قرابة 4 أشهر مضت منذ أن أعلن الجنرال عبد الفتاح البرهان انقلابه على شركائه المدنيين، دون أن ينفذ شيئًا من وعوده التي قطعها يوم الانقلاب مثل تشكيل المجلس التشريعي الانتقالي والمحكمة الدستورية والنيابة العامة، إلى جانب تعيين حكومة كفاءات مدنية مستقلة يكون هدفها في المقام الأول تحسين الأوضاع الاقتصادية للمواطنين.
على النقيض من ذلك، تورط البرهان ومن معه من الجنرالات في قتل 82 متظاهرًا وجُرح أكثر من 2000 في المظاهرات المستمرة الرافضة للانقلاب، تُضاف هذه الأعداد إلى نحو 120 قُتلوا في مجزرة فض الاعتصام عام 2019، وهناك أعداد غير معلومة من الناجيات من الاغتصاب في مجزرة 2019، وفي تظاهرات 19 ديسمبر/كانون الأول 2021.
أما الضائقة الاقتصادية التي أرجعها البرهان إلى فشل القوى المدنية، فقد تفاقمت واستفحلت بعد الانقلاب، إذ ردّت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إلى جانب مؤسسات التمويل الدولية على تحرك المجلس العسكري بتجميد كل المساعدات المجدولة للسودان التي تقدر بأكثر من 3 مليارات دولار، الأمر الذي أدى إلى تدهور سعر العملة الوطنية بعد استقرار لقرابة عام، فارتفع الدولار إلى 540 جنيهًا في السوق السوداء التي عادت بقوة بعد أن توقفت بشكلٍ كلي.
وفي هذا الخصوص حصل “نون بوست” على تصريحات حصرية من مصدر مسؤول في وزارة المالية أكد فيها أن الوضع الاقتصادي أسوأ بكثير مما يتخيل الناس، سنأتي إلى تصريحاته بشيء من التفصيل لاحقًا.
ترسيخ سلطة البرهان وحميدتي بدعم فلول حزب المؤتمر
ظاهريًا، ربما تمكن الجنرال البرهان وشريكه حميدتي من ترسيخ وجودهما في سلطة الأمر الواقع بدعمٍ ومساندةٍ من عناصر نظام البشير، إذ تشير مصادر مطلعة إلى أن القيادي البارز في حزب المؤتمر الوطني المحلول، علي كرتي، يقف وراء كل الترتيبات الخاصة بالانقلاب منذ البداية، لذلك لم يكن مستغربًا أن يقوم البرهان بتعيين عناصر ذات انتماءٍ صارخٍ لنظام البشير مثل السفير علي الصادق الذي قام بتعيينه وزيرًا مكلفًا للخارجية، وقد كان يشغل منصب المتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية في عهد البشير.
قد يتساءل البعض.. كيف يدعم إسلاميو السودان انقلابًا عسكريًا ترعاه الأنظمة المناهضة للإسلاميين في المنطقة (الإمارات، مصر، السعودية) إلى جانب “إسرائيل”؟
في الواقع أن إسلاميي السودان وخاصة منسوبي حزب البشير (المؤتمر الوطني) ليس لديهم أي اعتبار لمبادئ، فمصلحتهم فوق كل شيء، وهذا ما دفعهم في التسعينيات إلى التنكر لزعيم تنظيم القاعدة الراحل أسامة بن لادن فطردوه من البلاد إرضاءً للولايات المتحدة، بعد أن استولوا على أمواله وممتلكاته، وكذلك تحولوا من إيران التي كانت تدعمهم لأكثر من 20 عامًا مقابل المال السعودي والإماراتي، كما تخلوا من قبل عن حلفائهم الإسلاميين الإريتريين، وسلموهم إلى الديكتاتور المجرم إسياس أفورقي وهم يعلمون تمامًا أن المصير الذي ينتظرهم هو التعذيب حتى الموت.
ربما لا يُدرك إسلاميو السودان أن المصير الذي ينتظرهم سيكون أكثر فداحةً من مصير الإخوان المسلمين في مصر إذا ما استتب الأمر للبرهان وحميدتي، إذ تتحكم فيهما تمامًا دول المحور المناهض للثورات، إلى جانب دولة الاحتلال.
