“عندما جاء الربيع، كان الناس يتجولون في الحدائق، ويأملون أن يجدوا شيئًا يأكلونه؛ كانوا يحفرون ويفتّشون كل كتلة من الأرض، وإذا عثروا على بطاطس قديمة كريهة الرائحة، فإنهم ينظفونها ويأخذون منها ما تبقّى من نشويات، نقّبَ الناس عن كل أنواع الجذور؛ كان الأمر فظيعًا للغاية. تناثر الناس في كل مكان، تجولوا هنا وهناك. في بعض الأحيان، كانوا يرصدون بعض المخلوقات الصغيرة في الماء ويأكلونها كغذاء”.
بهذه الكلمات التي تضمّنها تقرير لجنة الكونغرس الأمريكي لعام 1988، حاولت الأوكرانيات أن يتذكرن ما حدث في أوائل الثلاثينيات من القرن الماضي، عندما مات ملايين الأوكرانيين في مجاعة مدمِّرة تُعرف باسم “هولودومور” (مزيج من الكلمات الأوكرانية المرادفة لوباء الجوع أو الموت بالتجويع)، وهي واحدة من أسوأ الفصول مأساوية في التاريخ الأوكراني، عندما أصبحت أوكرانيا جزءًا من الاتحاد السوفيتي عام 1922، بعدما كانت سلة غذاء البلاد بفضل حقولها الخصبة.
حرب ستالين على أوكرانيا
عام 1929، كجزء من خطته لإنشاء اقتصاد شيوعي بالكامل، فرض الرئيس السوفيتي جوزيف ستالين نظامًا جماعيًّا، استبدل خلاله المزارع الخاصة المملوكة والمدارة بشكل فردي بالمزارع الجماعية الكبيرة التي تديرها الدولة، وتُسمّى “كولخوز”، بدعوى أنها ستكون أكثر فاعلية وأطول أجلًا لمشكلة استخراج الحبوب.
يبدو أن حماس ستالين لما عُرف بـ”الزراعة الجماعية أو المشتركة” قد استند إلى مبدأين أساسيَّين، شاركهما الكثير في الحزب الشيوعي وبعض الخبراء الزراعيين على الأقل، كان أحدهما أن وحدات الإنتاج الكبيرة كانت أكثر كفاءة بكثير، وستسمح بإنتاج فائض من شأنه إطعام العمال الصناعيين مقارنة بالزراعة التقليدية التي يمارسها الفلاحون الروس، والآخر هو أن بعض المزارعين الأوكرانيين كانوا يمثّلون ثقلًا موازنًا للسلطة السوفيتية في القرى، ويشكّلون عنصرًا غريبًا يجب القضاء عليه.
طرد المسؤولون السوفيت هؤلاء الفلاحين من مزارعهم الفردية بالقوة، وصادروا حقولهم، وأُجبروا على الانضمام إلى المزارع الجماعية الكبيرة، وأُرسل العديد منهم إلى المنفى أو هُجِّروا من منازلهم
قاوم الكثير من الفلاحين الأوكرانيين -ومعظمهم من مزارعي الكفاف (زراعة تعتمد على الاكتفاء الذاتي)- التخلي عن أراضيهم وسبل عيشهم، ردًّا على ذلك سَخِرَ النظام السوفيتي من المقاومين، ووصفهم بأنهم “كولاك“، وهو مصطلح روسي يشير إلى الفلاحين الميسورين ذوي الدخل المرتفع، الذين يمتلكون مزارع مزدهرة ومساحات كبيرة من الأرض.
في بعض الأحيان، اُستخدم هذا المصطلح لتشويه سمعة جميع الفلاحين الذين عارضوا الحكم السوفيتي، وأصبح “الكولاك” بناءً حزبيًّا غامضًا، ولكن مع دلالة سلبية في الأساس، واعتبر القادة السوفيت أن طبقات الفلاحين المزدهرة هي العدو الداخلي الرئيسي لهم.
أي ثورة ريفية، بما في ذلك تلك التي قادها نيستور ماخنو ونيكي فور هريفوريف، نُسبت إلى “الكولاك”، فصادرت مفارز الشراء السوفيتية كميات هائلة من الحبوب، الأمر الذي أثار بطبيعة الحال عداء ليس فقط هؤلاء الفلاحين الذين تأثروا بشكل مباشر، ولكن الريفيين من السكان بشكل عام.
