شنّت القوات الروسية مع صبيحة الخميس 24 فبراير/شباط 2022، هجومًا عسكريًا واسع النطاق في إقليم دونباس (شرق أوكرانيا) أسفر حتى كتابة هذه السطور عن مقتل وإصابة العشرات من الطرفين، حيث استهدف الانفصاليون المدعومون بالعتاد الروسي العديد من المقرات العسكرية والبنية التحتية الأوكرانية.
ووفق “وول ستريت جورنال” الأمريكية، نقلًا عن مسؤول أوكراني فقد سقط مئات الجنود الأوكرانيين في ضربات جوية وهجمات صاروخية روسية، فيما أعلنت الداخلية الأوكرانية مقتل 7 أشخاص مدنيين وإصابة 9 في قصف روسي عنيف على العاصمة كييف، حسبما أفاد مراسل “الجزيرة“، في الوقت الذي أعلنت فيه وزارة الدفاع الأوكرانية مقتل نحو 50 روسيًا، وتدمير 6 طائرات، وهي المعلومات التي نفتها وزارة الدفاع الروسية.
الهجوم الروسي جاء بعد تحذيرات متعددة أطلقتها الولايات المتحدة والحكومة الأوكرانية، ولطالما أنكرتها موسكو، تزامنًا مع جهود دبلوماسية إقليمية ودولية مكثفة لنزع فتيل الأزمة، الأمر الذي اعتبره البعض إهانةً للغرب واستهانةً بالعقوبات المفروضة على روسيا قبل يومين.
Ukrainian military tank and armored vehicles were seen parked on the street in Mariupol, a port town which is less than 12 miles from the nearest trenches in the eastern Donbass region https://t.co/gKOxhAzPJC pic.twitter.com/LCW9dbRnO0
— Reuters (@Reuters) February 24, 2022
غزو واسع النطاق
سمع دوي انفجارات قوية في العديد من المدن الروسية أبرزها “خاركيف” التي تبعد 35 كيلومترًا عن الحدود مع روسيا، وتعد ثاني أكبر المدن بعد العاصمة، بجانب “كراماتورسك” الحدودية التي تعد العاصمة الشرقية لأوكرانيا، كذلك مدينة “أوديسا” على البحر الأسود و”ماريوبول” الساحلية، فيما يبدو أنه غزو واسع النطاق وليس دعمًا محدودًا لانفصاليي “دونيتسك ولوجاستيك” المعترف بهما كدولتين مستقلتين من موسكو.
التقارير الواردة من هناك تشير إلى تعرض المباني الحكومية والرئاسية في العاصمة كييف لأضرار بالغة نتيجة القصف، فيما أشار الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إلى أن القوات الروسية نفذت ضربات صاروخية على البنية الأساسية لبلاده، وهو التصريح الذي أكده زعماء انفصاليي دونباس، فيما أفاد مراسل لرويترز بمشاهدة دخان أسود يتصاعد فوق مقر المخابرات التابعة لوزارة الدفاع وسط العاصمة.
وجاء الهجوم الروسي من كل الاتجاهات، فقد عبرت القوات البرية الروسية الحدود الشرقية لأوكرانيا فيما تحركت المدرعات من شبه جزيرة القرم (شمال)، وأخرى من ماريويوبول (جنوب شرق)، ما كان له أثره القوي في وقوع الكثير من الخسائر وضرب البنية التحتية.
من السابق لأوانه – على الأقل حتى كتابة تلك السطور – تحديد النطاق الكامل للغزو الروسي، إلا أن الأمور مرشحة للتصاعد والتوسع الجغرافي استنادًا إلى ما أشار إليه بوتين في خطابه الذي سبق الهجوم حين قال إن خطته تشمل احتلال الأراضي الأوكرانية كافة.
Ukraine says ‘full-scale invasion’ by Russia is underway as explosions are reported across the country#Russia #Ukraine #Putin | #الحرب_العالمية_الثالثة #روسيا #أوكرانيا #روسيا_واوكرانيا pic.twitter.com/pPpJPOdDOs
— Egypt Today Magazine (@EgyptTodayMag) February 24, 2022
أوكرانيا.. رعب وتعبئة
عمّت أجواء القلق والرعب شوارع المدن الأوكرانية بعد الاجتياح الروسي لأراضيهم، إذ تداول رواد مواقع التواصل الاجتماعي مقاطع مصورة لطوابير من الأوكرانيين أمام الأسواق التجارية ومحطات الوقود وآلات سحب الأموال، للتزود بأكبر قدر من مستلزمات الحياة والابتعاد عن المناطق الملتهبة في العاصمة وأجوارها.
