بعيدًا عن تخوم الحرب، يبدو عموم سكان روسيا من الجيل الجديد وكأنهم غير مكترثين بما يعنيه غزو أوكرانيا، على عكس الجيل المعايش لفترة الاتحاد السوفيتي، خاصة الذين خدموا في الجيش الأحمر. إذ يستشعر بعضهم الحنين إلى ذلك العهد، حينما كان السوفييت يبسطون سيادتهم على 22.4 مليون كيلومتر من مساحة العالم، وأوكرانيا ضمنها، لكن معظم الكبار قلقون جدًّا من ويلات حرب تقودها دولة تعاني من ضائقة اقتصادية، ويقلّ فيها الحد الأدنى للدخل الفردي عن 100 دولار شهريًّا.
انهيار الروبل الروسي
صبيحة بدء الهجوم على كييف، يوم الخميس 24 فبراير/ شباط الحالي، انهارت قيمة الروبل الروسي، إذ ارتفع سعر صرف الدولار مقتربًا من 90 روبلًا لأول مرة في تاريخ التداول، وقام اليورو بتحديث أعلى مستوى له منذ 8 سنوات، حيث وصل إلى ما يقارب الـ 100 روبل.
في الوقت نفسه، انخفض مؤشر بورصة موسكو بنسبة 11.7%، أي 2735 نقطة، بسبب الانهيار الواسع النطاق للأصول الروسية، حيث أوقفت بورصة موسكو التداول مؤقتًا في جميع الأسواق، ليتقرر بعد ساعات قليلة استئناف جلسة التداول، ومع ذلك استمرَّ الانخفاض السريع للروبل وأسعار الأسهم.
منذ اجتياح روسيا لشبه جزيرة القرم وضمّها عام 2014، بدأ الانهيار الحاد للروبل في النصف الأخير من العام نفسه من حوالي 35 إلى 65 روبلًا للدولار الواحد، بالتالي خيّمت على سماء موسكو أزمة مالية بسبب العقوبات الاقتصادية الدولية ضدها، بالإضافة إلى انخفاض سعر النفط، ونتيجة لذلك فَقَدَ المستثمرون ثقتهم في الاقتصاد الروسي وبدؤوا بالفعل في بيع أصولهم الروسية.
تدابير لدعم الأسواق المالية
تحسُّبًا لتكرار أزمة من هذا النوع، اتّخذ بنك روسيا المركزي جملة من التدابير لدعم الروبل والأسواق المالية، يعني ذلك أنه يخطِّط للتدخل في سوق العملات وضخّ سيولة إضافية في القطاع المصرفي، وهي مبادرة تستوجب حماية الحقوق والمصالح المشروعة للمستثمرين في الوقت الحالي.
كما لاحظ زبائن البنوك تعذُّر سحب الأوراق المالية من الصرافات الآلية، حيث أعلن البنك المركزي عن تعليق بعض عمليات بطاقات المؤسسات الميدانية لبنك روسيا إلى غاية 2 مارس/ آذار المقبل، حيث لن يكون بالإمكان إصدار بطاقات الدفع واستخدام الصراف الآلي وإجراء عمليات باستخدام البطاقة والعمليات الأخرى على الحسابات الجارية باستثناء إيداع الأموال.
من جهة أخرى، أكّد سبيربنك، وهو أكبر مصرف عالمي في الاتحاد الروسي، أنه يواصل عمله كالمعتاد بعد خضوعه للعقوبات الأمريكية، بالتالي الدفع مقابل السلع والخدمات، فضلًا عن أن التحويلات والعمليات باستخدام بطاقات الدفع، لا تزال جارية وستكون متاحة بالكامل، ووفقًا لبيان البنك فإن سحب وتجديد الحسابات بالروبل والعملات الأجنبية وكذلك صرف العملات تتمّ من دون قيود.
تهديد بتدمير الاقتصاد الروسي
أكثر ما يخشاه المستثمرون هو فرض عقوبات جديدة على روسيا، بعد العقوبات التي تلت اعتراف موسكو باستقلال جمهوريتَي لوغانسك ودونيتسك خلال الأيام القليلة الماضية، حيث قام الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وبريطانيا وكندا واليابان بفرض أولى القيود.
