ترجمة وتحرير: نون بوست
مثّل انضمام روسيا إلى الحرب المستمرة في سوريا في صيف 2015 صدمةً بالنسبة للولايات المتحدة وشركائها. وقد ادعى الرئيس باراك أوباما حينها أن سوريا ستصبح “مستنقعًا” لروسيا ورئيسها فلاديمير بوتين وستكون الفيتنام الروسية أو أفغانستان بوتين، وهو خطأ فادح سيرتد في النهاية ضد المصالح الروسية.
لم ينتهي المطاف بتحوّل سوريا إلى مستنقع بالنسبة لبوتين وإنما غيّر التدخل الروسي الموازين وأنقذ الرئيس السوري بشار الأسد من هزيمة كانت وشيكة، ثم تُرجمت القوة العسكرية الروسية إلى نفوذ دبلوماسي. لم يعد ممكنا تجاهل التدخل الروسي في سوريا خاصة في غياب تسوية دبلوماسية. وقد اكتسبت موسكو نفوذاً إقليمياً أكبر، من إسرائيل وصولا إلى ليبيا، وحظيت بشريك مخلص مثل الأسد لإبراز قوتها. وما فشلت إدارة أوباما في توقعه في سوريا هو احتمال نجاح التدخل الروسي.
في شتاء 2021-2022، توقّعت الولايات المتحدة وأوروبا مجددًا تدخلا عسكريا روسيا كبيرًا لكن هذه المرة في أوروبا نفسها، ويُحذر العديد من المحللين من العواقب الوخيمة التي يمكن أن تطال المعتدي. في 11 شباط/ فبراير، توقّع وزير الدولة البريطاني لشؤون أوروبا جيمس كليفرلي أن تكون الحرب على أوكرانيا مستنقعًا لروسيا. وفي تحليل عقلاني للتكلفة والفوائد، يعتقد الكثيرون أن ثمن شن حرب شاملة على أوكرانيا سيكون باهظًا للغاية بالنسبة للكرملين وسيترتّب عنه حمام دم.
حسب تقديرات الولايات المتحدة قد ينتج عن هذا العدوان سقوط ما يصل إلى 50 ألف ضحية من المدنيين. وإلى جانب زعزعة ثقة النخبة الروسية في بوتين بالنظر إلى ما ستُعانيه من التوتّرات اللاحقة مع أوروبا، يمكن أن تعرّض الحرب الاقتصادَ الروسي للخطر وتعزل البلاد عن العالم. في الوقت نفسه، يمكن أن تدفع هذه الحرب قوات الناتو إلى الاقتراب أكثر من حدود روسيا، تاركة روسيا في مواجهة مقاومة أوكرانية لسنوات قادمة.
إذا استطاعت روسيا السيطرة على أوكرانيا أو تمكنت من زعزعة استقرارها على نطاق واسع، سيُمثّل ذلك بداية حقبة جديدة للولايات المتحدة وأوروبا
من هذا المنظور، ستكون روسيا عالقة في كارثة من صنعها لكن يبدو أن تحليل بوتين لتكلفة وفوائد غزو أوكرانيا مناسب لقلب الوضع الراهن في أوروبا. تتحمل القيادة الروسية المزيد من المخاطر التي تنضاف إلى الصراع السياسي اليومي بينما يقود بوتين مهمة تاريخية لترسيخ نفوذ روسيا في أوكرانيا، مثلما فعل مؤخرًا في بيلاروسيا وكازاخستان. وترى موسكو أن النصر في أوكرانيا قد يكون في متناول اليد. بالطبع، من المحتمل أن تُطيل روسيا الأزمة الحالية لو لم يحدث الغزو أو تجد طريقة مستساغة للانسحاب. ولكن إذا كانت حسابات الكرملين صحيحة، كما كانت في سوريا، يجب أن تكون الولايات المتحدة وأوروبا مستعدتان أيضًا لاحتمال آخر غير المستنقع، وهو فوز روسيا في أوكرانيا.
