تعود العلاقات العراقية التركية إلى عهد الدولة العثمانية حيث احتلَّت بغداد مكانة مميزة في إسطنبول أيام الخلافة، وكان الولاة فيها يتمتّعون بمكانة كبيرة في البلاط. وبسبب جوار البلدَين، كان لا بدَّ للعلاقات السياسية والاقتصادية أن تزدهر، لكن التحول الأكبر بدأ في أعقاب الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، حيث تزامنت تلك الفترة مع تحولات كبيرة في الأوضاع التركية، تمثّلت بصعود حزب العدالة والتنمية، وإطلاقه مشاريع النهضة التي جعلت تركيا مركزًا لجذب المقيمين في الدول المجاورة.
تزايدت أعداد العراقيين الوافدين إلى تركيا بدءًا من العام 2010، لكن الوتيرة ازدادت بعد سقوط الموصل عام 2014، وساعدت في ذلك التسهيلات والاتفاقيات المشتركة التي عقدتها الحكومة التركية مع نظيرتها العراقية، لتسهيل دخول السيّاح ومنح الإقامة لهم، وبصورة عامة ينقسم الوجود العراقي في تركيا إلى 3 أقسام:
– السيّاح القادمون بصورة دورية، وأعدادهم تختلف خلال فصول السنة، يمكن أن يصل المعدل إلى 3500 شخص يوميًّا.
– اللاجئون تحت حماية الأمم المتحدة: وفقًا لآخر الإحصاءات عن المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، يبلغ عدد العراقيين اللاجئين في تركيا 39,100 عراقي.
– أما الجزء الأكبر المتبقي، فهم المقيمون بصورة رسمية (الإقامة السياحية)، ويتخطّى عددهم الـ 650 ألف مقيم.
نشاط مجتمعي كبير
تُعتبر الجالية العراقية في تركيا ثاني أكبر جالية عربية بعد الجالية السورية، فوفقًا لإحصاءات وزارة الهجرة العراقية هناك أكثر من 700 ألف عراقي مقيم في تركيا، ويتوزعون بكثافة في 12 من أصل 81 ولاية في تركيا، وهي بحسب الترتيب إسطنبول وأنقرة، إضافة إلى سامسون وسكاريا ويالوفا وبورصا وأسكي شهير وغازي عنتاب وألانيا وجورم وبولو وكوتاهيا.
من الطبيعي أن يكون نشاط هذا العدد الكبير ملحوظًا داخل تركيا، وربما يكون قطاع العقارات المجال الأبرز الذي احتلَّ فيه العراقيون الصدارة بين الأجانب، فبحسب تقرير من إحدى شركات العقار المتخصصة في إسطنبول، استمرَّ العراقيون بالتنافس على المرتبة الأولى منذ حوالي 5 سنوات.
فقد اشتروا لوحدهم خلال النصف الأول من عام 2021 ما يربو على 3019 عقارًا مقابل 2300 عقار خلال الـ 6 أشهر الأولى من عام 2020، ورغم أن العراقيين سجّلوا تراجعًا طفيفًا خلال الـ 3 أشهر الأولى من ذلك العام مقابل الإيرانيين، إلا أنهم تمكّنوا من العودة الكبيرة خلال أشهر نيسان/ أبريل، مايو/ أيار ويونيو/ حزيران.
الإقبال العراقي على شراء العقارات كان له أسبابه ودوافعه:
– البحث عن بيئة آمنة ومحيط مستقرّ سياسيًّا، وهو ما وجده معظم المستثمرين العراقيين في تركيا التي تتمتّع بكل المواصفات.
– الدولة الآمنة مقابل التذبذب الأمني الذي يعيشه العراق منذ عام 2003.
– الرغبة في الاستثمار في اقتصاد قوي ومتماسك كحال الاقتصاد التركي.
– التقارب الثقافي بين المجتمع العراقي والتركي والروابط التاريخية التي تجمع البلدَين، ما جعلَ العراقيين يفضّلون الاستقرار نهائيًّا من أجل العيش في تركيا.
– قرب تركيا جغرافيًّا من العراق، ما جعل السفر إليها يسهّل الرغبة في الحصول على الجنسية التركية، خاصة أمام التحفيزات التي تقدمها الحكومة لكل المتملّكين الذين يشترون عقارات في تركيا بمبلغ 250 ألف دولار أمريكي فما فوق.
