عبثًا حاولت تركيا إيقاف نذير الحرب المشتعلة بين روسيا وأوكرانيا، وحاولت بذل جهود لنزع فتيل الأزمة، وسعت عبر رئيسها رجب طيب أردوغان إلى تقديم وساطة ومبادرة لإحلال السلام بين موسكو وكييف، لكنَّ مساعي أنقرة لإطفاء نيران الحرب قبل اندلاعها قد ذهبت سدى.
ولم تكن الجهود التركية الحثيثة لمنع قيام تلك الحرب دافعها البحث عن دور إقليمي ودولي وتقديم مبادرات لإحلال السلام فحسب، إنما أيضًا لتجنُّب خسائر فادحة محتملة جرّاء اشتعال نيران الأزمة التي بدأت تحلِّق بالاقتصاد التركي.
وسريعًا تكبّدت الليرة بعض الخسائر وهبطت مجددًا مع اندلاع الحرب، لتواصل العملة التركية تراجعها منذ بداية العام، نتيجة عدة عوامل من بينها تفاقم الأزمة الروسية الأوكرانية.
ويتوقع أن تتضاعف وتزداد متاعب الاقتصاد التركي، ويواجه موجة جديدة وإضافية من التضخُّم وارتفاع الأسعار، نتيجة اعتماد تركيا على روسيا وأوكرانيا في استيراد المنتجات الزراعية.
الارتباط الوثيق لتركيا مع جارتَيها في البحر الأسود، روسيا وأوكرانيا، سياسيًّا واقتصاديًّا، سيضطر أنقرة لدفع فاتورة كبيرة لحربهما، مع توقُّعات بتراجع معدلات السياحة الوافدة لأراضيها من البلدَين، والتصاعُد المتوقع في أسعار الطاقة، ما يشكّل مصدر خطر على استقرار الاقتصاد التركي.
هبوط الليرة التركية
مع انطلاق نيران الحرب فجر يوم الخميس، تراجعت الليرة التركية 2.6% مقابل الدولار، وهو أقلّ مستوياتها منذ شهرَين، وذلك بعد إطلاق القوات الروسية الصواريخ على عدة مدن في أوكرانيا وإنزالها قوات على ساحلها.
وسجّلت الليرة 14.19 مقابل الدولار في الساعة 07:26 بالتوقيت العالمي، بعد استقرارها على نطاق واسع الشهر الماضي، وتراجعت عن مستوى الإغلاق يوم الأربعاء حيث سجّلت 13.8350 مقابل الدولار، وكانت الليرة التركية قد تراجعت بنحو 1.5% مقابل الدولار في تعاملات الثلاثاء إثر التصعيد الروسي ضد أوكرانيا.
الأمن الغذائي
تمثّل روسيا وأوكرانيا سلة غذاء العالم، وتعدّ الدولتان أكبر مصدر للمنتجات الزراعية والحبوب، حيث تعدّ روسيا أكبر مصدر للقمح في العالم، كما أن أوكرانيا أيضًا من البلدان المصدِّرة للقمح، حيث إن البلدان يصدّران 25% من صادرات القمح في العالم.
ومع نشوب الحرب بين موسكو وكييف، ستكون تركيا من الدول الأكثر تضرُّرًا لأنها تعدّ أكبر مستورد للمنتجات الزراعية من روسيا، بقيمة بلغت 4.3 مليارات دولار عام 2021، في حين كانت صادراتها إلى روسيا 1.5 مليار دولار.
كما تعدّ تركيا من ضمن المستهلكين الرئيسيين للمنتجات الزراعية الأوكرانية بقيمة 1.07 مليار دولار سنويًّا، أما فيما يتعلق بصادرات الحبوب تحديدًا، فإن تركيا تستورد من أوكرانيا ما قيمته 473 مليون دولار.
وسيتسبّب اعتماد تركيا على روسيا وأوكرانيا في استيراد المنتجات الزراعية وخاصة القمح والشعير، في ضغوط تضخُّمية إضافية على الاقتصاد التركي الذي يواجه حاليًّا أكبر معدل للتضخم منذ 20 عامًا.
ويحذِّر خبراء في السياسة والزراعة من أن الصراع الروسي الأوكراني سيتسبّب في اضطرابات قد تعصف بتجارة القمح، ويمكن أن تتسبّب في زيادة أسعاره العالمية بين 10% و20%.