بحسب تريفور إيرلاتشر، المؤرِّخ والمؤلف المتخصص في أوكرانيا الحديثة، يبدو ستالين أنه كان مدفوعًا بهدف تحويل الأمة الأوكرانية إلى فكرته عن أمة اشتراكية بروليتارية حديثة، حتى لو أدَّى ذلك إلى التدمير المادي لقطاعات واسعة من سكانها.
طرد المسؤولون السوفيت هؤلاء الفلاحين من مزارعهم الفردية بالقوة، وصادروا حقولهم، وأُجبروا على الانضمام إلى المزارع الجماعية الكبيرة، وأُرسل العديد منهم إلى المنفى أو هُجِّروا من منازلهم، وخططت شرطة ستالين السرّية لترحيل 50 ألف عائلة أوكرانية زراعية إلى سيبيريا، كما كتبت المؤرِّخة آن أبلباوم في كتابها “المجاعة الحمراء: حرب ستالين على أوكرانيا”.
لكن سياسة الزراعة الجماعية التي اعتمدتها الحكومة السوفيتية، والتي اتُّبعت بشكل مكثف بين عامَي 1929 و1933، لتحويل الزراعة التقليدية في الاتحاد السوفيتي وتقليل القوة الاقتصادية لـ”الكولاك” لم تسِر بشكل جيد، فمن الناحية العملية لم تؤدِّ إلا إلى إعادة توزيع الأراضي ومصادرة ممتلكات هؤلاء المزارعين فقط الذين قاوموا الحكم السوفيتي.
الجريمة الصامتة
طلب الكرملين من الحبوب أكثر ممّا يستطيع المزارعون توفيره، وبحلول خريف عام 1932 -تقريبًا في الوقت الذي انتحرت فيه زوجة ستالين، ناديجدا سيرجيفنا أليلوييفا، التي قيل إنها اعترضت على سياسته الجماعية- أصبح من الواضح أن محصول الحبوب في أوكرانيا أخفق في تحقيق هدف السوفيت بنسبة 60%.
ربما كان هناك -حتى ذلك الحين- ما يكفي من الطعام للفلاحين الأوكرانيين، لكن في أواخر عام 1932 تمَّ رفع حصة الحكومة من المحاصيل بشكل كبير، وكان من المتوقع أن يحصد الفلاحون أكثر من ذي قبل، لكن بالنسبة إلى الكثيرين كان ذلك هدفًا من المستحيل تحقيقه.
اعتقل ستالين بالفعل عشرات الآلاف من المعلمين والمفكرين الأوكرانيين، وحذفَ كُتُبًا باللغة الأوكرانية من المدارس والمكتبات
كما كتبت أبلباوم أن ستالين أمرَ بمصادرة بعض محصول الفلاحين كعقاب لعدم الوفاء بالحصص المطلوبة، وعندما قاوموا اجتاحت كتائب من نشطاء الحزب الشيوعي القرى، وأخذت كل ما هو صالح للأكل، وصادرت كل الحبوب التي ينتجونها، وعلى رأسها القمح والشعير، لذلك لم يبقَ للفلاحين أو عائلاتهم شيء سوى الموت.
وتتضمّن وثيقة صدرت في ديسمبر/ كانون الأول 1932 بعنوان “شراء الحبوب في أوكرانيا وشمال القوقاز والأوبلاست الغربية”، توجيهًا لكوادر الحزب بمصادرة المزيد من الحبوب من المناطق التي لم تفِ بحصصها، ودعت كذلك إلى اعتقال رؤساء المزارع الجماعية الذين قاوموا، وأعضاء الحزب الذين لم يَفُوا بالحصص الجديدة.
في غضون ذلك، وفقًا لأبلباوم، اعتقل ستالين بالفعل عشرات الآلاف من المعلمين والمفكرين الأوكرانيين، وحذفَ كُتُبًا باللغة الأوكرانية من المدارس والمكتبات، وأشارت إلى أن الزعيم السوفيتي استخدم نقص الحبوب كذريعة لمزيد من القمع المكثّف ضد أوكرانيا، وهي دولة بحجم ولاية تكساس الأمريكية على طول البحر الأسود إلى الغرب من روسيا.
يشير ستيفن نوريس، أستاذ التاريخ في جامعة ميامي في ولاية أوهايو، إلى أن مرسوم عام 1932 استهدف ما وصفهم بـ”المخرّبين الأوكرانيين”، وأمرَ المسؤولين المحليين بالتوقف عن استخدام اللغة الأوكرانية في مراسلاتهم، وقمع السياسات الثقافية الأوكرانية التي تمَّ تطويرها في عشرينيات القرن الماضي.