إذا استطاعت روسيا السيطرة على أوكرانيا أو تمكنت من زعزعة استقرارها على نطاق واسع، سيُمثّل ذلك بداية حقبة جديدة للولايات المتحدة وأوروبا. سيواجه قادة الولايات المتحدة وأوروبا التحدي المزدوج المتمثل في إعادة التفكير في الأمن الأوروبي وعدم الانجرار إلى حرب أوسع نطاقًا مع روسيا. سيتعين على جميع الأطراف التفكير في إمكانات الخصوم المسلحين نوويًا في حال حدوث مواجهة مباشرة. لكن الدفاع بقوة عن السلام الأوروبي والابتعاد بحكمة عن التصعيد العسكري مع روسيا ليستا متوافقتين بالضرورة. وقد تجد الولايات المتحدة وحلفاؤها أنفسهم غير مستعدين لمهمة إنشاء نظام أمني أوروبي جديد نتيجة للأعمال العسكرية الروسية في أوكرانيا.
طرق عديدة للفوز
بالنسبة لروسيا، قد يتخذ النصر في أوكرانيا أشكالًا مختلفة. كما هو الحال في سوريا، لا يجب أن يؤدي النصر إلى تسوية مستدامة وإنما يمكن أن يشتمل على تنصيب حكومة موالية في كييف أو تقسيم البلاد. أمّا هزيمة الجيش الأوكراني والتفاوض على استسلام أوكرانيا يمكن أن يحوّلها فعليًا إلى دولة فاشلة. يمكن لروسيا أيضًا شنّ هجمات إلكترونية مدمّرة وأدوات تضليل مدعومة بالتهديد باستخدام القوة لشلّ البلاد والحثّ على تغيير النظام. ومهما كانت النتيجة، ستكون أوكرانيا بحلول ذلك الوقت قد انفصلت فعليًا عن الغرب.
إذا حققّت روسيا أهدافها السياسية في أوكرانيا بالوسائل العسكرية فلن تكون أوروبا كما كانت قبل الحرب. ونتيجة لذلك لن يتم التشكيك في مدى قدرة الولايات المتحدة على حماية أوروبا وإنما أيضا في مدى قدرة الاتحاد الأوروبي أو حلف الناتو على ضمان السلام في القارة. بدلاً من ذلك، سينحصر الأمن في أوروبا في الدفاع عن الأعضاء الأساسيين في الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي. وكل طرف خارج هذه التحالفات سيكون وحيدًا باستثناء فنلندا والسويد. قد لا يكون هذا بالضرورة قرارًا واعيًا لإنهاء سياسة التوسيع أو الشراكة وإنما سياسة فرضها الأمر الواقع. وتحت حصار مفترض من قبل روسيا، لن يكون لدى الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي طموحات سياسيّة خارج حدودهما.
تمتلك روسيا أكبر جيش تقليدي في أوروبا وهو على أهبة الاستعداد. كما أن السياسة الدفاعية للاتحاد الأوروبي – على عكس سياسة الناتو – بعيدة كل البعد عن كونها قادرة على توفير الأمن لأعضائها.
ستكون الولايات المتحدة وأوروبا في حالة حرب اقتصادية دائمة مع روسيا. سيفرض الغرب عقوبات كبيرة من المرجح أن تتجنبها روسيا من خلال الحملات الإلكترونية والابتزاز في مجال الطاقة وذلك بالنظر إلى التفاوتات الاقتصادية. قد تقف الصين إلى جانب روسيا في هذه الخطوة الاقتصادية. وفي غضون ذلك، ستكون السياسة الداخلية في الدول الأوروبية بمثابة لعبة القرن الحادي والعشرين الكبرى، حيث ستقوم روسيا بالبحث عن أي انهيار في التزامات أوروبا تجاه حلف الناتو والعلاقة عبر الأطلسية. وسواء كان ذلك من خلال أساليب عادلة أو ملتوية، ستنتهز روسيا أي فرصة سانحة للتأثير على الرأي العام والانتخابات في الدول الأوروبية. سيكون وجود روسيا فوضويًّا – حقيقيًا في بعض الأحيان وخياليًا أحيانا أخرى – في كل حالة من حالات عدم الاستقرار السياسي الأوروبي.
