، ما جعل صلاح يتوقف عن قراءة الصحف؛ حيث قال: “كان الأمر صعبًا للغاية بالنسبة لي، ذهنيًّا؛ فلم أستطع تحمل الضغط الخارجي الذي تعرضت له من وسائل الإعلام؛ ولم أكن ألعب كثيرا، ولهذا شعرت بأني بحاجة للمغادرة”.
وفي العام التالي؛ أرسل تشيلسي صلاح – على سبيل الإعارة – إلى نادي فيورنتينا؛ حيث استمتع صلاح في إيطاليا، ولعب بشكل جيد، ثم انتقل عام 2015 إلى روما. في هذه المرحلة، ربما يفكر الكثير من اللاعبين الموهوبين في الاستقرار؛ حيث تسيطر عليهم فكرة: لقد نجحت في الوصول إلى القمة ، لكن هذا هو مستواك، لكن رفض صلاح في تشيلسي أدى إلى تصدع شيء ما بداخله، مثل الشقوق التي يحدثها مثقاب في جدار من الطوب؛ فقد تضاعفت دوافعه، وهو ما يقول عنه صلاح: “لديك خياران: أن تخبر الناس أنهم على حق في وضعك على مقعد البدلاء، أو أن تثبت خطأهم، زكان عليَّ إثبات خطئهم”.
وبينما كان لا يزال على مقاعد البدلاء في تشيلسي، بدأ صلاح في رفع الأثقال أكثر، والتركيز على بناء الجزء العلوي من جسمه؛ حيث يقول: “كنت أذهب كل يوم لأنني كنت أعرف أنني لن ألعب”، وإذا كنت قد شاهدت صلاح بدون قميص، أو شاهدت صوره على الإنستجرام الخاص به، فستعلم أنه قد نجح؛ حيث تبدو عضلات بطنه مثالية.
وبدأ – في تلك المرحلة – في التعمق في كتب تطوير الذات، مثل كتاب مارك مانسون “الفن الخفي لعدم العطاء”، بالإضافة إلى مشاهدة مقاطع فيديو على اليوتيوب من قبل متحدثين ومحفزين، مثل توني روبينز وزيغ زيجلار، وهو ما يقول عنه صلاح: “أعتقد أن الشخص الذي غيرني كثيرًا هو نابليون هيل، إنه أحد الأشخاص الرئيسيين الذين تحدثوا حقًا عن الإيمان بالذات، ولهذا بالنسبة لي كان كل كتاب بعد ذلك يقتبس من كلامه”، ومن المفارقات، أنه يُعتقد أن هيل، رائد مساعدة الذات وصاحب الكتب الأكثر مبيعًا مثل فكر تصبح غنيًّا عام 1937، يمتلك قصصًا ملفقة إلى حد كبير عن نجاحه.
ومن السهل عدم أخذ مساعدة الذات على محمل الجد – مثل كن إيجابيًّا، وثق بنفسك – ولكن بالنسبة لصلاح؛ من الواضح أنها ساعدته حقًا، يكفي أن التحدث إليه الآن يبدو أحيانًا وكأنه محاضرة تحفيزية؛ حيث يقول: “أفضل شيء يمكن أن يكون لديك هو محادثة جادة مع نفسك؛ فقط أحضر كوبا من القهوة واجلس واسأل نفسك ماذا تريد”، كما قال أيضًا: “بعض الناس لا يستطيعون مواجهة أنفسهم بشكل صحيح، لكنني لا أعاني من هذه المشكلة؛ فإذا كنت أعاني، فأنا فقط أواجه نفسي وأحدد مكاني”.
وفي روما، استأجر صلاح منزلاً منفصلاً في المدينة وقام ببناء ملعب تدريب خاص في الفناء الخلفي لمنزله حتى يتمكن من التدرب على التسديد خارج أوقات التدريب، وبدأ العمل في ذهنه أيضًا؛ حيث كان يمارس التأمل والتخيل كل يوم، ويخوض المباراة التالية بالتفصيل في ذهنه، ويتخيل ما يريده أن يحدث، وما الذي كان يمكن أن يحدث بشكل خاطئ – وذلك لأنه قرأ أن مايكل فيلبس يفعل ذلك -، ويقول صلاح عن هذا الأمر: “بعض المواقف تحتاج إلى مواجهتها قبل حدوثها، لذلك عندما يحدث ذلك فعلًا تكون قد مررت بها بالفعل”، وبدأ هذا الروتين العقلي خلال موسمه الثاني في روما، والذي تزامن مع أفضل مرحلة في مسيرته حتى تلك اللحظة، فلقد سجل 15 هدفًا وقدم 11 تمريرة حاسمة، مما قفز بالفريق إلى المركز الثاني، وأدى في النهاية إلى عودة عرض ليفربول مرة أخرى، وهذه المرة لم يتردد.