وفقًا لتقرير لجنة الكونغرس المعنية بمجاعة أوكرانيا، عندما ذهب جامعو المحاصيل التابعين لستالين إلى الريف، استخدموا أعمدة خشبية طويلة مثبّتًا عليها نقاط معدنية لوخز الأرضيات الترابية لمنازل الفلاحين للكشف عن مخازن الحبوب المخبأة، وغالبًا ما عُوقب المزارعون الذين كدّسوا محاصيلهم بالسجن أو الإعدام.
على سبيل المثال، أُلقي القبض على صبيَّين يخبّئان أسماكًا وضفادع كانا قد اصطاداها، وتمَّ اصطحابهما إلى قرية سوفيتية، حيث تعرضا للضرب، ثم تمَّ جرهما إلى حقل بينما كانت أيديهما مقيدة وفماهما وأنفافهما مكممة، حتى واجها الموت خنقًا.
مع تفاقم المجاعة، لجأ الفلاحون الأوكرانيون إلى الأساليب اليائسة في محاولة البقاء على قيد الحياة، حيث قتلوا وأكلوا حيوانات أليفة وأكلوا الزهور والأوراق ولحاء الأشجار والجذور، وحاول الكثيرون الفرار بحثًا عن أماكن بها المزيد من الطعام في المدن وخارج حدود جمهورية أوكرانيا السوفيتية، وتناثرت جثث أولئك الذين غادروا قراهم بحثًا عن الطعام في المدن والطرق، وكانت هناك أيضًا تقارير واسعة النطاق عن أكل لحوم البشر.
يقدِّر المؤرخون أن ما بين 3 و12 مليون شخص لقوا حتفهم، معظمهم من أصل أوكراني، ليس بسبب الإهمال أو فشل المحاصيل، ولكن لأنهم حُرموا عمدًا من الطعام
توسّل المواطنون والمسؤولون المحليون لتخفيف الإجراءات التي فرضتها الدولة الستالينية، فكان ردّ السلطات هو اتخاذ تدابير إضافية فاقمت محنتهم، مثل إغلاق حدود أوكرانيا، حتى لا يتمكّن الفلاحون من السفر إلى الخارج والحصول على الطعام، فيما أحبطت الشرطة السرّية ونظام جوازات السفر الداخلية محاولات هروب البعض، حيث يقول الخبراء إن هذا كان بمثابة حكم بالإعدام.
بحلول صيف عام 1933، لم يتبقَّ سوى ثلث الأسر في بعض المزارع الجماعية، وازدحمت السجون ومعسكرات العمل بأقصى طاقتها، ومع عدم بقاء أي شخص تقريبًا لزراعة المحاصيل، أعادَ نظام ستالين توطين الفلاحين الروس من أجزاء أخرى من الاتحاد السوفيتي في أوكرانيا لمواجهة نقص العمالة.
جدل الإبادة الجماعية
قضت سياسة ستالين على قرى بأكملها، وفي بعض المناطق بلغ معدل الوفيات الثلث، وعندما اُستؤنفت الدراسة في الخريف التالي، كان ثلثا المقاعد فارغَين، وتحول الريف الأوكراني من موطن “الأرض السوداء”، وهي من أكثر الأراضي خصوبة في العالم، إلى أرض قاحلة صامتة.
لا يزال العدد الدقيق للأشخاص الذين ماتوا في مجاعة عامَي 1932 و1933 غير معروف، في حين يقدِّر المؤرخون أن ما بين 3 و12 مليون شخص لقوا حتفهم، معظمهم من أصل أوكراني، ليس بسبب الإهمال أو فشل المحاصيل، ولكن لأنهم حُرموا عمدًا من الطعام.
يصرُّ مسؤولو الكرملين على أنه في حين أن “هولودومور” كانت مأساة، إلا أنها لم تكن مقصودة، وعانت منها مناطق أخرى في الاتحاد السوفيتي في ذلك الوقت
وفقًا لأحدث التقديرات، أودت المجاعة الأوكرانية بحياة 3.9 ملايين شخص، أي حوالي 13% من سكان أوكرانيا، ويقول آخرون إن الرقم كان أعلى من ذلك بكثير، لكن مهما كان الرقم الفعلي، فهو صدمة تركت جرحًا عميقًا ودائمًا في الدولة التي يبلغ عدد سكانها 45 مليون نسمة.
