خلال خطابه التمهيدي لغزو أوكرانيا قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إن “أوكرانيا تأسست بالكامل من قبل روسيا، حتى من قبل روسيا البلشفية الشيوعية. بدأت هذه العملية فور ثورة 1917. عمل لينين وأصدقاؤه بشكل فجّ جدًا ضد مصالح روسيا من خلال فصل جزء من أراضينا التاريخية وتمزيقها إربًا. بالطبع، لم يستشر أحد ملايين الأشخاص الذين يعيشون هناك عندما جرى فعل ذلك”.
“أوكرانيا ليست مجرد دولة مجاورة لنا، فهي جزء لا يتجزأ من تاريخنا وثقافتنا وفضائنا المعنوي. هؤلاء ليسوا رفاقنا وأقاربنا وزملائنا وأصدقاءنا فحسب، بل هم أيضًا أقاربنا، تربطنا معهم صلة الدم وروابط عائلية”، أضاف الرئيس الروسي.
كان ذلك التمهيد التاريخي عن أحقية روسيا بالأراضي الأوكرانية، مقدمةً لإعلان بوتين الاعتراف باستقلال إقليمي “دونيتسك ولوغانسك” التابعين للأراضي الأوكرانية، كما أعلن عقد اتفاقيات بين موسكو و”الجمهوريتين” الجديدتين دخلت على إثرها قوات روسية إليهما.
قصة هذين الإقليمين لم تكن الأولى بالنسبة للسياسة التوسعية الروسية بالعموم والبوتينية بالخصوص، فقد شهدت الأعوام السابقة محاولات مماثلة: إما توسعًا عن طريق ضم الأراضي إلى الاتحاد الروسي وإما عن طريق الاعتراف باستقلال أقاليم محددة والسيطرة على النفوذ المطلق فيها.
التوسع البوتيني
التوسع الروسي ليس جديدًا، لكن التوسع في عهد بوتين دخل منعطفًا أكثر تسارعًا، في محالة لاستعادة نفوذ -أو حتى حدود- الاتحاد السوفييتي الذي يرى بوتين في انهياره “أكبر كارثة جيوسياسية في القرن العشرين”، كما ردد مرارًا. وبالطبع فإن زوال الاتحاد وضعف جمهورياته المقسمة بما فيهم روسيا أتاح المجال لتوسع الاتحاد الأوروبي والناتو حيث تمدد إلى أراض كانت تتبع لروسيا وأصبحت ضمن نفوذهما.
كان بوتين شاهدًا على تلك الحقبة كاملة، وهذا ما جعله يأخذ على عاتقه مهمة إعادة روسيا إلى مكانتها ضمن القوى العالمية واستعادة أمجاد بلاده على الحدود وما وراء الحدود، وبعد استلامه الحكم عام 2000، بدأ بوتين مرحلة “استعادة الدولة” عبر بناء القوة العسكرية العابرة للقارات وتأسيس “عقيدة فرض الاحترام” من خلال بناء قدرات عسكرية دفاعية وهجومية.
ثم بدأ فلاديمير بوتين مرحلة جديدة في طريق إعادة الإمبراطورية الروسية، فقد عمل على تأكيد مكانة روسيا عبر ما سمي “عقيدة فرض التوازن الإستراتيجي”، وبدأ من خلال هذه العقيدة عدّة حروب لتوسيع النفوذ على الحدود وما هو أبعد مثل سوريا وليبيا وغيرها، من ثم بدأ التوسع الجغرافي على حدوده لمجابهة الغرب ونفوذ الناتو وليس آخره ما يحصل في أوكرانيا.
في إطار مساعي التوسع الروسي البوتيني، تعمل موسكو على دعم أكثر من حلف في وجه حلف الناتو، ولعل أشهر تلك الأحلاف يتمثل بوجود “منظمة معاهدة الأمن الجماعي”، وهو تحالف عسكري تقوده موسكو مكون من ست دول سوفياتية سابقة، وتأسس بعد تفكك الاتحاد السوفياتي. وتضم المنظمة إلى جانب روسيا، كل من بيلاروسيا وأرمينيا وكازاخستان وقرغيزستان وطاجيكستان، وعند تأسيسه قال بوتين “إننا نعيش في عالم سريع التغير، وبالتالي يتعين علينا تطوير المعاهدة التي تربطنا وتكييفها مع التهديدات الجديدة”، ويعتبر البعض هذا التحالف بمثابة ناتو مصغر تعتمد عليه موسكو.