استهدفت هذه القيود على وجه الخصوص غالبية نواب مجلس الدوما (برلمان روسيا) والديون السيادية لروسيا وشركة فيب الحكومية للاستثمار، وبرومسفياز بنك الذي يعدّ عاشر أكبر بنك في روسيا من حيث الأصول، كما قامت ألمانيا بتعليق إجراءات اعتماد أنبوب الغاز “نورد ستريم 2”.
فقد فرضت اليابان عقوبات جديدة تستهدف حظر إصدار التأشيرات للمواطنين الروس، وتجميد أصول المؤسسات المالية، كما قيّدت تصدير البضائع إلى المنظمات المرتبطة بالقطاع العسكري.
ولن تهدأ لندن حتى تدمّر الاقتصاد الروسي، بحسب تهديدات وزير الخارجية البريطاني، ليز تروس، الذي قال نصًا: “لن نهدأ حتى يتمّ تدمير الاقتصاد الروسي، واستعادة سيادة ووحدة أراضي أوكرانيا”، وأضاف أن العقوبات ستكون لها عواقب فورية على “النخبة الثرية والدائرة الداخلية” للزعيم الروسي فلاديمير بوتين.
سماء مغلقة ودراسة معلَّقة
سماء أوكرانيا مغلقة، وكذلك في المناطق الجنوبية من روسيا توقفت 10 مطارات عن استقبال وإرسال الرحلات الجوية، وفق بلاغ لوكالة النقل الجوي الفدرالية، ويستمر هذا الحظر حتى غاية يوم الأربعاء 2 مارس/ آذار القادم على الساعة 3:45 بتوقيت موسكو.
ومن المتوقع استئناف الرحالات في مطارات مدن روستوف (بلاتوف)، كراسنودار (باشكوفسكي)، أنابا (فيتيازيفو)، جيلندجيك، إليستا، ستافروبول، بيلغورود، بريانسك، كورسك، فورونيج وسيمفيروبول.
في شمال شبه جزيرة القرم تمَّ تعليق الدراسة في المدارس حتى نهاية الأسبوع، وكذلك في المناطق المتاخمة لأوكرانيا، حيث جرى توقيف الدراسة مبدئيًّا ليوم واحد في بريانسك، وقامت بلغورود بتعليق الدراسة لأجل غير مسمّى، وفي كورسك تقرّرَ تحويل أطفال المدارس إلى التعليم عن بُعد إلى غاية يوم الاثنين على الأقل.
معتقلون ولاجئون وقتلى
في موسكو اعتقلت السلطات 600 شخص شاركوا في احتجاج مناوئ للعملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، وفق تقرير للمديرية الرئيسية لوزراة الشؤون الداخلية بالعاصمة، حيث اُعتقل المشاركون في الاحتجاج على خلفية ارتكابهم لانتهاكات للنظام العام.
وثد تمَّ نقل المعتقلين إلى أقسام الشرطة الإقليمية للتحقيق معهم، ومن المنتظر أن تتمَّ محاسبتهم، كما نُظِّمت احتجاجات مناهضة للحرب في سان بطرسبرغ وييكاترينبرغ ونوفوسيبيرسك ومدن روسية أخرى.
هربًا من الموت، وصل 111 ألف لاجئ أوكراني إلى روسيا من إقليم دونباس، حيث لم تعد الحياة بالنسبة إليهم ممكنة خلف الحدود، فيما تواصل وزارة الطوارئ الروسية استقبال وفود من النازحين، وتؤمّن لهم كل ما يلزم من مراكز إيواء وأطنان من المساعدات الإنسانية.
كما تمَّ استنفار الأطباء وفرق المتطوعين لتأمين إقامة آمنة للاجئين، حيث تقول السلطات إن ضمنهم ما لا يقلّ عن 30 ألف طفل، سيتمّ إلحاقهم بالمدارس الروسية إلى حين عودتهم إلى الديار.
في الواقع لا مستفيد من هذه الحرب غير أمريكا وبريطانيا وحلف الناتو، فقد نجحت خطتهم بالفعل في جرّ أبناء السلاف إلى خنادق الحرب، ليقتلوا بعضهم بلا رحمة، ونتيجة لذلك ربما تنكسر مخالب الدب الروسي عاجلًا أم آجلًا، وهو ما يتمنّاه الغرب الذي يتحاشى الدخول في حرب مباشرة مع روسيا.