ومع ذلك؛ توجد لحظات لا يمكن حتى للخيال أن يُعدّك لها، وفي حالة صلاح؛ كانت تلك اللحظات هي نهائي دوري أبطال أوروبا لسنة 2018 ضد ريال مدريد، إذ كان من المفترض أن تمثّل هذه المباراة النهاية الخيالية لموسم صلاح الأول الذي حطم الأرقام القياسية في الدوري الإنجليزي الممتاز، وبدلًا من ذلك، قام مدافع ريال مدريد سيرجيو راموس بجر صلاح إلى الأرض من خلال ثني ذراعه في الدقيقة 25؛ مما أدى لخلع كتفه، ثم غادر صلاح الملعب باكيًا، وتراجع ليفربول بشكل واضح بعد ذلك، حيث خسر 3-1.
(وهدد أحد المحامين بمقاضاة راموس بمبلغ مليار يورو؛ مشيرًا إلى “الأذى الجسدي والنفسي” الذي لحق بصلاح ومصر)؛ فيما قال راموس عن الحادث: “لم أرغب في التحدث لأن كل شيء مبالغ فيه؛ إنني أرى تلك المسرحية جيدًا، فقد أمسك بذراعي أولاً وسقطت على الجانب الآخر؛ ثم حدثت الإصابة لذراعه الأخرى، لكنهم قالوا أنني أعطيته حركة جودو”.
وتسببت الإصابة بإبعاد صلاح عن المباراة الافتتاحية لكأس العالم 2018؛ حيث كانت تلك هي المرة الثالثة فقط التي تتأهل فيها مصر للبطولة، والأولى منذ 28 سنة، لم يكن صلاح قد تعافى بعد مع حلول وقت المباراة الأولى لمصر ضد أوروجواي، وهي اللحظات التي يقول عنها صلاح: “بكيت في الحافلة، ثم بكيت في الحمام قبل المباراة لأنني لم أستطع اللعب”، وخسرت مصر حينها 2-0، ولعب صلاح في المباراتين التاليتين، ورغم أنه سجل هدفين، إلا أنه لم يستطع منع فريقه من الخروج.
وقال صلاح إنه جاء لتقبل الإصابة، ويضيف: “تلك الإصابات التي لا يمكنك السيطرة عليها حقًا؛ أعتقد أن كل شيء يحدث لسبب، وعليك التعامل معه”، واستمد صلاح القوة من إصابته في نهاية المطاف؛ حيث وصل ليفربول إلى النهائي مرة أخرى في العام التالي وحقق الفوز.
ومن المقرر أن ينتهي عقد صلاح مع ليفربول في صيف سنة 2023، وعندها سيصبح لاعبًا حرًّاً، ولكن كثيرًا ما أكد صلاح رغبته في البقاء، ومع ذلك، فإن مفاوضاته مع مالكي ليفربول – “مجموعة فينواي الرياضية” (التي تمتلك أيضًا نادي بوسطن ريد سوكس) – بخصوص عقد جديد وصلت إلى طريق مسدود بسبب مطالب صلاح المالية؛ حيث يقال إن صلاح يطلب مضاعفة راتبه الحالي، مما سيجعله من بين أغلى لاعبي كرة القدم في العالم، (يقول وكلاء صلاح إن التقارير التي تفيد بأنه يتقاضى حاليًا 10 ملايين جنيه إسترليني سنويًّا غير دقيقة، وعدا عن ذلك فهو لن يبدي أي تعليق على المفاوضات)، فيما يقول صلاح: “أريد البقاء، لكن الأمر ليس في يدي، إنهم يعرفون ما أريد، وأنا لا أطلب أشياء جنونية “، وإلى جانب ذلك، فإن ما يبدو بسيطًا وغير مكلف هو في النهاية ليس رخيصًا كما يعتقد البعض.
