قبل ساعات قليلة من شن الروس هجومهم العسكري ضد إقليم دونباس (شرق أوكرانيا) فجر اليوم الخميس 24 فبراير/شباط 2022 دعا الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، نظيره الروسي فلاديمير بوتين، خلال اتصال هاتفي بينهما، إلى الحوار مع أوكرانيا وتغليب الدبلوماسية لحل الأزمة، مجددًا رفض بلاده الاعتراف الروسي بالخطوات التي تنتهك سيادة أوكرانيا ووحدة أراضيها، في إشارة إلى اعتراف بوتين بـ”دونيتسك ولوغانسك” الانفصاليتين كـ”جمهوريتين مستقلتين”.
أردوغان أكد خلال الاتصال أن الحرب والمواجهة العسكرية لن تعود بالنفع على أحد، معربًا عن استعداده لبذل الجهود الدبلوماسية كافة لنزع فتيل الأزمة قبل اشتعالها، داعيًا في هذا الإطار بوتين لزيارة أنقرة في أقرب وقت لعقد اجتماع مجلس التعاون رفيع المستوى بين البلدين، الذي عقدته نسخته الأخيرة في سوتشي الروسية سبتمبر/أيلول الماضي.
ومع الهجوم العسكري الروسي بإقليم دونباس باتت تركيا في موقف لا تحسد عليه، لا سيما في ظل شبكة العلاقات المعقدة مع أطراف النزاع، تلك الخريطة المتشابكة لا شك أنها ستضع أنقرة في أزمة دبلوماسية إزاء أطراف الحرب، لا سيما الثلاثي (روسيا وأوكرانيا والولايات المتحدة) هذا بجانب التزاماتها بصفتها عضو في حلف شمال الأطلسي.. فما السيناريوهات التي يمكن لتركيا اللجوء إليها إزاء تلك الأزمة بعدما تجاوزت خطوطها الحمراء؟
سياقات معقدة
يرجع المأزق التركي إزاء هذا التصعيد إلى معادلة التوازنات التي تسعى أنقرة قدر الإمكان للحفاظ عليها مع أطراف النزاع، أطول فترة ممكنة، خاصة في ظل تلك التموجات السياسية والأمنية والاقتصادية التي تهب رياحها على الخريطة الدولية خلال السنوات الماضية.
فعلى الجانب الروسي.. تشهد العلاقات الاقتصادية والعسكرية بين البلدين واحدة من أفضل مراحلها على مر التاريخ، رغم تباين وجهات النظر إزاء العديد من الملفات الإقليمية، فبحسب بيانات المركز الروسي في يناير/كانون الثاني 2021، بلغ حجم الاستثمارات التركية في روسيا ملياري دولار، في مقابل 6.4 مليار دولار استثمارات روسية في تركيا، هذا بجانب الاستثمارات المليارية في مجال الطاقة والمفاعلات النووية.
وعسكريًا فقد دخل البلدان نفقًا من التناغم غير المسبوق، وذلك بعد إصرار أنقرة على شراء صفقة منظومة “إس 400” الدفاعية الروسية، ضاربة بعرض الحائط التهديدات الأمريكية التي أسفرت عن عقوبات وحرب اقتصادية حامية الوطيس، كل ذلك كان له أثره في تدشين تحالف سياسي إقليمي ربما يمثل تحديًا نسبيًا للمعسكر الغربي وهي الورقة التي قد تلجأ إليها تركيا بين الحين والآخر في ضوء حسابات المصالح.
ترتبط تركيا بعلاقات متشابكة مع الأطراف الدولية الأخرى المتاخمة للنزاع وتعتبر أحد أطرافه وإن لم يكن بصورة مباشرة
وعلى المسار الأوكراني.. لا تنكر تركيا أو تخفي دعمها المطلق لكييف، إذ تعتبر أنقرة أحد أبرز القلاع الاستثمارية في الدولة الأوكرانية خلال السنوات الماضية، لتقفز معدلات التجارة المتبادلة بين البلدين لأكثر من 50% خلال العام الماضي، هذا بخلاف وجود مئات الشركات التركية العاملة في أوكرانيا.