وقد سجّلت أسعار الحبوب صباح يوم الخميس مستويات قياسية في جلسات التداول في السوق الأوروبية، وبلغ سعر القمح رقمًا غير مسبوق إطلاقًا مع 344 يورو للطنّ الواحد لدى مجموعة “يورونكست”، التي تدير عددًا من البورصات الأوروبية.
وارتفعت أسعار القمح والذرة ارتفاعًا كبيرًا، حيث تشكّل أوكرانيا رابع مصدِّر لهما على مستوى العالم، منذ افتتاح جلسات التداول، بعد ساعات على بدء الغزو الروسي لأوكرانيا.
السياحة التركية
في مجال السياحة، بلغ عدد السيّاح الأجانب الذين زاروا تركيا خلال عام 2021 أكثر من 30 مليون سائح، بعائد 24 مليار دولار، وكان السيّاح الروس قد تصدّروا قائمة السيّاح الأجانب الذين قصدوا تركيا، بعدد بلغ 4.694 ملايين سائح، فيما بلغ عدد السياّح الأوكرانيين 2.1 مليون، ويشكل الروس والأوكرانيين 27% من إجمالي السيّاح بحسب بيانات وزارة الثقافة والسياحة التركية.
وفي حال تصاعد التوتُّر واندلاع الحرب، فقد تخسر تركيا ربع سياحها، كما أن التراجع الحاصل في الروبل الروسي مقابل الدولار سيؤثِّر سلبًا على المواطن الروسي وإمكانية قدومه إلى تركيا للسياحة.
وقال بولنت بلبل أوغلو، رئيس اتحاد أصحاب الفنادق والمرافق السياحية في جنوب بحر إيجة، إنه “في حال اندلاع حرب بين روسيا وأوكرانيا، فإن خسارة تركيا لهذين السوقين سيكلّف قطاع السياحة 5 مليارات دولار”.
وفي السياق نفسه، أكّد رئيس اتحاد المرافق السياحية في بحر إيجة، محمد إيشلر، أن خسائر القطاع قد ترتفع إلى 10 مليارات دولار، بفعل التأثير المضاعف الناجم عن تأثير قطاع السياحة على 54 قطاعًا فرعيًّا.
وأضاف: “عقب الخسائر المادية ستّتجه المرافق السياحية صوب السياحة المحلية، غير أن السياحة الداخلية لن تتمكّن من تلبية احتياجات المرافق السياحية الضخمة التي تضمُّ آلاف الغرف في المدن الجنوبية”.
ولفت إلى أن “هذا يعني أن غالبية المؤسسات ستغلق أبوابها، ما سيسفر عن خسائر فادحة في العائدات والعمالة، وفي الوقت نفسه سيقلِّص موارد الاقتصاد التركي من العملة الأجنبية”.
أسعار الطاقة
تغطي تركيا احتياجاتها بالكامل من الطاقة تقريبًا عبر الاستيراد، وتعتمد بشكل كبير على الغاز الروسي، الذي استوردت منه 33.6 مليار متر مكعب عام 2020، من أصل إجمالي استهلاك في العام نفسه وصلَ إلى أكثر من 48.1 مليار متر مكعب.
مدى اعتماد تركيا الكبير على استيراد الغاز كان واضحًا، حينما أدّى توقف تدفُّق الغاز الإيراني إلى تركيا بسبب عطل تقني إلى شلل تام في القطاع الصناعي التركي، دام عدة أيام.
لذلك جاء تصريح المدير التنفيذي لشركة الغاز التركية “غاز داي”، محمد دوغان، قلقًا للغاية: “إذا نظرنا إلى أسوأ الاحتمالات، وتصاعد الصراع الروسي الأوكراني خلال الصيف، وقامت روسيا بوقف تصدير الغاز إلينا، فإن أسعار الغاز ستقفز بشكل كبير، لكن إذا وقع ذلك خلال الشتاء، فإنه لن تكون أمام تركيا أي فرصة، سنكون قد انتهينا”.
كما توقع خبراء الطاقة والنفط أن ترتفع أسعار النفط إلى ما فوق 100 دولار للبرميل في وقت قريب، جرّاء عدة عوامل أبرزها التوتر الروسي الأوكراني، وفرض المزيد من العقوبات على موسكو، وزيادة الطلب العالمي على الطاقة بعد عودة النشاط الاقتصادي للدوران مع الرفع التدريجي للقيود المفروضة لمواجهة تفشّي فيروس كورونا.