إن الأمر أكثر من مجرد مال بالنسبة إلى صلاح؛ إنه يتعلق بالاعتراف، حيث يقول: “الأمر هو عندما تطلب شيئًا ما ويظهرون لك أن بإمكانهم إعطائك شيئًا”، ويتوجب عليهم ذلك؛ حيث يتابع قائلاً: “لأنهم يقدرون ما تحققه للنادي، فأنا الآن في سنتي الخامسة هنا، وأعرف النادي جيدًا، وأحب المشجعين، وهم كذلك يحبونني؛ لكن بخصوص الإدارة، فقد [تم إبلاغهم] بالوضع، والأمر بأيديهم الآن”.
وإذا كان ليفربول غير راغب في الوفاء بمتطلبات الرواتب – وهو أمر ممكن تمامًا، نظرًا لممانعة “مجموعة فينواي الرياضية” عن دفع رواتب النجوم في كل من ليفربول ونادي “ريد سوكس” – فإن هناك عدد قليل من أندية كرة القدم العالمية التي يمكنها فعل ذلك؛ فقد تعرض نادي برشلونة إلى عجز في ميزانيته بلغ مليار جنيه إسترليني، مما أجبره على التخلي عن مهاجمه الأسطوري ليونيل ميسي في صفقة انتقال مجانية العام الماضي، ويبدو أن ريال مدريد يرغب في ضم المهاجم الفرنسي كيليان مبابي،و يوجد أيضًا نادي باريس سان جيرمان، بتمويله القطري غير المحدود، ولكن بخلاف ذلك، فإن المنافسين الحقيقيين الوحيدين هم ناديي مانشستر أو تشيلسي، والانتقال إلى أي منهم سيحرق مكانة صلاح كأسطورة ليفربول. (سأعترف هنا بأنني من مشجعي ليفربول منذ 20 سنة. نعم، طلبت منه البقاء. لكن لا، لم يساعد الأمر في ذلك).
ويعرف صلاح قيمته الخاصة؛ وأن صفقته التالية قد تكون فرصته الأخيرة لكسب أموال طائلة، وهناك أيضًا علامة تجارية يجب أن يأخذها صلاح في الاعتبار: وهي أنه لديه صفقات رعاية مع شركات “أديداس” و”أوبو” و”أوبار” و”بيبسي”؛ حيث يدفع كل منها بسخاء مقابل صورته. (ورد أن القناة التلفزيونية العربية إم بي سي، قد دفعت لصلاح مبلغ 500 ألف جنيه إسترليني لمقابلته في ذلك اليوم في دار البلدية).
“أريد أن أصبح أفضل لاعب في العالم؛ لكنني سأحظى بحياة كريمة حتى لو لم أفز بجائزة الكرة الذهبية؛ أشعر أحيانًَا أن الأمر مجرد سياسة”.
نادرًا ما يتحدث صلاح علنًا، ولا يتطرق أبدًا إلى السياسة، ويبدو هذا على أنه جزء من الحفاظ على الذات: فظهور صلاح في مصر والشرق الأوسط يعني أن أي شيء سياسي يقوله أو يفعله سيتحول على الفور أخبارًا دولية
في شهر حزيران/يونيو سيبلغ صلاح من العمر 30 سنة، وتفيد الحكمة التقليدية أن لاعبي كرة القدم يبلغون أوج عطائهم في ذلك العمر تقريبًا، على الرغم من أن التطورات الأخيرة في علوم الرياضة قد دحضت ذلك؛ فعلى سبيل المثال زلاتان إبراهيموفيتش، لا يزال يسجل لميلان رغم بلوغه سن الأربعين، وهو ما يقول عنه صلاح: “إن الأمر ليس فقط زلاتان، فإن كريستيانو رونالدو يبلغ من العمر 36 سنة، وكريم بنزيمة يبلغ 34 سنة، وجميع النجوم الكبار حاليًا مثل روبرت ليفاندوفسكي وميسي هم في سن 34 و35 سنة”.
وبنى صلاح في منزله جناح النقاهة الخاص به، بما في ذلك حمام العلاج بالتبريد وغرفة الضغط العالي، وهي أشياء لا تجدها عادة إلا في منشأة تدريب أو مركز علاج متطور؛ حيث يقول صلاح: “لدي كل شيء في المنزل إنه كالمشفى”، فيما يقول كلوب: “إنه مثل الإسفنج عند الحصول على المعلومات، فلديه رغبة دائمة في أن يكون الأفضل”، مضيفًا: “إنه لا يرضى أبدًا، فهو منتبه جدًا لما نطلبه منه في كيفية مساعدة الفريق، ولكن إلى جانب ذلك؛ فإن التزامه بتحسين مستواه الفردي رائع، سواء كان ذلك من مدربي اللياقة البدنية والتكيف أو أخصائي التغذية أو أي شخص آخر، فهو يبحث عن تلك الهوامش الصغيرة في كل مكان”.