فمصالح هذان الرجلان مع دول المحور مبنيةً على نهب موارد السودان مثل الذهب والمحاصيل الزراعية، فضلًا عن إمدادهم بالمرتزقة الذين يقاتلون لصالح هذا المحور في اليمن وليبيا، أما تهافُت البرهان وحميدتي على التطبيع مع “إسرائيل” فهو توهم منهما بأن اللوبي الصهيوني قادر على حمايتهما من المساءلة عن مجزرة فض الاعتصام وما تبعها من مجازر الانقلاب حتى يومنا هذا.
قادة الانقلاب أعادوا السودان إلى العزلة الدولية
تعليق عضوية السودان في الاتحاد الإفريقي إثر انقلاب 25 أكتوبر/تشرين الأول تسببت في حرمانه من كل الأنشطة المتعلقة بالاتحاد الإفريقي وآلياته سواء داخل القارة السمراء أم على المستوى الدولي.
كان تعليق العضوية سببًا مباشرًا في حرمان السودان بشكلٍ كاملٍ من المشاركة في القمة السادسة التي جمعت زعماء القارتين الإفريقية والأوروبية يومي 17 و18 فبراير/شباط، إذ أكد سفير الاتحاد الأوروبي في السودان أنه لم يتم دعوة أي مسؤول سوداني للمشاركة في القمة التي انعقدت لأول مرة بعد غياب طويل بسبب جائحة كورونا.
ونتيجة أخرى للانقلاب، جمدت كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ومؤسسات مالية بينها البنك الدولي نحو 3 مليارات دولار من الدعم الذي كان من المفترض أن يتلقاه السودان، وأدت هذه الخطوة إلى عودة التراجع في سعر العملة الوطنية (الجنيه) بعد استقرار نسبي، فقد سجّل سعر الدولار ما يقارب 540 جنيهًا في السوق السوداء، مقابل 443 في المصارف مؤخرًا.
كما جمد بنك السودان المركزي حسابات أكثر من 200 من المصدرين لفشلهم في إيداع الإيرادات محليًا، وفقًا لوكالة بلومبيرغ التي أكدت تجميد حسابات 208 شركات معظمها تعمل في القطاع الزراعي في 17 فبراير/شباط الحاليّ.
مزيد من تدهور الأوضاع الاقتصادية والأمنية
رئيس حركة العدل والمساواة جبريل إبراهيم، الذي احتفظ بحقيبة وزارة المالية بعد الانقلاب، بقي في منصبه حتى بعد أن استقال رئيس الوزراء حمدوك، وأعلن موازنته للعام المالي 2022 دون برلمان ولا تفويض شعبي له ولسلطته، التي يواجهها الناس في الشوارع منذ يوم الانقلاب وترد عليهم بالرصاص الحي.
بسبب توقف الدعم الخارجي لم يجد جبريل إبراهيم حلًا إلا اللجوء لجيوب المواطنين المرهقة بالفعل، ففرض زيادات على أسعار الوقود بقيمة 25%، وزيادات أخرى مهولة على تعرفة الكهرباء وتعرفة العلاج والتحاليل الطبية في المستشفيات الحكومية بنسبة تتجاوز الـ2500%.
الزيادات خلّفت غضبًا شعبيًا واسعًا خصوصًا أن المواطنين بدأوا يكتوون بنيران الزيادات تدريجيًا، إذ ارتفعت تعرفة المواصلات العامة بشكلٍ فوري وتضاعفت فاتورة العلاج ورسوم الخدمات، ما جعل سلطة الأمر الواقع تتخبط في قراراتها لتقوم بتجميد الزيادات التي أعلنتها في أسعار غاز الطبخ وفي فاتورة العلاج والتحاليل الطبية بالمستشفيات الحكومية.