وقفزت أسعار النفط أكثر من دولارَين الثلاثاء الماضي، مسجِّلة مستوى قياسيًا جديدًا في 7 سنوات، بعدما أمرت روسيا بنشر قواتها في منطقتَين انفصاليتَين شرقي أوكرانيا قبيل اندلاع الحرب.
وارتفعت العقود الآجلة لخام برنت القياسي إلى 97.66 دولارًا، وهو أعلى مستوى منذ سبتمبر/ أيلول 2014، ويأتي تأثير الأزمة الروسية الأوكرانية على أسعار النفط كون روسيا من أكبر منتجي النفط في العالم، وتهدِّد هذه التوترات إمدادات الخام، حيث روسيا تنتج أكثر من 10 ملايين برميل يوميًّا.
ومن المرجّح أن تؤدي الزيادة العالمية في أسعار مصادر الطاقة المتنوعة إلى زيادة فاتورة الطاقة في تركيا، نظرًا إلى اعتماد البلاد الشديد على الواردات، حيث تجاوزت فاتورة واردات الطاقة في العام الماضي 55 مليار دولار.
ومع زيادة أسعار الطاقة يزداد الشرخ في الحساب الجاري التركي بين الواردات والصادرات، وبالتالي زيادة الطلب على العملة الأجنبية وارتفاع أسعار الصرف مجددًا.
تأثير العقوبات على روسيا
في حال تنفيذ أهم العقوبات المالية ضد روسيا، وهي منعها من استخدام النظام المصرفي العالمي المعروف اختصارًا باسم “سويفت”، الذي يُعتبر شبكة أمنية مشدَّدة تربط آلاف المؤسسات المالية حول العالم، فإن ذلك سيؤثر بطبيعة الحال على تركيا وتعاملاتها التجارية مع روسيا وتعيقها.
وتشترك تركيا وروسيا في روابط ومشاريع تجارية واستثمارية عديدة، هذا فضلًا عن مشاريع الطاقة التي تُعتبر حجر الأساس في العلاقات الثنائية بين البلدَين، ففي إطار مساعي تركيا لتنويع مصادرها من الطاقة وتغطية كافة احتياجاتها، تقوم مجموعة “روساتوم” النووية الروسية ببناء أول محطة للطاقة النووية “آق قيويو” في تركيا، ما يعزِّز أمن الطاقة في تركيا ويدعم اقتصادها.
وتُعتبر مشاريع خطوط نقل الغاز التي تشترك فيها روسيا وتركيا متغيّرًا حاسمًا في تحديد مستقبل العلاقات التركية-الروسية، ففي يناير/ كانون الثاني 2020 تمَّ تدشين خط أنانبيب “ترك ستريم” الذي يمتدّ من روسيا إلي تركيا عبر البحر الأسود، ويهدف إلي نقل الغاز لتركيا ودول جنوب وجنوب شرق أوروبا عبر الأراضي التركية، متجاوزًا أوكرانيا، لتصبح تركيا بموجبه مركزًا لمبيعات الغاز الطبيعي الروسي في أوروبا.
ومن المتوقع أن تكون تداعيات العقوبات على روسيا وخيمة على تركيا، خاصة إذا تمَّ تطبيقها على خطوط نقل الغاز الروسي إلى أوروبا، التي توفِّر لكل من روسيا وتركيا مكانة هامة ومحورية في أسواق الغاز في أوروبا.
وهدّدَ الرئيس الأمريكي جو بايدن بفرض عقوبات شديدة على الشركات العالمية والمستثمرين الذين يشاركون في تطوير تلك الخطوط، وأعلن أنه في حال غزت روسيا أوكرانيا سيتمّ حظر التعاون الأمريكي مع تلك الشركات لوقف تشغيل خطوط نقل الغاز.
يُعتبر هذا تهديدًا للعلاقات التركية-الروسية، سواء من حيث الإضرار بالوضع الاقتصادي العام لروسيا، وبالتالي تدهور العلاقات الاقتصادية والاستثمارية والتجارية التي تربط كلا البلدَين، أو من حيث انقطاع المصدر الأساسي للغاز الطبيعي بالنسبة إلى تركيا، خاصة في ظلّ أزمة انقطاع الغاز الإيراني ونقص كمياته التي تتعرض لها تركيا منذ مطلع العام الجاري 2022.