ونادرًا ما يتحدث صلاح علنًا، ولا يتطرق أبدًا إلى السياسة، ويبدو هذا على أنه جزء من الحفاظ على الذات: فظهور صلاح في مصر والشرق الأوسط يعني أن أي شيء سياسي يقوله أو يفعله سيتحول على الفور أخبارًا دولية، وربما تقترب تغطية أخباره في الشرق الأوسط وعبر الإنترنت إلى حد كبير من ضبط الأمن الأخلاقي: فقد أدى نشر صلاح صورة على تطبيق إنستجرام لعائلته وهم يحتفلون بعيد الميلاد إلى سيل من الإساءات؛ وبما أن ذلك الجدل هو تشتيت، فقد حاول إزالة ذلك من حياته أيضًا، فهو في الغالب لا يخرج للاحتفال أو يلعب ألعاب الفيديو، بل يفضل البقاء في المنزل مع أطفاله، حيث يقول: “إن الناس يتغيرون حقًّا مع الشهرة والمال، لذلك أحاول ألا أفعل الشيء نفسه، لأبقى ثابتًا”، وهذا كله متعمد أيضًا، فهو استثمار لضمان قدرته على تحقيق أقصى إمكاناته والبقاء هناك لأطول فترة ممكنة.
وفي أواخر تشرين الثاني/ نوفمبر، وبعد أيام قليلة من لقائنا، نظّم الاتحاد الفرنسي لكرة القدم حفل توزيع جوائز الكرة الذهبية السنوي في باريس، وقد حضر الحفل الرسمي نخبة اللاعبين من جميع أنحاء العالم، وكما هو الحال دائمًا: فاز ميسي، بالجائزة وحلَّ صلاح في المركز السابع، بفارق طفيف ومتوقع ولا يمكن تفسيره، وأمضى صلاح الأمسية في موناكو؛ حيث كان من المقرر أن يحصل على جائزة “القدم الذهبية”، جائزة كرة القدم التي تعادل ممشى المشاهير في هوليوود، لكن كان من المقرر أن يخوض ليفربول مباراة في اليوم التالي؛ لذلك خرج مبكرًا وسافر بالطائرة عائداً، حيث استلمت ماجي زوجته الجائزة نيابة عنه.
ويقول صلاح إن الجوائز الفردية لم تعد تشكل حافزًا بالنسبة له؛ حيث يضيف قائلًا: “أنا لست منزعجًا من ذلك بالفعل”، وهذا لا يعني أنه فقد الدافع لأن يصبح أفضل لاعب في العالم: بل إنه كذلك، فمن خلال قضاء الوقت مع صلاح، يبدو واضحًا أنه أعاد تشكيل حياته كلها حول هذا الهدف الوحيد.
ويتابع صلاح قائلًا: “إذا سألتني ما إذا كان هذا هو الدافع لأكون هنا؟ نعم بالطبع. لا أستطيع حقًا أن أكذب وأقول بصراحة لم أفكر في الأمر؛ لا، بل إنني أفكر في ذلك، وأطمح أن أصبح أفضل لاعب في العالم، لكن سأعيش حياة جيدة حتى لو لم أفز [بالكرة الذهبية]، فحياتي على ما يرام، وكل شيء على ما يرام”؛ ثم يحدق من نافذة دار البلدية ويديه في جيوبه، ويهز كتفيه قائلاً: “أشعر أحيانًا أن الأمر يتعلق بالسياسة فقط”.
ولا يزال لديه طموحات أخرى؛ حيث يقول: “أتمنى أن أتأهل لكأس العالم مرة أخرى، أريد أن أفوز بكأس إفريقيا [للأمم]”؛ ففي شهر كانون الثاني/يناير، كان صلاح يخطط لقيادة بلاده على أرض الملعب في بطولة كأس الأمم الأفريقية في سنة 2021 في الكاميرون؛ حيث كانت مصر قبل البطولة واحدة من المرشحين للفوز، وذلك بسبب وجود صلاح بشكل أساسي.
ويريد أن يكون أبًا صالحًا؛ فقد استقرت ابنتيه مكة وكيان في إنجلترا؛ حيث تتحدث مكة اللغة الإنجليزية بلهجة مدينة ليفربول، وينشر صلاح من حين لآخر صورًا لهما معًا: حين تركل مكة الكرة في الحديقة، أو حين يعلمها الشطرنج، أو عندما يرتدي كلاهما ملابس شخصيات ديزني؛ حيث يقول ضاحكًا: “إنها مُنافِسَة حقًا”، ويتابع: “تقول لي: بالمناسبة، أنا أكثر شهرة منك، لأنه عندما نخرج، يريد الناس التقاط صورة معي”.