لعقود طويلة، أنكر مؤرِّخو الاتحاد السوفيتي وجود المجاعة الأوكرانية، وتجنّبوا الحديث عنها داخل البلاد، وتمَّ قمع كل المناقشات بنشاط، وتعديل الإحصاءات لإخفائها، وفي الثلاثينيات من القرن الماضي عاش جميع أعضاء هيئة الصحافة في موسكو حياة محفوفة بالمخاطر، حيث في ذلك الوقت كانوا بحاجة إلى إذن الدولة للعيش في الاتحاد السوفيتي، وحتى للعمل.
ويختلف الغرب حول ما إذا كانت “هولودومور” من صنع الإنسان وما إذا كانت محاولة متعمَّدة لاستئصال استقلال أوكرانيا، لكن بحسب أليكس دي وال، المدير التنفيذي لمؤسسة السلام العالمي بجامعة تافتس، ومؤلف كتاب “المجاعة الجماعية: تاريخ ومستقبل المجاعة”، كانت المجاعة الأوكرانية حالة واضحة لكارثة من صنع الإنسان، ويصفها بأنها “مزيج من السياسات الاجتماعية والاقتصادية الكارثية التي تستهدف قمع أو عقاب مجموعة سكانية معيّنة”.
وخلافًا للمجاعات الطبيعية الأخرى في التاريخ التي سبّبتها الآفات أو الجفاف، هناك الكثير من الدلائل التي تشير إلى تعمُّد السلطات السوفيتية إحداث هذه الكارثة، فقد حدثت “هولودومور” عندما أراد ستالين تجويع الفلاحين الأوكرانيين المتمرّدين وإجبارهم على العمل في المزارع الجماعية، ومعاقبة ذوي العقلية الاستقلالية الذين شكّلوا تهديدًا لسلطته الشمولية.
حسب قول أولكساندرا مونيتوفا، من متحف “هولودومور” التذكاري في كييف، بذلت الحكومة السوفيتية كل ما في وسعها لمنع الفلاحين الأوكرانيين من دخول مناطق أخرى والبحث عن الخبز، ويضيف أن “نوايا المسؤولين كانت واضحة، بالنسبة إليّ إنها إبادة جماعية، ليس لدي شكّ”.
لكن بالنسبة إلى الآخرين، لا يزال السؤال مفتوحًا، فروسيا تعترضُ على وجه الخصوص على مسمّى “الإبادة الجماعية”، واصفة إياها بـ”التفسير القومي” للمجاعة، ويصرُّ مسؤولو الكرملين على أنه في حين أن “هولودومور” كانت مأساة، إلا أنها لم تكن مقصودة، وعانت منها مناطق أخرى في الاتحاد السوفيتي في ذلك الوقت.
اشتبكت كييف وموسكو بشأن هذه القضية في الماضي، واعترفت الحكومة الروسية بحدوث مجاعة في أوكرانيا، لكنها نفت أنها كانت “إبادة جماعية”، وهي تلك التي تُعرَّف في المادة 2 من اتفاقية الأمم المتحدة لمنع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها (1948)، على أنها “أي من الأفعال المرتكبة بقصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو عنصرية أو دينية”.
يردِّد الزعيم الأوكراني السابق فيكتور يانوكوفيتش صدى موقف الكرملين، قائلًا إنه “من الخطأ والظلم اعتبار “هولودومور” إبادة جماعية لشعب معيّن”، رغم أنه من الواضح أن السياسات التي اعتمدها ستالين ونوابه ردًّا على المجاعة، بعد أن بدأ في السيطرة على الريف الأوكراني، تشكّل أهم دليل على أن المجاعة كانت متعمّدة.
في أبريل/ نيسان 2008، أصدر النوّاب في البرلمان الروسي قرارًا ينصّ على أنه “لا يوجد دليل تاريخي على أن المجاعة تمَّ تنظيمها على أُسُس عرقية”، ومع ذلك اعترفت 16 دولة على الأقل بالمجاعة الكبرى، ومؤخرًا أكّد مجلس الشيوخ الأمريكي، في قرار صدر عام 2018، النتائج التي توصّلت إليها لجنة عام 1988 بأن ستالين ارتكب “إبادة جماعية”.
اليوم، وضعت روسيا، التي حلّت محل الاتحاد السوفيتي، استقلال أوكرانيا التي تواجه مصيرها وحدها أمام نظرها، في حين يرسم خليفة ستالين، فلاديمير بوتين، حدود القوة لدى الغرب أو على الأقل يختبرها، فتكون النتيجة عقوبات مغلَّظة لم تمنع الرجل القوي في موسكو من إرسال دباباته إلى داخل إقليم دونباس شرق أوكرانيا، وربما لاحقًا إلى العاصمة كييف نفسها، حينها قد تتكرر واحدة من أسوأ جرائم القرن العشرين.