الرئيس الأوكراني حاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه عبر اتصال حاول إجراءه مع نظيره الروسي لكن أحدًا لم يجبه وفق “الأناضول”، معلنًا بعدها الأحكام العرفية في البلاد، ليتوجه بخطاب إلى الشعب الروسي – كمواطن وليس كرئيس – مناشدًا إياه الضغط لإثناء بوتين عن هجومه، لافتًا إلى أن أوكرانيا وروسيا تجمعهما حدود تبلغ ألفي كيلومتر.
لم يتوقع الأوكرانيون – حتى المتشائمين منهم – أن يصل التهور الروسي إلى استهداف العاصمة كييف، فكان المعتقد أن الأزمة كلها تنحصر في نقاط التماس الحدودية شرقًا، بحسب المبررات التي ساقها بوتين للتهديد بالدخول العسكري، المتعلقة بدعم الدولتين الانفصاليتين الجديدتين، وهو ما أصاب الشعب الأوكراني بالصدمة.
Some Kyiv residents try to flee, others stock up after Russia attacks https://t.co/6gVzKjeiGV pic.twitter.com/zclW8GBTLK
— Reuters (@Reuters) February 24, 2022
إدانات دولية وتحفظ صيني
الغزو الروسي قوبل بتنديد دولي واسع النطاق، فأعرب البيت الأبيض عن استنكاره الكامل لهذه الخطوة، فيما أكد الرئيس جو بايدن دعم الولايات المتحدة لأوكرانيا في مواجهة الهجوم الروسي، وكشفت الخارجية الأمريكية عن اتصال جرى بين وزيري الخارجية والدفاع لبحث تطورات المشهد، والتأكيد على التزام بلادهما بمبدأ الدفاع الجماعي بموجب المادة الخامسة من ميثاق الحلف.
فيما اعتبر الأمين العام لحلف شمال الأطلسي ينس ستولتنبرغ، أن روسيا اختارت طريق العدوان على دولة مستقلة ذات سيادة رغم التحذيرات الأوروبية المتكررة وجهود الانخراط في الدبلوماسية، وهو موقف رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، التي تعهدت ورئيس المجلس الأوروبي شارل ميشال، بـ”محاسبة” موسكو، بينما تعهد الاتحاد الأوروبي بفرض “أقوى” حزمة من العقوبات من الممكن أن تُفرض على دولة ما.
بريطانيًا.. أدان رئيس الوزراء بوريس جونسون ما وصفه بـ”الأحداث المروعة في أوكرانيا”، قائلًا إنّ بوتين “اختار إراقة الدماء والدمار بشن هذا الهجوم غير المبرر”، وغرّد على “تويتر” قائلًا: “سترد بريطانيا وحلفاؤنا بشكل حازم”، فيما تعهدت وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك، بالرد الحازم على الغزو الروسي، متوعدة بفرض حزمة “كاملة” من العقوبات على موسكو.
ودعا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، موسكو بإنهاء عملياتها العسكرية فورًا، مستنكرًا تلك الخطوة المفاجئة، مضيفًا خلال تغريدتين عبر حسابه على تويتر أن “فرنسا تتضامن مع أوكرانيا وتقف إلى جانب الأوكرانيين وتعمل مع شركائها وحلفائها لإنهاء الحرب”.
كما دخلت كندا على خط الإدانات الدولية، فأكد رئيس الوزراء جاستن ترودو أن العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا لن تمر دون عقاب، متعهدًا باتخاذ إجراءات إضافية لوقف هذا الهجوم الذي سيقابل بعواقب وخيمة بالتنسيق بين شركاء مجموعة السبع، على حد قوله، مضيفًا “سنستمر في الوقوف مع أوكرانيا وشعبها”.
وأمام هذا التنديد الدولي طالبت الصين جميع الأطراف المعنية في أوكرانيا بضبط النفس، معلنة رفضها استخدام مصطلح “الغزو” الذي تناقلته بعض وسائل الإعلام الأجنبية في وصف التحركات العسكرية الروسية ضد الدولة الأوكرانية، حسبما جاء على لسان المتحدثة باسم الخارجية الصينية.