وتتعامل أنقرة مع كييف من منطلق لوجستي إستراتيجي أكثر منه ترابط اقتصادي، إذ يعتمد الأوكرانيون على الطائرات المسيرة التركية بصورة كبيرة، هذا بجانب كونهم الممر الأكثر أمنًا للطاقة من الشرق للغرب، وينظرون إلى تركيا على أنها الباب الأوسع للانضمام للناتو، الأمر الذي دفع الرئيس التركي إلى التأكيد أكثر من مرة على دعمه لوحدة أراضي أوكرانيا في مواجهة التغول الروسي.
دوليًا.. وبعيدًا عن طرفي الصراع، ترتبط تركيا بعلاقات متشابكة مع الأطراف الدولية الأخرى المتاخمة للنزاع وتعتبر أحد أطرافه وإن لم يكن بصورة مباشرة، كما هو الحال مع حلف شمال الأطلسي “الناتو”، التي تعتبر الدولة التركية أحد أبرز قواه الإستراتيجية في شرق أوروبا، ما قد يعزز وضعيتها الحرجة إذا انخرط التحالف في مواجهة مباشرة مع الروس، الأمر ذاته مع أوروبا والولايات المتحدة التي تسعى أنقرة للحفاظ على توازن العلاقات معهما من جانب ومع روسيا من جانب آخر.
أنقرة تحت ضغوط الحلفاء
ماذا لو طلب الغرب من تركيا الانضمام لقائمة الدول التي فرضت عقوبات على روسيا؟ ثم ماذا لو ضغطت أمريكا وأوروبا على أنقرة لوقف حركة الملاحة أمام روسيا في مضيقي البوسفور والدردنيل؟ علمًا بأن أوكرانيا طلبت بالفعل هذا الطلب من تركيا خلال الساعات الماضية.
ونقلت “رويترز” عن السفير الأوكراني فاسيل بودنار قوله في مؤتمر صحفي في أنقرة: “ندعو إلى إغلاق المجال الجوي ومضيقي البوسفور والدردنيل. نقلنا مطالبنا في هذا الصدد إلى الجانب التركي. في الوقت نفسه نطالب بتطبيق عقوبات على الجانب الروسي”.
ستتجنب تركيا قدر الإمكان المواجهة العسكرية مع روسيا وجهًا لوجه، حتى لو صعدت من نبرة التصريحات بشأن دعم أوكرانيا ووحدة أراضيها
لو استجابت تركيا لضغوط الغرب وأغلقت المضيقين وانضمت لقائمة العقوبات، فإنها بذلك ستعرض مصالحها وعلاقاتها الإستراتيجية مع روسيا لخطر كبير، أبرزه فقدانها إمدادات الطاقة التي تلبي 40% من احتياجات الأتراك، وفي المقابل في حال الرفض الرسمي المطلق فإن ذلك قد يفسر تفسيرات أخرى ويهدد جدار العلاقات مع الغرب الذي تحاول أنقرة قدر الإمكان الإبقاء عليه دون شروخ.
بين الدبلوماسية والحياد
التصعيد سيربك حسابات الجميع، وعليه تحاول تركيا جاهدة تكثيف جهودها الدبلوماسية قبل تجاوز الوضع للخطوط الحمراء التي يبدو أنها على وشك بعد الغزو الأخير، ومن ثم جاء الحراك الدبلوماسي الأخير للرئيس أردوغان الذي زار كييف بداية الشهر الحاليّ، وأجرى العديد من الاتصالات مع كل أطراف الصراع في محاولة لتجميد الوضع قبل أن تطلق موسكو الرصاصة الأولى.
التدخل الروسي الحاليّ ربما يدفع أنقرة أكثر لتكثيف جهودها الدبلوماسية، إذ إنها في الوقت الراهن هي القوة الوحيدة القادرة على أداء دور الوسيط في ظل حالة الاستقطاب التي تحياها الساحة بين طرفي الحرب، وتتمتع بمساحة دافئة من العلاقات مع الجميع تسمح لها بالقيام بتلك المهام.