يُخبرنا المصدر المسؤول في وزارة المالية – اشترط عدم ذكره اسمه كونه غير مخول بالحديث لوسائل الإعلام – أن الموازنة العامة التي أقرها النظام العسكري غير واقعية على الإطلاق، ولا يمكن أن تصمد لأشهر قليلة قادمة ما لم تحدث معجزة، حتى لو لجأت المالية إلى الاستدانة من القطاع المصرفي بصورة مضاعفة.
ويؤكد المصدر أن عدم واقعية الموازنة يتمثل في أنها اعتمدت بشكل رئيسي على مضاعفة الضرائب على القطاعات الإنتاجية من زراعة وصناعة واستيراد وتصدير في وقت توقفت فيه عجلة الإنتاج فعليًا، بسبب الاضطرابات المستمرة من تظاهرات واستخدام للقوة المميتة وانعدام الأمن، لجهة أن القوات النظامية نفسها والمليشيات المتحالفة معها، متهمة بالتورط في أعمال النهب المسلح لممتلكات المواطنين بما في ذلك نهب الشركات ومحطات الوقود تحت تهديد السلاح.
البرهان وحميدتي لا يملكان خطةً واضحةً للنجاة من الطوفان القادم، وربما هذا ما دفعهما إلى محاولة التأثير على الإدارة الأمريكية من أجل محاولة إنقاذ علاقتهما مع إدارة بايدن التي – كما ذكرنا – أوقفت كل الدعم المبرمج إلى السودان بعد الانقلاب
سألنا محدثنا إن كان بإمكانه تحديد سقف لانهيار الانقلاب اقتصاديًا، فقال إنه لا يستطيع أن يحدد بالضبط، إلا أنه يشير إلى أن الصعوبات تزداد يومًا بعد يوم، ويُذّكر بالتصريحات التي أطلقها وزير مالية حكومة ما بعد الانقلاب جبريل إبراهيم، التي اعتذر فيها بشكل غير مباشر عن مآلات انقلاب 25 أكتوبر/تشرين الأول، مشيرًا إلى أنه لم يكن يتوقع أن تنحدر الأمور إلى هذه الدرجة من السوء!
ويلفت المصدر إلى أن الإحصاءات تفيد بقيام عدد كبير من رجال الأعمال والمستثمرين بتصفية أعمالهم والاتجاه إلى دول الجوار، مشيرًا إلى أن تدهور العملة الوطنية سيصل إلى مستويات قياسية خلال الفترة القادمة بسبب استنزاف موارد البلاد من احتياطي النقد الأجنبي، واستخدامه في استيراد أدوات القمع الأمني، والإنفاق على استنفار القوات الأمنية المشتركة واحتياجاتها الكبيرة من وقود ومواد غذائية وحوافز مالية لنحو 4 أشهر بلا توقف، وكل ذلك بالطبع بالتزامن مع توقف الدعم الخارجي.
سألنا المصدر عن الحلول الاقتصادية بحكم خبرته الطويلة في الوزارة، فأكد انسداد جميع الأبواب في وجه القادة العسكريين، ما يعني بجلاء أن البرهان وحميدتي لا يملكان خطةً واضحةً للنجاة من الطوفان القادم، وربما هذا ما دفعهما إلى محاولة التأثير على الإدارة الأمريكية من خلال توقيع اتفاقية مع عضو سابق مغمور في الكونغرس الأمريكي جيم مروان، من أجل محاولة إنقاذ علاقتهما مع إدارة بايدن التي – كما ذكرنا – أوقفت كل الدعم المبرمج إلى السودان بعد الانقلاب، كما ضغطت واشنطن على حلفائها في المنطقة “السعودية والإمارات”، لمنعهم من تقديم أي دعم للطُغمة العسكرية الحاكمة في السودان، وفق ما كشفت مساعدة وزيرة الخارجية الأمريكية للشؤون الإفريقية مولي في، ضمن إفاداتها لأعضاء لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ مطلع فبراير/شباط الحاليّ.