وبالنسبة لأطفاله؛ فإن شهرة والدهم أمر طبيعي وهذا هو الأساس، فقد كنت في جانب جمهور صلاح خلال فوز ليفربول 4-0 على آرسنال في مدينة ليفربول، ولم يكن يشاهد الأطفال المباراة؛ فقد ذهبت مكة للعب في منطقة الأطفال وجلست كيان على كرسي مرتفع وهي ترمي الفاكهة وتضحك بفرح، بينما هتف 50 ألف متفرج باسم والدهم.
وهناك فكرة شائعة أن تشيلسي أخطأ في بيع صلاح وأنه استحق فرصة أفضل لإثبات نفسه، (لم يكن صلاح الوحيد؛ فقد رفض تشيلسي أيضًا كيفن دي بروين لاعب مانشستر سيتي، المنافس القوي للقب أفضل لاعب خط وسط في العالم)، ولكن أخطأت هذه الرواية للأحداث الهدف؛ فقد تبين أن رفضه كان أفضل شيء حدث له على الإطلاق؛ حيث يقول صلاح: “عندما تشعر أن حلمك يتلاشى، فإنك تفعل كل شيء لتحقيقه”، ويتابع قائلاً: “لا أريد أن أكون ضحية، لا أريد أن يقال – لقد ذهب إلى تشيلسي ولم يمنحوه الفرصة – لا يهمني ذلك، سأفعل كل ما يتطلبه النجاح، سوف أحقق ذلك”.
وربما هذا هو السبب في أن حلقات مسلسل اللص والمشرد كان لها الصدى الأكبر عند الناس؛ لأن كل شخص يستحق فرصة ثانية، وهناك شيء مريح في فكرة أنه يمكننا جميعًا إطلاق العنان للإمكانات الموجودة بداخلنا، حتى عندما لا يراها الآخرون. وأن كل يحول بيننا وبين الثروة الهائلة هو العمل الدؤوب؛ حيث يقول صلاح: “يسعد الناس دائمًا في المكان الذي يتواجدون فيه، ولدى الناس طابعهم اليومي أو منطقة راحتهم أو أي شيء يريدون تسميته. فهم لا يحبون التغيير، وهذه طبيعتنا نحن البشر”، ويتابع قائلاً: “الناس يعانون لسنوات لأنهم لا يرغبون في التغيير، لكن الأمر ليس كذلك بالنسبة لي فقد كنت بحاجة للتغيير”.
إذا بدا لك هذا وكأنه نوع من فلسفة البوب التي ستجدها في أي كتاب للمساعدة الذاتية، فهذا لأنه بالفعل كذلك؛ لكن كم منا قرأ تلك الكتب عن أسرار النجاح ويطبقها بالفعل؟ من يمضي تسع ساعات في الحافلة لمجرد لعب كرة القدم؟ صلاح فعل ذلك؛ لقد أمضى تلك الساعات يحلم بهذه اللحظة، والآن وبعد أن تحققت، سوف يتذوقها بكل ما تستحقه.
ويقول صلاح: “لقد ضحيت بكل ما أستطيع لمجرد الجلوس هنا الآن”، ويتابع: “أعطيت كل شيء، لقد كرَّستُ حياتي كلها فقط من أجل كرة القدم”، ثم يبتسم تلك الابتسامة الكبيرة، وأشعة الشمس تخترق النافذة، ربما كانت الثريات، أو الغرفة الذهبية التي نحن فيها، لكن يبدو وكأنه يتوهج.
ويحتاج صلاح إلى الخروج للتدريب؛ حيث يحب أن يكون هناك مبكرًا، حتى الآن، ويكون آخر من يغادر التدريب، فيودع صلاح طاقم الفيلم ويخرج إلى الشارع، حيث يصعد إلى المقعد الخلفي من سيارة بي إم دبليو فاخرة أرسلت فقط من أجله، ويقوم العديد من المارة باتخاذ ردود فعل متأخرة؛ حيث يلتفتون إلى بعضهم البعض كما لو كانوا يقولون: هل هذا…؟ لكن فات الأوان، لقد رحل بالفعل.
المصدر: مجلة جي كيو الأمريكية