لن تكون مقارنات الحرب الباردة مفيدة عندما تصبح أوكرانيا جزءًا من روسيا. فقد عرفت حدود الحرب الباردة في أوروبا بؤر توتر لكنها استقرت بطريقة مقبولة للطرفين بعد توقيع اتفاقية هلسنكي النهائية في سنة 1975. وعلى النقيض من ذلك، من شأن التدخل الروسي في أوكرانيا أن يزعزع استقرار المنطقة وأمنها من إستونيا إلى بولندا مرورًا برومانيا وصولا إلى تركيا. وطالما أن روسيا باقية في أوكرانيا، سيعتبر جيران أوكرانيا ذلك استفزازًا لهم وتهديدًا أمنيًا بالنسبة للبعض. ووسط هذه الديناميكية المتغيرة، ينبغي تحليل النظام في أوروبا من منظور عسكري في المقام الأول – وهو ما يخدم مصلحة الكرملين بالنظر إلى تفوقها العسكري على عكس ما هو الحال من الناحية الاقتصادية – مقابل تهميش المؤسسات غير العسكرية مثل الاتحاد الأوروبي.
تمتلك روسيا أكبر جيش تقليدي في أوروبا وهو على أهبة الاستعداد. كما أن السياسة الدفاعية للاتحاد الأوروبي – على عكس سياسة الناتو – بعيدة كل البعد عن كونها قادرة على توفير الأمن لأعضائها. وهو ما يجعل التأمين العسكري، خاصة من دول الاتحاد الأوروبي الشرقية، أساسيًا. وفي هذه الحالة، لن يكون الرد على روسيا من خلال العقوبات والخطابات بشأن قواعد النظام العالمي كافيًا.
غزو شرق أوروبا
في حالة انتصار روسيا في أوكرانيا، فإن مكانة ألمانيا في أوروبا سوف تواجه تحديات شديدة. ألمانيا قوة عسكرية هامشية أسست هويتها السياسية على رفض الحرب. كما أن الدول الصديقة المحيطة بها خاصة من الشرق مثل بولندا ودول البلطيق معرّضة لخطر زعزعة استقرارها من قبل روسيا. ستتولى فرنسا والمملكة المتحدة أدوارا قيادية في الشؤون الأوروبية بفضل جيوشهما القوية نسبيًا والتقاليد العريقة في التدخل العسكري. وعلى كل حال، ستظل الولايات المتحدة الطرف الحاسم في أوروبا، حيث سيعتمد الناتو على دعمها وعلى الدول المتوترة والمعرضة للخطر في شرق أوروبا، ودول خط المواجهة المنتشرة على طول الحدود مع الدول التي تجمعها علاقات وطيدة مع روسيا، بما في ذلك بيلاروسيا والأجزاء التي تسيطر عليها روسيا في أوكرانيا.
من المرجح أن تنتشر أعداد كبيرة من قوات الناتو المتمركزة بشكل دائم في دول الاتحاد الأوروبي الشرقية، بما فيها إستونيا ولاتفيا وليتوانيا وبولندا ورومانيا. وسيكون من المستحيل رفض طلب من فنلندا والسويد بموجب المادة 5 للانضمام إلى الناتو. لن تعترف دول الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي أبدًا بنظام جديد مدعوم من روسيا في أوكرانيا، لكنهم سيواجهون نفس التحدي الذي يواجهونه حاليًا مع بيلاروسيا وهو فرض العقوبات دون معاقبة السكان ودعم المحتاجين دون الوصول إليهم. سيعزز بعض أعضاء الناتو التمرد الأوكراني وسترد روسيا على ذلك بتهديد أعضائه.