يكمل بوتين في مرحلة ما توسيع نفوذه على صعيد اقتصادي، فينشأ الاتحاد الاقتصادي الأوروبي-الأسيوي ولعل من أهم أهدافه استمرار النفوذ الروسي في الدول المنضوية تحته ومنها دول آسيا الوسطى.
التوجه الروسي نحو هذه التحالفات، كان يسير بالتوازي مع التوسع الجغرافي، فمنذ حرب الـ 5 أيام أو ما يعرف بالحرب الجورجية الروسية وقضم أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية والاعتراف باستقلالهما من قبل موسكو لم يتوقف بوتين عن التوجه لتثبيت نقاطه وحماية حدوده من الغرب والناتو، وفي السياق يرى الأكاديمي والباحث السياسي بالشأن الروسي محمود الحمزة في حديث لـ “نون بوست” أن “هدف روسيا من التوسع هو تحصين نفسها وحماية أمنها القومي لأن المناطق التي اعترفت روسيا باستقلالها معرضة لأن تصبح قواعد للناتو، ومن ناحية أخرى فإن عقيدة الأمن القومي الروسي تنص على أن روسيا من واجبها أن تدافع عن المواطنين الروس في أي مكان وبالتالي هذه المناطق ضمن ما يسمى العالم الروسي ويجب على روسيا الدفاع عنهم”.
هنا سيكون من الضروري التعريف بالمناطق التي سيطرت عليها روسيا خلال السنوات الماضية وتوضيح أهميتها بالنسبة لبوتين.
أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية
يقع إقليم أبخازيا على الساحل الشرقي للبحر الأسود، وأعلن هذا الإقليم استقلاله عن جورجيا عام 1991 بدعم روسي، وفي عام 1993 أجبرت الجيوش الجورجية على الانسحاب من المنطقة.
يذكر أن أبخازيا كانت جمهورية تابعة لجورجيا منذ ثلاثينيات القرن الماضي، لكن حركة انفصالية نشأت في أواخر الثمانينيات عملت على استقلال الإقليم عن جورجيا، إثر ذلك شهدت نزاعًا مسلحًا بعد تنامي النزعة الانفصالية.
أعلنت أبخازيا استقلالها عن جورجيا عام 1992، وعلى إثرها أرسلت جورجيا قواتها إلى المنطقة لحفظ النظام واستطاع الجورجيون السيطرة على المنطقة لفترة محدودة، ونتيجة للدعم الذي تلقاه الأبخاز من الروس، أُجبرت الجيوش الجورجية على الانسحاب من أبخازيا. انتهت المواجهات العسكرية سنة 1993 بسيطرة الانفصاليين على العاصمة سوخومي، وخلفت تلك الحرب آلاف القتلى والمنكوبين.
دخلت القوات الروسية إلى أبخازيا عام 2008 لدعم الحركات الانفصالية، ونجحت في بسط السيطرة وطرد الجورجيين من هذه المنطقة، وبعد ذلك اعترفت باستقلال هذه الجمهورية وأقامت عدد من الاتفاقيات بين الجانبين.
لم تكن أبخازيا الوحيدة التي اعترفت روسيا باستقلالها بعد الحرب الروسية الجورجية عام 2008، فقد اعترفت باستقلال المقاطعة الجورجية أوسيتيا الجنوبية، كانت أوسيتيا الجنوبية خلال الحقبة السوفييتية تقع ضمن إقليم أوسيتيا الجنوبية ذاتي الحكم في جمهورية جورجيا الاشتراكية السوفيتية، وبعد تفكك الاتحاد السوفيتي أعلنت أوسيتيا الجنوبية استقلالها عن جورجيا عام 1990، وأطلقت على نفسها اسم “جمهورية أوسيتيا الجنوبية”.
ردت الحكومة الجورجية بإلغاء الحكم الذاتي في المنطقة وحاولت إعادة ضم المنطقة بالقوة، ما أدى لاندلاع حربين بين عامي 1991-1992، والثانية بين عامي 2004 و2008 – كانت جورجيا حينها تستعد للانضمام إلى حلف الناتو والاتحاد الأوروبي – وأدى النزاع الأخير إلى حصول الانفصاليين والقوات الروسية على السيطرة الكاملة بحكم الأمر الواقع، على كامل إقليم أوسيتيا الجنوبية، حيث توجد فيها قوات روسية حتى اليوم.
شبه جزيرة القرم
تمتد شبه جزيرة القرم من جنوب أوكرانيا بين البحر الأسود وبحر آزوف، ويفصلها عن روسيا من الشرق مضيق كيرش. تعتبر هذه المنطقة من أهم المناطق التي عملت روسيا على ضمها إلى اتحادها، وسببت أزمة عالمية كبيرة في مارس/آذار 2014، وضمت روسيا “جزيرة القرم” بعد الإطاحة بالرئيس الأوكراني الموالي لروسيا فيكتور يانوكوفيتش، وبعد تلك الثورة الشعبية تحركت قوات موالية لموسكو وسيطروا على القرم.