العلاقات مع أوكرانيا
تُعتبر تركيا واحدة من أهم وأبرز المستثمرين الاقتصاديين في أوكرانيا، حيث تنامت التجارة الثنائية بين الجانبَين بنسبة 50% تقريبًا خلال الأشهر الـ 9 الأولى من عام 2021، حتى وصلت إلى حوالي 5 مليارات دولار، مع وجود أكثر من 700 شركة تركية استثمارية في أوكرانيا، من أبرزها شركة “تركسل” التي يُعتبر فرعها في أوكرانيا ثالث أكبر مشغِّل لشبكات المحمول، ويمتلك صندوق الاستثمار الوطني التركي أكثر من 26% من أسهم الشركة.
وقد شهدت زيارة الرئيس التركي إلى أوكرانيا، في 3 فبراير/ شباط 2022، توقيع سلسلة من الوثائق والاتفاقيات الثنائية، شاملة اتفاقية التجارة الحرة التي ستدخل حيّز التنفيذ في 1 يناير/ كانون الثاني 2023، وستسهم في فتح أسواق جديدة وجذب الاستثمارات الأجنبية ونمو الناتج المحلي في كلا البلدَين.
فضلًا عن دورها في زيادة حجم التجارة الثنائية السنوية لأكثر من 10 مليارات دولار خلال السنوات القادمة، وإلغاء الرسوم الجمركية، حيث تُعتبر تركيا المستفيد الأكبر من تلك الاتفاقية كونها تنتج منتجات أرخص وأعلى جودة من المنتجات الأوكرانية، وتسعى بتلك الاتفاقية إلى فتح سوق جديد لها في أوكرانيا، وتقليل الاعتماد على الواردات الروسية من المواد الخام والحبوب والمنتجات الزراعية، لاستبدالها بالواردات الأوكرانية.
تركيا أمام تحديات بالغة الخطورة والتعقيد جرّاء اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، وموقفها بالغ الحساسية من الانحياز لروسيا أو أوكرانيا والغرب
إلى جانب ذلك، ترتبط تركيا مع أوكرانيا بعلاقات عسكرية وثيقة لها مردود اقتصادي كبير، فأوكرانيا تعدّ أكبر مستورد للطائرات المسيّرة التركية، كما أنها تصنع المحركات التي تستخدمها تركيا في تشغيل الجيل الحديث من تلك المسيّرات.
وتعتبر صفقة الطائرات المسيّرة التي وقّعتها تركيا مع أوكرانيا من أهم وأكبر الصفقات التجارية المربحة لأنقرة، والتي تتوافق مع مساعيها لأن تصبح من أكبر وأهم مصدِّري الأسلحة في العالم، وتتصدّر تركيا اليوم بالفعل قائمة الدول التي تستورد منها أوكرانيا الطائرات المسيّرة.
وخلال زيارة أردوغان الأخيرة لكييف عام 2022، وقّع الجانبان مذكرة لإنشاء مركز مشترَك للإنتاج والصيانة والتدريب، للمشاركة في تطوير وإنتاج وتشغيل الطائرات المسيّرة التركية من طراز “بيرقدار بي تي 2” في أوكرانيا.
وبنشوب الحرب الروسية الأوكرانية، أصبحت المكاسب الاقتصادية التي تجنيها تركيا من علاقاتها متعدِّدة الجوانب مع أوكرانيا في مهبّ الريح.
والمحصلة أن تركيا أمام تحديات بالغة الخطورة والتعقيد جرّاء اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، وموقفها بالغ الحساسية من الانحياز لروسيا أو أوكرانيا والغرب، وانعكاسات تلك الحرب وموقف أنقرة من أطرافها ستكون مؤثِّرة للغاية على الاقتصاد التركي.
وتثار التساؤلات حول كيفية مواجهة حكومة أردوغان لآثار وانعكاسات تلك الحرب على الاقتصاد المنهك بفعل تضاعف معدلات التضخم وتراجع قيمة العملة المحلية، وحول قدرة الرئيس التركي على مواجهة تحديات وتداعيات الحرب، التي سيكون لها أثر بالغ في نتائج الانتخابات البرلمانية والرئاسية المقبلة.