تتجه أوكرانيا نحو مأزق عظيم للغاية، سيفر اللاجئون في اتجاهات متعددة وربما بالملايين، فيما ستواصل قوات الجيش الأوكراني التي لم تُهزم بشكل مباشر القتال في مشهد سيكرر الحرب بين القوات غير النظامية التي مزّقت هذه المنطقة بأكملها أثناء وبعد الحرب العالمية الثانية.
قد تظل حالة التصعيد الدائمة بين روسيا وأوروبا باردة من الناحية العسكرية، لكنها قد تكون حامية الوطيس على الصعيد الاقتصادي. فيما يتعلّق بالعقوبات المفروضة على روسيا في سنة 2014، التي كانت مرتبطة بالدبلوماسية الرسمية التي يُشار إليها غالبًا باسم عملية “مينسك”، فإنها لم تكن صارمة بما يكفي بل كانت متزعزعة ومشروطة. أمّا بالنسبة لتداعيات الغزو الروسي لأوكرانيا، ستكون العقوبات الجديدة على الخدمات المصرفية وتصدير المعدات التكنولوجية كبيرة ودائمة. ردًا على ذلك، ستنتقم روسيا على الأرجح في المجال السيبراني وكذلك في قطاع الطاقة، وستحد من الوصول إلى السلع الحيوية مثل التيتانيوم، الذي تعد روسيا ثاني أكبر مصدر له في العالم.
ستؤدي التدفقات الهائلة للاجئين الوافدين على أوروبا إلى مزيد انتكاس سياسة الاتحاد الأوروبي بشأن اللاجئين التي لم يتم حلها والتي بدورها ستصب في صالح الشعبويين
إن حرب الاستنزاف هذه ستمتحن كلا الجانبين، حيث ستحاول روسيا بلا كلل إقناع دولة أو عدة دول أوروبية بالتراجع عن الحرب الاقتصادية من خلال ربط تخفيف التوتر بالمصالح الذاتية لهذه الدول، وبالتالي تقويض الإجماع في الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو.
في المقابل، تكمن قوة أوروبا في نفوذها الاقتصادي ومن المرجح أن تكون الأصول الروسية مصدرًا للانقسام أو الاضطراب المحلي في أوروبا أو مع شركائها من الغرب. ومن هنا ستكون روسيا استباقية وانتهازية: فإذا أظهرت حركة أو مرشح ما تأييدًا لروسيا قد تسعى لدعم هذا المرشح بشكل مباشر أو غير مباشر. وإذا أثرت مواطن الخلل الاقتصادي أو السياسي من فعالية السياسة الخارجية للولايات المتحدة وحلفائها، ستكون سلاحًا يخدم جهود الدعاية والتجسس الروسية- والكثير من هذا يحدث الآن بالفعل.
لكن الحرب في أوكرانيا ستزيد من تفاقم الأزمة وستستخدم روسيا المزيد من الموارد ولن تكون مقيدة في اختيار الأدوات، فيما ستؤدي التدفقات الهائلة للاجئين الوافدين على أوروبا إلى مزيد انتكاس سياسة الاتحاد الأوروبي بشأن اللاجئين التي لم يتم حلها والتي بدورها ستصب في صالح الشعبويين. سيكون الهدف من هذه المعارك الإعلامية والسياسية والسيبرانية التأثير على الانتخابات الرئاسية الأمريكية لسنة 2024، التي ستؤثر بدورها على مستقبل أوروبا. قد يؤدي انتخاب دونالد ترامب أو مرشح يشبهه إلى تدمير العلاقة مع أوروبا في الوقت التي تواجه فيه خطرًا وشيكًا، مما يُشكك في موقف الناتو وضماناته الأمنية لأوروبا.