أجرت السلطات الانفصالية استفتاءً للتصويت على الانضمام إلى الاتحاد الروسي، وصوت سكان المنطقة ذوي الأصول الروسية إلى الانضمام لموسكو، لكن الدول لم تعترف بذلك الوضع، فهي إلى الآن تعتبر تلك الأراضي مناطق تحت السيادة الأوكرانية.
يذكر أن الروس يشكلون أغلبية السكان في القرم إلى جانب أقليات من الأوكرانيين والتتار، وشهدت هذه المنطقة عمليات تهجير كبيرة إثر اتهام جوزيف ستالين لهم بدعم النازيين عام 1944.
تكتسب شبه جزيرة القرم أهميتها الإستراتيجية من تموضعها في البحر الأسود على مقربة من مضيقي البوسفور والدردنيل اللذين يربطانه بالبحر الأبيض المتوسط، بالإضافة إلى أنه منذ تفكك الاتحاد السوفيتي عام 1991 وتقاسم أسطوله في البحر الأسود بين روسيا وأوكرانيا أصبحت شروط بقاء الأسطول الروسي في القرم موضوعًا حساسًا في العلاقات بين موسكو وكييف، وتم تحديد وضع الأسطول القانوني من خلال سلسلة من الاتفاقيات بين الجانبين.
كما أن مسألة إنهاء بقاء الأسطول الروسي في شبه الجزيرة كانت تظل على الطاولة في أوكرانيا منذ 2004، وهو ما أثار قلق موسكو عندما حصلت الثورة البرتقالية على حكم الرئيس الموالي لروسيا فيكتور يانكوفيتش.
الاندماج مع بيلاروسيا
تختلف المصطلحات ولكن الهدف واحد، فبوتين وقع العام الماضي مع نظيره البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو، على مرسوم اندماج روسيا وبيلاروس في دولة اتحادية. وشدد بوتين خلال اجتماع المجلس الأعلى لدولة اتحاد روسيا وبيلاروس على ضرورة تهيئة الأجواء الآمنة والمستقرة عند حدود البلدين مع الدول الأخرى.
إضافة إلى ذلك، اتفق البلدان على دمج سوق الغاز بينهما بالإضافة للأسواق المالية. وقد أجرت الدولتان العام الماضي تدريبات عسكرية بقوام 200 ألف جندي من القوات العسكرية المشتركة قرب الحدود مع بولندا وأوكرانيا. في خطوة نُظر إليها أوروبياً على أنها استفزاز خطير للاتحاد. وقتها تحدَّث لوكاشينكو عن “استعداد روسيا وبيلاروسيا لمواجهة أي تهديد غربي” كما كشف عن شحنة أسلحة جديدة بقيمة مليار دولار ستوردها موسكو إلى بلاده.
الغريب، أن الرئيس ألكسندر لوكاشينكو قال في السنة التي سبقت اتفاقية الاندماج إن “بلاده تتعرّض لضغوط من الكرملين لضمّها إلى روسيا في مقابل الحصول على أسعار تفضيلية على صعيد استيراد موارد الطاقة”. وقال لوكاشينكو “ألمحت القيادة الروسية إلى ضمّ بيلاروسيا في مقابل أسعار طاقة موحّدة”. وأضاف أنّه “مقتنع بأنّ كلّاً من الشعبين الروسي والبيلاروسي لن يرغبا أبداً بانتهاج هذا الطريق”.
لكن لوكاشينكو رضخ للأمر الواقع وقبل بما يمليه بوتين بعد أن نشبت احتجاجات عارمة في بلاده إثر إعادة انتخابه، وتجنبًا للعزلة الدولية التي فرضت عليه إثر مواجهته للمظاهرات الغاضبة بالعنف، حينها لجأ لوكاشينكو إلى روسيا لحمايته، وكان معارضون للرئيس البيلاروسي اتهموه بتزوير الانتخابات للبقاء في الحكم ولاية جديدة تضاف إلى 26 سنة حكم خلت.