يذكر أن الصين هي الحاضنة الاقتصادية لروسيا خلال سنوات العقوبات الغربية عليها منذ 2014 وحتى اليوم، وتستند إليها موسكو في تحديها للضغوط الغربية، في الوقت الذي ترى فيه بكين هذا الدعم للروس محاولة لاستعادة دورها الدولي في إطار صراع النفوذ الاقتصادي مع الولايات المتحدة.
بيان للنيتو: أفعال روسيا تهدد الأمن الأوروبي وستكون لها عواقب استراتيجية وسنستمر في اتخاذ ما يلزم لحماية حلفائنا pic.twitter.com/oFpK2JhYiF
— الجزيرة نت (@ajanet_ar) February 24, 2022
حراك دبلوماسي متوقع
تزامنًا مع القصف الروسي تبذل بعض القوى جهودًا دبلوماسيةً للحيلولة دون تطور الوضع أكثر من ذلك، فتلقى أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، صباح اليوم، اتصالًا هاتفيًا من الرئيس الأوكراني، لمناقشة الوضع والحث على التدخل وممارسة المزيد من الضغوط الدبلوماسية لوقف تلك العمليات.
أمير قطر خلال الاتصال دعا جميع الأطراف إلى “ضبط النفس وحل الخلاف عبر الحوار البناء والطرق الدبلوماسية وتسوية المنازعات الدولية بالوسائل السلمية، وعدم اتخاذ ما من شأنه أن يؤدي إلى مزيد من التصعيد”، مشددًا في الوقت ذاته على موقف بلاده وحرصها على ميثاق الأمم المتحدة والمبادئ الراسخة للقانون الدولي.
ومن الدوحة إلى أنقرة، من المرجح أن يجري الرئيس رجب طيب أردوغان اتصالات مكثفة مع أطراف الأزمة لما يملكه من مساحات سياسية مع كل القوى المنخرطة في النزاع، للعودة إلى طاولة الحوار، وتغليب الحلول الدبلوماسية على المواجهات العسكرية التي ستكون نتائجها كارثية على الجميع.
أكبر من دونيتسك ولوجاستيك
تفاصيل الاقتحام وحجم العتاد المستخدم يشير إلى أن العملية أكبر من مجرد دعم انفصاليي دونيتسك ولوجاستيك، إذ تتوغل المدرعات الروسية في قلب العاصمة كييف وتقصف المباني السيادية وعلى رأسها المطارات وجهاز المخابرات، وسط هروب سكان المدينة للمدن الغربية البعيدة نسبيًا عن القصف.
الهدوء الذي يخيم على كييف والشوارع الخالية وهرولة المواطنين هربًا بحياتهم كلها مؤشرات ترجح تخوفات البعض من خطة روسيا لاحتلال أوكرانيا بأكملها، أو على الأقل إضعافها قدر الإمكان وهدم بنيتها التحتية بما يسمح للروس بكامل الهيمنة على إقليم دونباس الذي يقبع ثلثه تحت سيطرة الانفصاليين.
من المرجح أن تحاول موسكو تحقيق أكبر قدر من المكاسب العسكرية على أرض الميدان، بما يسمح لها بوضعية أفضل في التفاوض مع الغرب، ويمنحها الأفضلية في فرض شروطها، وهو ما يمثل ضغطًا على أوروبا والولايات المتحدة المتوقع أن تتخذ إجراءات تصعيدية خلال الساعات القادمة لكنها لن تعيد الأجواء إلى ما كانت عليه قبل فجر اليوم.
حالة من حبس الأنفاس تخيم على الأجواء، وسط ترقب لما يمكن أن تشهده الساعات القادمة، فرغم الميل نحو تجنب الغرب الانخراط في المواجهة العسكرية مع روسيا التي تسعى لتوسيع دائرة نفوذها شرقًا ثم تعاود مكانها مرة أخرى، فإن الإهانة التي ارتكبها بوتين بحق زعماء أوروبا وأمريكا ربما تدفعهم إلى الانتقام بطريقة أكثر تطرفًا، وبينما يستبعد الكثيرون اللجوء إلى هذا السيناريو في ظل الحسابات المعقدة للغرب في هذا الملف، تبقى كل السيناريوهات واردةً وفق نظرية الاحتمالات.