ورغم التحفظات التركية على الأداء الغربي في التعامل مع الأزمة وتحميله جزء من مسؤولية ما وصلت إليه الأوضاع، فإن أنقرة لا تريد إلقاء كل ما لديها من أوراق، فغاية أهدافها الآن هو منع تجاوز التصعيد لخطوطه الحمراء، فالغزو الروسي الحاليّ ربما يقترب نسبيًا من تلك الخطوط لكنه لم يتجاوزها حتى كتابة هذه السطور، وعليه هناك متسع من الوقت للتوصل إلى حلول عاجلة لتبريد الأزمة والجلوس على مائدة الحوار مرة أخرى، إذ يعلم الجميع أن الانتقال من غزو حدودي إلى حرب كاملة سيكبد العالم خسائر فادحة.
حدود الدعم التركي لأوكرانيا
التساؤل الأبرز الذي يطل برأسه حاليًّا يتعلق بما يمكن أن تقدمه تركيا لحليفها الأوكراني إزاء هذا التصعيد، خاصة بعد الطلب رسميًا من السلطات التركية غلق مضيقي البوسفور والدردنيل، وهو السؤال ذاته الذي تساءلته الكاتبة إيرين أوبراين، في مقال لها نشرته مجلة “فورين بوليسي“.
أوبراين استندت في تساؤلها إلى تصريحات الرئيس التركي السابقة بأن بلاده ستدعم كييف بقوة، لكنها في الوقت ذاته استبعدت أن يصل حجم ومستوى هذا الدعم إلى ما هو أبعد مما فعل مع أذربيجان في حربها مع أرمينيا، فمن المستبعد أن تضحي تركيا بعلاقاتها القوية مع الروس، بحسب المجلة الأمريكية.
ستتجنب تركيا قدر الإمكان المواجهة العسكرية مع روسيا وجهًا لوجه، حتى لو صعدت من نبرة التصريحات بشأن دعم أوكرانيا ووحدة أراضيها، فهناك أشكال وصور عدة للدعم ليس من بينها حاليًّا الانخراط في حرب بالوكالة مع موسكو.
موقف تركيا بعد التدخل الروسي ازداد تعقيدًا والوضعية باتت أكثر حرجًا، لكن من المرجح أن تتمسك أنقرة بسياسة الحياد ومحاولة أداء دور الوساطة
ويصف المقال كلًا من أردوغان وبوتين بأنهما زعيمان “عمليان” يمكنهما رغم التناقض الكبير في ملفات سوريا وليبيا واليمن الحفاظ على تحالفات متداخلة وأحيانًا متناقضة لأنهما يسعيان بشكل أو بآخر إلى تعزيز مصالح بلديهما مرحليًا، دون التقييمات المسبقة والكلية التي قد تكبد الدولة خسائر كبيرة وتفقدها حلفاءها.
البرغماتية التركية ستحول حتمًا دون التضحية بـ40% من احتياجات الغاز الواردة من روسيا، كما أن التجارب السابقة يمكنها تقديم صورة أولية عن سيناريوهات التعاطي مستقبلًا، فالمحطات الصدامية التي شهدتها العلاقات بين البلدين خلال العقدين الأخيرين لم تستطع إحداث القطيعة الكاملة، بدءًا من حرب جورجيا 2008 مرورًا باحتلال شبه جزيرة القرم في 2014 وبعدها سقوط الطائرة الروسية عام 2015، كذلك المحطة الأوكرانية الأخيرة يتوقع أن تكون امتدادًا لما سبقها.
في ضوء المعطيات السابقة يمكن القول إن موقف تركيا بعد التدخل الروسي ازداد تعقيدًا والوضعية باتت أكثر حرجًا، لكن من المرجح أن تتمسك أنقرة بسياسة الحياد ومحاولة أداء دور الوساطة قدر الإمكان للحيلولة دون تجاوز الخط الأحمر، الذي إن حدث وتم تجاوزه سيتغير المشهد وخريطة التحالفات العالمية تمامًا.. حينها يكون لكل حدث حديث.