إقليم دونيتسك ولوغانسك
كان إقليما “دونيتسك ولوغانسك”، آخر ما اعترفت روسيا باستقلالهم، ففي هذين الإقليمين نشأت مجموعات انفصالية عقب حرب القرم عام 2014 وذلك بتحريض روسي، واستغلت موسكو وجود مواطنين كثر ناطقين باللغة الروسية من أجل إيجاد الحجج للتدخل لحمايتهم بإطار مفهومها القائم على حماية “العالم الروسي”، بعد ذلك استولت المجموعات الانفصالية على المباني الحكومية وأعلنوا أن المقاطعتين “جمهوريتين شعبيتين”، وتحرك الجيش الأوكراني لإخماد الاضطرابات في تلك المناطق وحصلت اشتباكات ذهب ضحيتها الآلاف، لكن كييف لم تبسط سيطرتها عليها.
يعيش نحو 4 ملايين في الجزء الانفصالي من إقليم دونباس الأوكراني الذي يشمل أجزاءً من مقاطعتي دونيتسك ولوغانسك شرق أوكرانيا، وزعت روسيا على مدار السنوات الماضية جوازات سفر لمئات الآلاف في المناطق التي يسيطر عليها المتمردون، وفي نهاية المطاف أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الاعتراف باستقلال هذه الأراضي وعقد اتفاقيات دفاعية معها وإنزال الجيش الروسي فيها.
يوصف إقليم دونباس الذي يضم منطقتي دونيتسك ولوغانسك بـ”سلة الصناعة والغذاء” في أوكرانيا، لما فيه من ثروات طبيعية وصناعات ثقيلة ومساحات زراعية، إضافة إلى غناه بمناجم الحديد والفحم المستخدم في المصانع ومحطات توليد الطاقة والتدفئة، وهو ما يكسبه أهمية كبيرة لروسيا من الناحية الاقتصادية، أما من الناحية الإستراتيجية فإن هذا الإقليم يعتبر إسفينًا روسيًا في أوكرانيا وجبهة متقدمة للروس في معركتهم الحاليّة.
غزو أوكرانيا
صحيح أن الإقليمين السابقين تابعين لأوكرانيا لكن أزمتهما تعود لثماني سنوات ماضية والأمر بين شد وجذب، إلا أن أوكرانيا الكاملة هي الحلم القديم المتجدد ليس لبوتين فحسب وإنما لروسيا وحكوماتها المتعاقبة، واليوم بدأ بوتين غزوًا شاملُا لأوكرانيا وسط تنديد عالمي وبيانات شجب واستنكار والبدء بفرض حزم من العقوبات يبدو أنها تتوالى، لكن الدب الروسي حذر في بداية حربه على كييف من التدخل عسكريًا إلى جانب أوكرانيا.
قبل بدء الغزو وعلى مدار شهور كانت تؤكد موسكو أنها لا تنوي القيام بعمل عسكري ضد جارتها، خلافًا لما حذرت منه واشنطن والعواصم الغربية مرارًا، لكن تصاعدًا للأحداث بدأ منذ اعترف بوتين باستقلال إقليمي دونيتسك ولوغانسيك وأدخل قواته العسكرية إليهما.
هذا التوسع باتجاه أوكرانيا له دلالات عدّة في ميزان الاستراتيجية الروسية، إذ أن بوتين سيكون على جدار أوروبا بعد أن كان مفصولًا عنها، وهو ما يؤهله في سنوات لاحقة ربما للتوغل أكثر بدول البلطيق التي كانت بحوزة السوفييت فيما مضى، إذن: لا غرابة بأن تكون السيطرة على أوكرانيا هي أهم هدف يحققه بوتين وتحققه روسيا خلال عقود مضت.
ولا حصر لفوائد وجود أوكرانيا في صف بوتين إما عن طريق الضم الكامل أو عن طريق وضع حكومة يتحكم بها من موسكو، إذ أن حدود أوكرانيا تمتد إلى عمق الأراضي الزراعية الروسية كما تمتاز بالكثافة السكانية وشبكة النقل. وكذا فإن بوتين في حالة السيطرة على أوكرانيا يمنعها من الانضمام إلى حلف الناتو الذي طالما نادت كييف به، وقد كان من أهم أسباب هذه الأزمة هو حلف الناتو، فروسيا لا تريد للحلف أن يطرق أبوابها عن طريق أوكرانيا.
أقليم مهددة
لم ولن تكتفي روسيا بالتوسع الذي حققته حتى الآن ومن المستبعد أن تكون أوكرانيا آخر أهدافها، فهناك أقاليم مرشحة لأن تضمها روسيا إليها لاحقًا، وفي السياق يشير الحمزة إلى أن على رأس تلك الأقاليم، إقليم في مولدوفا، بالإضافة إلى منطقة شمال كازاخستان حيث يوجد نحو 4 ملايين روسي وفيما لو حدثت أي مشاكل بين روسيا وكازاخستان ممكن أن تعمل موسكو بسهولة على ضم المنطقة الشمالية، ويشير حمزة إلى “وجود مشاكل مع مناطق أخرى مثل جمهوريات البلطيق، أما بالنسبة لبيلاروسيا فقد ضمتها روسيا كاملة إليها، وتقريبًا الآن بيلاروسيا ضمن الدولة الاتحادية الروسية”.
