مع الساعات الأولى لبدء الهجوم الروسي على شرق أوكرانيا، بدا واضحًا أن روسيا أرادت تطبيق مبدأ جديد للحرب يختلف عن حروبها السابقة، سواء حربها على جورجيا عام 2008، من خلال توظيف فرضيات الحرب الخاطفة ذات النتائج السريعة، أو غزوها لشبه جزيرة القرم عام 2014، من خلال توظيف فرضيات الحرب اللامتماثلة (حرب عصابات وحرب إلكترونية وبعض قواعد الحرب التقليدية)، أو حربها في سوريا عام 2015، من خلال توظيف فرضيات ما يُعرف بحروب الحسم الجوي والتقدُّم البرّي.
إن نموذج الحرب الذي تحاول تطبيقه روسيا حتى الآن في أوكرانيا، يقترب من النموذج الذي اعتمدته الولايات المتحدة في غزوها للعراق عام 2003، أي نموذج الحرب الشاملة، القائمة على تدمير العدو وإخضاعه وخلق صدمة وحالة ترويع في داخله، وذلك يتّضح من خلال إشراك ثالوث القوة الروسية (البرّية والبحرية والجوية)، وتوظيف سلاحها الاستراتيجي (الصواريخ البالستية الحاملة للرؤوس النووية) لخلق ردع نووي لأي خطوة تصعيدية يُقدم عليها حلف الناتو.
مسرح عمليات ملتهب وتقدُّم ساحق
على مستوى مسرح العمليات، بدا واضحًا أن هناك قرارًا روسيًّا باستخدام القوة العسكرية الغاشمة، وبالإطار الذي يجهض العدو من اللحظات الأولى، عبر الاستخدام الكثيف للقوة النارية وتدمير الدفاعات العسكرية وتدمير منظومات القيادة والسيطرة، وتدمير البنية التحتية العسكرية، فضلًا عن هجمات سيبرانية، ومحاولة عزل مناطق شرق أوكرانيا عن العاصمة كييف، إذ نفّذت القوات الروسية أكثر من 30 غارة على البنية التحتية المدنية والعسكرية، واستخدمت صواريخ كاليبر مع الساعات الأولى لبدء الهجوم.
إذ يمثِّل وصول القوات الروسية إلى مدينة خاركيف شرق أوكرانيا، ثاني أكبر مدينة أوكرانية بعد العاصمة، ونشر أفراد الشرطة العسكرية الروسية فيها، وإقامة نقاط تفتيش، إلى جانب تمكين القوات الانفصالية في المناطق والبلدات الأخرى، فضلًا عن احتلال دونيتسك ولوغانسك بالكامل والتوسُّع غربًا؛ أنَّ العاصمة كييف أصبحت على بُعد 24 ساعة من السقوط، خصوصًا أنها تحت مرمى الصواريخ والهجوم الجوي الآن، فيما لو تمَّ استمرار سيناريو التقدُّم الروسي بالوتيرة ذاتها.
نموذج الحرب الذي تحاول تطبيقه روسيا حتى الآن في أوكرانيا، يقترب من النموذج الذي اعتمدته الولايات المتحدة في غزوها للعراق عام 2003، أي نموذج الحرب الشاملة، القائمة على تدمير العدو وإخضاعه وخلق صدمة وحالة ترويع في داخله
وأفادت شبكة التلفزة الأمريكية “سي إن إن” بأن “القوات الروسية سيطرت على مطار غوستوميل على بُعد 25 كيلومترًا من كييف عبر إنزال جوي”، وفي وقت سابق أعلنَ حرس الحدود الأوكراني دخول القوات البرّية الروسية إلى أوكرانيا، وقال مسؤولون في الحرس لاحقًا إن الجيش الروسي يحاول اقتحام كييف، كما أضاف المسؤولون أن طائرات هليكوبتر روسية تهاجم مطار غوستوميل العسكري قرب كييف، وتحدّثوا عن إسقاط 3 مروحيات روسية.
يتمثّل الخطر الأكبر فيما إذا سمحت بيلاروسيا لروسيا بالهجوم من أراضيها، وهو ما أشار إليه مسؤول عسكري أوكراني عندما تحدّث عن انطلاق 3 صواريخ من داخل الأراضي البيلاروسية إلى داخل أوكرانيا، إذ يمكن الاقتراب من العاصمة الأوكرانية كييف من الغرب وتطويقها، حيث تتواجد قوات روسية بالفعل على الأراضي البيلاروسية بعد أن أجرى البلدان تدريبات عسكرية مشتركة خلال الأسابيع الماضية، كما تنشر روسيا على عدة نقاط حدودية بين أوكرانيا وبيلاروسيا أنظمة صاروخية دفاعية.
أهداف بوتين العسكرية
إلى جانب الهدف المادي الذي يحاول الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تحقيقه من هذه الحرب، المتمثّل بتغيير الواقع في أوكرانيا لصالح الطموحات الروسية المناوئة للغرب، فإنه يحاول أيضًا تحقيق هدف معنوي لا يقلّ أهمية، ويتمثّل بإظهار ضعف الولايات المتحدة وحلف الناتو في الدفاع عن مواقفهما وحلفائهما.
ورغم أن الولايات المتحدة وأوروبا لوّحتا بعقوبات اقتصادية ساحقة ضد موسكو، إلا أن بوتين يبدو أنه متفطّن لهذا الخيار جيدًا، وذلك عبر تحويل عملية التدوال المالي الروسي إلى العملة الرقمية بيتكوين منذ أسابيع مضت، ما سيقلِّل من أثر هذه العقوبات رغم الإقرار بتأثيراتها على الاقتصاد الروسي.
بوتين في النهاية رجل محكوم بفوبيا التاريخ والجغرافيا، ويدرك جيدًا إنْ أوكرانيا أصبحت عضوًا في الناتو، هذا يعني أنها ستكون سكينًا مغروزة في خاصرة حلمه بالتحول نحو العالمية
كما يبدو أنه ليس بوارد أن يقوم بوتين باحتلال العاصمة كييف، رغم تقدُّم القوات الروسية نحوها، وإنما يحاول أن يستثمر حالة التشتُّت الحاصلة في الداخل الأوكراني، وتمسُّك الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بالسلطة، عبر توفير فرصة لخلق تمرُّد عسكري يطيح بالنظام السياسي، أو أن يدفع الانفصاليين والقوى الرافضة لتوجُّهات زيلينسكي نحو تنفيذ عملية انقلاب داخلي على النظام.
كما أن الخيار الآخر الذي يراهن عليه بوتين الآن، هو أن يحصل على تسوية جديدة من قبل الغرب، أحد أبرز أوجُهها أن تتحول أوكرانيا إلى دولة فدرالية، تُمنح الأقاليم المنفصلة فيها فيتو لا يقلّ أهمية عن الفيتو الذي تتمتّع به العاصمة كييف، في تقرير توجُّهات أوكرانيا الخارجية.
بوتين في النهاية رجل محكوم بفوبيا التاريخ والجغرافيا، ويدرك جيدًا إنْ أوكرانيا أصبحت عضوًا في الناتو، هذا يعني أنها ستكون سكينًا مغروزة في خاصرة حلمه بالتحول نحو العالمية، ومن ثم هو ينظر إلى أوكرانيا من 3 زوايا: أوكرانيا الحليفة أو أوكرانيا المحايدة (وهو السيناريو الأقرب بناءً على تصريح المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف، عندما قال: “موسكو تهدف إلى فرض وضع محايد في أوكرانيا ونزع سلاحها”) أو لا أوكرانيا على الخارطة.