تغيير السياسة الداخلية للناتو
بالنسبة للولايات المتحدة، سيكون لنصر روسيا آثار عميقة على استراتيجيتها الكبرى في أوروبا وآسيا والشرق الأوسط. أولاً، سيتطلب نجاح الحملة العسكرية الروسية في أوكرانيا من واشنطن أن تركّز على أوروبا، ولن يُسمح بأي غموض بشأن المادة 5 من الناتو، حيث سيؤدي التزام الولايات المتحدة القوي بأمن أوروبا إلى منع روسيا من تقسيم الدول الأوروبية عن بعضها البعض. سيكون هذا صعبًا في ظل الأولويات المتنافسة، لا سيما تلك التي تواجه الولايات المتحدة التي تشهد علاقة متدهورة مع الصين. لكن المصالح المعرضة للخطر بشكل أساسي تتمثّل في الأسهم التجارية الكبيرة جدًا التي تمتلكها الولايات المتحدة في أوروبا، لا سيما أنّ الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة هما أكبر شريكين تجاريين واستثماريين في العالم بإجمالي مبادلات بلغت 1.1 تريليون دولار في سنة 2019. لطالما ساهمت أوروبا في تعزيز السياسة الخارجية الأمريكية – بشأن تغير المناخ وحظر الانتشار والصحة العالمية وإدارة التوترات مع الصين أو روسيا – فإذا تم زعزعة استقرار أوروبا ستكون الولايات المتحدة هي المتضرر الأكبر في هذا الأزمة.
يُعتبر الناتو الوسيلة المنطقية التي يمكن للولايات المتحدة من خلالها ضمان أمن أوروبا وردع روسيا، لا سيما أن الحرب في أوكرانيا من شأنها أن تُحيي الناتو ليس كمشروع لبناء الديمقراطية أو كأداة لإرسال بعثات خارج المنطقة مثل الحرب في أفغانستان، بل باعتباره تحالفًا عسكريًا دفاعيًا لا مثيل له. وعلى الرغم من أن الأوروبيين سيطالبون الولايات المتحدة بالتزام عسكري أكبر تجاه أوروبا، إلا أنّ توسّع الغزو الروسي لأوكرانيا يجب أن يدفع كل عضو في الناتو إلى زيادة إنفاقه الدفاعي. بالنسبة للأوروبيين، ستكون هذا النداء الأخير لتحسين القدرات الدفاعية لأوروبا – جنبًا إلى جنب مع الولايات المتحدة – من أجل مساعدة الولايات المتحدة في إدارة الأزمة الروسية الصينية.
في ظل المواجهة المستمرّة بين موسكو والغرب بالنسبة لموسكو، يمكن لبكين أن تكون داعما اقتصاديا وشريكا لموسكو في مواجهة الهيمنة الأمريكية. في أسوأ الحالات، قد تتشجع الصين بما فعلته روسيا وتهدد بمواجهة تايوان. لكن ليس هناك ما يضمن أن التصعيد في أوكرانيا سيفيد العلاقات الصينية الروسية. إن طموح الصين في أن تصبح محور الاقتصاد الأوروبي الآسيوي سوف يتضرر من جراء الحرب في أوروبا، بسبب حالة عدم اليقين الكبيرة التي تجلبها الحرب. لن يؤدي الغضب الصيني من روسيا في هذه الأزمة إلى تمكين التقارب بين واشنطن وبكين، لكنه قد تنتج عنه محادثات جديدة.
يمكن أن تمتد المواجهة الأمريكية الروسية، في أسوأ الأحوال، لتشمل الحروب بالوكالة في الشرق الأوسط أو إفريقيا إذا ما قررت الولايات المتحدة إعادة ترسيخ وجودها بعد الانسحاب الكارثي من أفغانستان
إنّ الصدمة الناتجة عن التحرك العسكري الكبير من جانب روسيا ستثير تساؤلات مماثلة في أنقرة. تستمتع تركيا تحت قيادة الرئيس رجب طيب أردوغان بلعبة الحرب الباردة الموقرة المتمثلة في التلاعب بالقوى العظمى. مع ذلك، تتمتع تركيا بعلاقة قوية مع أوكرانيا. وكعضو في الناتو، لن تستفيد من عسكرة البحر الأسود وشرق البحر الأبيض المتوسط. قد تدفع الإجراءات الروسية التي تزعزع استقرار المنطقة الأوسع تركيا إلى الوقوف في صف الولايات المتحدة، وهو ما قد يؤدي بدوره إلى إحداث تصدّع في العلاقات بين أنقرة وموسكو. سيكون هذا مفيدًا لحلف الناتو، وسيفتح أيضًا الأفق لإمكانيات أكبر للشراكة الأمريكية التركية في الشرق الأوسط. وبدلاً من أن تكون تركيا مصدر قلق، يمكن أن تتحول إلى حليف يُعتمد عليه.