في هذا السياق يذكر موقع “مودرن دبلوماسي” الأمريكي أن “بوتين يتحدث عن كازاخستان -منذ 2014- مستنكرًا تاريخها الوطني، مثلما يفعل في الوقت الراهن مع أوكرانيا، وقبل أسابيع من تدخل القوات الروسية في وقت مبكر من هذه السنة في كازاخستان لقمع الاحتجاجات الجماهيرية المناهضة للحكومة ثم انسحابها سريعًا، استخدم بوتين سؤالًا لا صلة له بالموضوع الأساسي لتذكير جمهوره بأن كازاخستان دولة ناطقة بالروسية بكل معنى الكلمة”.
ودول البلطيق هي ثلاث دول في أوروبا الشمالية على الساحل الشرقي لبحر البلطيق وهي: إستونيا ولاتفيا وليتوانيا، وتتشارك في التعاون الحكومي الدولي والبرلماني فيما بينها، وقد كانت يومًا ما ضمن جمهوريات الاتحاد السوفيتي، لكنها أصبحت الآن في الاتحاد الأوروبي منذ عام 2004، وكذلك حلف شمال الأطلسي “الناتو”، بالرغم من أن الحدود الروسية تحاصرها ولا منفذ لها إلا إلى البحر. التحركات الروسية في أوكرانيا تجعل من دول البلطيق تحت دائرة الاستهداف والتخوفات من تحرك روسي لاحق لها وهو ما دفع بهذه الدول إلى تقديم الدعم لأوكرانيا حيث أرسلوا صواريخا مضادة للدبابات وأخرى للطائرات إلى حكومة كييف.
السؤال الآن إلى أين تريد أن تصل روسيا أو يريد أن يصل بوتين بعد حملاته التوسعية؟
يذكر موقع “مودرن دبلوماسي” أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين “يسعى من خلال تحركاته إلى قلب النظام العالمي الحالي، على الأقل في ما يتعلق بهيكل الأمن في أوروبا والقارة بأكملها”، ويشير الموقع إلى أن بوتين يهدف “لجعل العالم آمنا للحكام المستبدين”. وفي مقال نشر على صحيفة الغارديان البريطانية يقول الكاتب سايمون ديسدَيل إن هدف بوتين الأساسي هو إقامة الإمبراطورية الروسية الثالثة بعد روسيا القيصرية والاتحاد السوفياتي.
تأكيدًا لما سبق من التحليلات تتحدث أنجيلا ستِنت المسؤولة السابقة في المخابرات الوطنية الأميركية لشؤون روسيا وأوراسيا أن بوتين يريد فرض نفسه على محيطه والعالم، كما أنها تصف الأمر على أنه “عقيدة بوتين”. وتشير إلى أنه “يقع في القلب من هذه العقيدة إجبار الغرب على معاملة روسيا وكأنها الاتحاد السوفيتي، أي قوة لها احترامها وهيبتها، ولها حقوق خاصة في جوارها المباشر، وصوت مسموع في كل قضية دولية مهمة”. كما أن هذه العقيدة وفقًا لأنجيلا ترتكز على أن “دولا قليلة فقط هي التي يحق لها امتلاك مثل هذه السلطة، إلى جانب السيادة الكاملة على أراضيها، وأنه ينبغي لبقية الدول الخضوع لأهواء تلك النُّخبة القليلة من القوى الكبرى”.
أظهر الغزو الروسي لأوكرانيا والسكوت عن السياسات التوسعية ضعفًا في آلية التعامل الدولي تجاه بوتين، كذلك أظهر تردد الناتو من المواجهة، ولعلّ بوتين يسعى من خلال أفعاله إلى “إضعاف هذا الحلف وإدراك هدفه النهائي وهو الإطاحة بالنظام الدولي الذي تلا الحرب الباردة” والقول هنا لأنجيلا تنست، وبهذا ستدفع روسيا البوتينية لصالح نظام دولي آخر أكثر قبولًا بالنسبة لروسيا. وتختم الكاتبة بأن بوتين “عازم على إعادة ترسيخ حق روسيا في وضع حدود للخيارات السيادية لجيرانها وحلفائها السابقين من “حلف وارسو”، وإجبار الغرب على قبول هذه الحدود، وليكن ذلك بالدبلوماسية أو بقوة السلاح”.