على الجانب الآخر، ينشط الكثير من العراقيين في فتح مؤسسات مجتمع مدني تُعنى بشؤون الجالية، وأهمها الشؤون الطلابية، حيث قام مجموعة من الطلبة بإنشاء الاتحاد العام للطلبة العراقيين، الذي أجرى دراسة تكشف بدقّة واقع الطلبة العراقيين في تركيا. تبيّن من خلال الدراسة أن حوالي 25% من الطلبة العراقيين يدرسون في مدينة إسطنبول، أي أن هناك 3750 طالبًا وطالبة يعيشون في مدينة إسطنبول وحدها، وهناك 9% يدرسون في العاصمة أنقرة، أي ما يقارب 1350 من الطلبة يعيشون في العاصمة.
وحصلت مدن سكاريا، بورصا، سامسون، كارابوك، قونيا، بولو، جانكيري، أسكي شهر، وغازي عنتاب على نسب تتراوح بين 3% و10%، أما الباقي ينتشرون في 50 ولاية تركية أخرى.
طلبة البكالوريوس هم الأعلى بـ 58% (8700 طالب وطالبة)، الماجستير 30% (4500 طالب)، والنسبة المتبقية هي لطلبة الدكتوراه وبلغت %12 (1800 طالب).
تنشط عدة مطاعم عراقية في المناطق ذات الجالية العربية الكبيرة، ورغم أن عدد تلك المطاعم ليس كبيرًا مقارنة بالمطاعم السورية على سبيل المثال، إلا أن وجودها يمثّل علامة فارقة في بعض المناطق مثل أكسراي والفاتح في إسطنبول
من خلال الدراسة، يتّضح أن غالبية الطلبة يدرسون على حسابهم الخاص، حيث بلغت نسبة الذين يتكفّلون بدفع أجورهم الدراسية 86%، أما النسبة القليلة المتبقية (14%) فلديهم منحة دراسية تتكفّل بدفع مصاريف دراستهم.
يدرس 70% من الطلبة العراقيين في الجامعات الحكومية و30% يدرسون في الجامعات الخاصة، خصوصًا في مدينة إسطنبول التي تضمّ 40 جامعة خاصة، وغالبية الطلبة يتكفّل أهاليهم بدفع أجورهم الدراسية ومصاريفهم الخاصة بهم (60% منهم)، أما النسبة المتبقية فهم يتكفّلون بمصاريف دراستهم وسكنهم ومعيشتهم.
يقول أحمد الطيبي، أحد مؤسِّسي الاتحاد، لـ”نون بوست”، إن الحاجة الملحّة لوجود مثل هذه المؤسسة هي ما دفع لإنشائها، فـ”الكثير من الطلبة كانوا يتحمّلون مشقة كبيرة في إكمال الإجراءات القانونية واللوازم اللوجستية لإقامتهم في تركيا، وبسبب حاجز اللغة أصبحت التفاصيل البسيطة عبئًا كبيرًا على الطلاب القادمين”.
ويكمل الطيبي: “لذلك كان لزامًا على الطلاب المقيمين أن يتحركوا لإنشاء اتحاد الطلبة العراقيين، ليقوم بكل التسهيلات اللازمة للطلاب، بدءًا من المنح الدراسية وإجراءات القبول والإقامة، وانتهاء بتمثيله الطلاب العراقيين أمام الجهات الرسمية التركية، التي تتعاون لتحقيق الأفضل للطلاب”.
إلى جانب هذين القطاعَين، ينشط العراقيون كذلك في قطاعات أخرى، مثل الصيرفة وتجارة الملابس والتجارة الإلكترونية وقطاع النقل، وتتداخل هذه القطاعات جميعها لأن تركيا مركز تجاري كبير في المنطقة.
يقول علي الشمري، وهو تاجر ملابس في بغداد، لـ”نون بوست”: “نأتي 3 إلى 4 مرات في السنة للتبضُّع من الأسواق التركية، الملابس التركية رائجة في بغداد، وهنا في تركيا تتوافر كل الخدمات اللوجستية التي تساعد على نقل البضائع إلى بغداد، أغلب من يقدِّمون هذه الخدمات إما شركات عراقية وإما شركات عراقية-تركية مشتركة، كما هو الحال في قسم من شركة مترو التركية”.