تتمثل النتيجة المريرة لحرب أوسع في أوكرانيا في المواجهة بين روسيا والولايات المتحدة في أوروبا باعتبارهما أعداء، وستكونان عاجزتين عن تحمل تكاليف هذه العداوة لوقت أطول. بغض النظر عن وجهات نظرهما للعالم ومهما كانت متعارضة أيديولوجيًا، فإن هاتين القوتين النوويتين الأكثر أهمية في العالم سوف تضطران إلى السيطرة على غضبهما. سيصبح الوضع مربكا: حالة من الحرب الاقتصادية والصراع الجيوسياسي في جميع أنحاء القارة الأوروبية، مع بذل جهود لعدم السماح بالتصعيد وانقلاب الصراع إلى حرب صريحة.
في الوقت ذاته، يمكن أن تمتد المواجهة الأمريكية الروسية، في أسوأ الأحوال، لتشمل الحروب بالوكالة في الشرق الأوسط أو إفريقيا إذا ما قررت الولايات المتحدة إعادة ترسيخ وجودها بعد الانسحاب الكارثي من أفغانستان. سيكون الحفاظ على التواصل، خاصة فيما يتعلق بالاستقرار الاستراتيجي والأمن السيبراني، أمرًا بالغ الأهمية. وفي الواقع، إن التعاون الأمريكي الروسي بشأن الأنشطة السيبرانية الخبيثة مستمر حتى خلال التوترات الحالية. وستزيد الحاجة إلى الحفاظ على اتفاقيات صارمة للحد من التسلح بعد غزو أوكرانيا وما يتبعه من جولة عقوبات.
لا يوجد نصر دائم
مع تطور الأزمة في أوكرانيا، يتعيّن على الغرب ألا يقلل من شأن روسيا وألا يعتمد على السيناريوهات المستوحاة من التفكير الرغبوي، فانتصار روسيا في أوكرانيا ليس خيالا علميا.
إذا كان هناك القليل مما يمكن أن يفعله الغرب لمنع الغزو العسكري الروسي، سيمنحه ذلك القدرة على التأثير على ما سيحدث بعد ذلك. في كثير من الأحيان، لا يخلو النصر العسكر من مشاكل. يمكن لروسيا أن تهزم أوكرانيا شر هزيمة في ساحة المعركة وأن تجعلها دولة فاشلة، لكن لا يمكنها فعل ذلك إلا من خلال شن حرب إجرامية وتدمير دولة لم تغزو روسيا أبدًا.
سوف تستخلص الولايات المتحدة وأوروبا وحلفاؤهما ودول أخرى من العالم النتائج وتنتقد الإجراءات الروسية. يمكن للولايات المتحدة وأوروبا تجسيد البديل للحروب العدوانية والقوة التي ترسي العدل من خلال تحالفاتهما ودعمهما لشعب أوكرانيا. ويمكن مقارنة الجهود الروسية في زرع الفوضى بالجهود الغربية لإعادة النظام.
مثلما احتفظت الولايات المتحدة بعلاقاتها الدبلوماسية مع دول البلطيق الثلاث بعد أن تم ضمها من قبل الاتحاد السوفيتي خلال الحرب العالمية الثانية، يمكن للغرب أن يصطف مع قيم الاحترام والكرامة في هذا الصراع. فالنصر في الحروب التي لن يدوم إلى الأبد، وفي كثير من الأحيان تهزم الدول المنتصرة نفسها بمرور الوقت من خلال شن الحروب الخاطئة.
المصدر: مجلة فورين أفيرز