إغلاق طريق شريان الشمال يحرج البرهان مع راعي الانقلاب
لم تقتصر متاعب البرهان على المظاهرات المستمرة في العاصمة والولايات المختلفة، بل فوجئ بتحدٍ جديدٍ تمثّل في إغلاق أهالي الولاية الشمالية الطريق السريع الرابط بين السودان ومصر، ودفعوا بعدة مطالب قبل إعادة فتحه والسماح للناقلات الضخمة التي تحمل صادرات السودان (ماشية حية ومنتجات زراعية) إلى مصر، بينما يستورد السودان من القاهرة أدوات كهربائية ومواد غذائية مصنعة وغير ذلك.
شكّل إغلاق طريق الشمال حرجًا بالغًا للبرهان مع حليفه السيسي الذي يجزم السودانيون أنه الراعي الأساسي لانقلاب البرهان، وتسبب في إرباك حسابات البرهان لأنه بارك من قبل إغلاق موانئ وطريق الشرق، فليست لديه حجة لاستنكار إغلاق طريق الشمال، لكنه شخص معروف بفقدان المصداقية، إذ تعهد سابقًا بعدم فض اعتصام القيادة عام 2019، وغدر بعد يومين بالمعتصمين فجر الـ29 من رمضان فقتل منهم أكثر من مئة، وكذلك تعهد عدة مرات بعدم تنفيذ انقلاب على الشركاء المدنيين، لكنه فعل ذلك في 25 أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
وعلى ذات المنوال من الغدر قام بإيفاد قوات مدججة بالسلاح لفض “تروس الشمال” بالقوة، إلا أن المحتجين كانوا يردون بإغلاق وتتريس الطريق في نقاط أخرى على مدى الـ1050 كيلومترًا التي يمتد عبرها الطريق السريع من أم درمان إلى وادي حلفا.
إغلاق المتظاهرين المناهضين لانقلاب البرهان عدة أجزاء من الطريق السريع الرابط مع مصر أدى إلى شلل كامل لحركة التجارة بين البلدين خصوصًا الجانب المصري الذي كان يعتمد بشكل كبير على المنتجات الزراعية السودانية مثل السمسم والفول السوداني والقطن، بالإضافة إلى الماشية الحية من بقر وإبل.
وفقًا لبلومبيرغ، فإن الصادرات السودانية إلى مصر تراجعت بنسبة 85% في يناير/كانون الثاني (مقارنة بالعام الماضي) بسبب إغلاق الطريق لتصل إلى 43 مليون دولار فقط في الشهر الماضي، وفقًا لبيانات التجارة الحكومية التي اطلعت عليها الوكالة وأكدها مسؤول بوزارة المالية.
تخبط في مواقف قادة الانقلاب
انخفاض حجم التجارة مع مصر بنسبة 85% يعني زيادة الضغوط الاقتصادية والسياسية على قادة الانقلاب المتخبطين في مواقفهم، فبينما وقعوا عقدًا مع العضو السابق في الكونغرس الأمريكي جيم موران، فإن نائب البرهان محمد حمدان دقلو “حميدتي” يقوم حاليًّا بزيارة إلى موسكو في أيام الحرب معلنًا “باسم النظام” دعمه للرئيس الروسي بوتين.
لا يتوقع أن يكون البرهان سعيدًا بهذا التصريح الذي يضع نظامه في مواجهة مباشرة مع القوى الغربية، خاصة في ظل مساعيه لتحسين صورته في الأيام الماضية، إذ أدلى بتصريحات ذات لهجة هادئة نسبيًا.
إذًا، مع إعلان الرئيس الروسي للحرب على أوكرانيا، فمن المرجح أن تزداد الصعوبات الاقتصادية على النظام العسكري في السودان، بسبب التطورات الجيوسياسية المتوقعة من ارتفاع كبير لأسعار الوقود عالميًا وصعوبة الحصول على مساعدة خارجية، لذلك من الأرجح أن يسقط الانقلاب بانهيار اقتصادي كما ذكر مصدرنا، أو بتصدع كبير في أركان الانقلاب، هذا بالإضافة إلى الحراك الثوري المستمر، إذ تستعد لجان المقاومة لتنظيم تظاهرات جديدة مناهضة للحكم العسكري اليوم الخميس 24 فبراير/شباط.