بالإضافة إلى تلك القطاعات، تنشط عدة مطاعم عراقية في المناطق ذات الجالية العربية الكبيرة، ورغم أن عدد تلك المطاعم ليس كبيرًا مقارنة بالمطاعم السورية على سبيل المثال، إلا أن وجودها يمثّل علامة فارقة في بعض المناطق مثل أكسراي والفاتح في إسطنبول.
الاندماج في المجتمع
لا يزال مصطفى، وهو مقيم عراقي في إسطنبول، يستعدّ لإكمال إجراءات زواجه من مواطنة تركية، حيث يقول مصطفى إن العادات والتقاليد التركية مقاربة إلى حدّ كبير لما هو الحال عليه في العراق.
يشرح مصطفى: “يبدأ الأمر دائمًا مع موافقة الأهل، كما في العراق، حيث حتى لو تمكّنت من الحصول على موافقة الفتاة، لا بدَّ من إقناع أهلها بالموافقة، صحيح أن القانون لا يتطلّب موافقة والدَي الفتاة، لكن الأتراك متمسّكون بعاداتهم في هذا الأمر”.
يكمل مصطفى بأن “موافقة والدَي الفتاة كانت صعبة في البداية، بسبب عدم معرفتهما الكبيرة بالمجتمع العراقي، حيث ربما نحن أقرب معرفة بالمجتمع التركي، لكن مع الوقت تقبّل والدا الفتاة الأمر، ونحن نُقبل على تسجيل الزواج بشكل رسمي في الدوائر التركية”.
ويضيف مصطفى: “العادات والتقاليد في الزواج تكاد تتطابق مع العراق، العادات نفسها في الخطوبة والعرس والمهر والتحضير للبيت والتواصل بين الأهل، ويمكن القول إن الإيجابيات والسلبيات هي نفسها تقريبًا”.
الجالية العراقية، ورغم عدم ظهورها الكبير إعلاميًّا وسياسيًّا في ما بين الجاليات الأخرى، إلا أن وجودها لا تخطئه العين في تركيا
في العموم، لا يواجه العراقيون مشاكل مع عادات المجتمع التركي، خاصة مع وجود العديد من المدن التركية القريبة من العراق، والتي تضمُّ أتراكًا من أصول عراقية، لكن حاجز اللغة يبقى هو العائق الوحيد أمام العراقيين، خاصة مع عدم ميل الأتراك إلى الحديث باللغة الإنجليزية، لكن كيف يتخطّى العراقيون هذه العقبة؟
يقول محمد، وهو مقيم في إسطنبول، إنه حاولَ تعلُّم اللغة التركية من خلال دورات التعليم، لكنّ الأمر لم ينجح كثيرًا معه، “رغم أن الأتراك ودودون جدًّا مع من يحاول تعلُّم لغتهم والحديث بها في الطرق والمواصلات، إلا أننا نجد صعوبة في تعلُّم اللغة، بسبب قواعدها الصعبة”.
في العادة، تواجه الجالية العراقية مشاكل في التعامل مع اللغة التركية أكثر من نظيراتها من الجاليات الأخرى، خاصة بالقياس مع الجالية السورية على سبيل المثال، ويعود الأمر إلى الارتباط الاقتصادي بالعراق بالنسبة إلى المقيمين في تركيا.
حيث إن أغلب العراقيين مرتبطون اقتصاديًّا بالعراق بالدرجة الأولى، وفيما عدا شريحة الطلاب هم ليسوا بحاجة كثيرًا للاندماج في سوق العمل التركي، ويتحدّد تواصلهم مع المجتمع بالتسوُّق والتبضُّع، ما لا يتطلب دراية كبيرة باللغة التركية.
الجالية العراقية، ورغم عدم ظهورها الكبير إعلاميًّا وسياسيًّا في ما بين الجاليات الأخرى، إلا أن وجودها لا تخطئه العين في تركيا، وهناك الكثير من العمل على تحسين وجودها وزيادة مشاركتها بشكل أكبر في المجتمع التركي، خاصة أن عوائل كثيرة تعتبر تركيا محطتها الدائمة.