ترجمة وتحرير: نون بوست
رغم استبعاد احتمال أن يكون هذا الادعاء صحيحًا، إلا أن الثقافة الشعبية الإسرائيلية تُعيد إحياء ذكرى صحفي مصري كان من أشد المعارضين لـ”إسرائيل”. محمد حسنين هيكل، الذي اعتُبر من بين أشهر الصحفيين في الشرق الأوسط ما بين منتصف الخمسينيات إلى منتصف السبعينيات، شخصية محوريّة في فيلم بعنوان “صورة النصر” تدور أحداثه في حرب 1948.
لا تحمل الشخصية في هذا الفيلم اسمه، لكن شخصية الراوي المندس داخل القوات المصرية تشبه إلى حد كبير الصحفي هيكل، مثل شخصيّة جنرال إسرائيلي أعور تحوّل إلى سياسي يُدعى موشيه دون ذكر أن اسمه “دايان” بشكل صريح.
قد يبدو اسم هيكل قديمًا مثل اسم دايان رغم وجود خيط رفيع يربط بين هذا الصحفي وأحداث الفيلم. في آب/ أغسطس 1973، قبل ستة أسابيع من حرب يوم الغفران، تحدث هيكل مع السيناتور الشاب جو بايدن عن رحلته الأولى إلى الشرق الأوسط. انتقل جو بايدن بعد ذلك من القاهرة إلى القدس، حيث التقى بغولدا مئير وناشدها أن تتبنى سياسة أكثر اعتدالًا، مع أن هيكل والمصريين الآخرين لم يقدموا أي تنازلات. وقد أخبر بايدن غولدا أنها استقبلته قبل أن يكلف رئيسه ريتشارد نيكسون عناء القيام بذلك.
تمامًا مثل صانعي الأفلام، يبدو أن أجهزة المخابرات الإسرائيلية استعانت ببعض الرخص الفنية لاستكمال ملفها البحثي حول هيكل. ومن بين الصدف الأخرى أيضًا أن الفيلم صدر في نفس الفترة التي نُشرت فيها العديد من الملفات الاستخباراتية والدبلوماسية في الأرشيف الوطني الإسرائيلي. رُفعت السرية عن هذه الوثائق قبل أسابيع فقط، وهي تكشف عن اتباع أساليب ملتوية وعمليات معقدة من أجل إقناع هيكل بالاجتماع مع الممثلين الإسرائيليين المفوضين رسميًا لهذه المهمة وحتى زيارة “إسرائيل”.
لم يذكر ملف هيكل الذي يغطي الفترة 1959-1960 الهدف النهائي الذي كان يتمثل ربما في تجنيده كعميل أو استخدامه للتأثير على سياسة القاهرة تجاه “إسرائيل” أو على الأقل تغيير مسار الرأي العام المعادي لها، الذي كان في ذلك الوقت قد دخل في حرب مع “إسرائيل” خلال مناسبتين – مع أنها لم تكن الخصم الطبيعي والتاريخي العنيد. وقد أثبتت ذلك فيما بعد مبادرة السلام بين بيغن والسادات.
عند استعراض كتابات هيكل ومحاضراته، من الصعب تصديق فكرة تحويله إلى عميل استخبارات في خدمة “إسرائيل”. لقد كان وطنيًا شرسًا لطالما أعرب عن استيائه من قوة “إسرائيل” المتنامية باستمرار ولم يكن من الأشخاص الذين يغريهم المال. ولم يكن في حياته ما يوحي بأنه من الأشخاص الذين يمكن ابتزازهم للتعاون مع الموساد.
في أواخر الستينيات، اتصل أشرف مروان، صهر جمال عبد الناصر ثم أحد أعضاء الدائرة المقربة من السادات، بالسفارة الإسرائيلية في لندن ليبلّغهم بموافقته على تقديم خدمات استخباراتية لصالح “إسرائيل”. وعند معرفة هويّة المتصل، صرخ شموليك جورين، رئيس المحطة المحلية في تسوميت وقسم الموساد الذي كان يدير الجهاز الاستخباراتي آنذاك: “هذا لا يصدق! كنا نبحث عن طريقة للتقرّب من مثل هذا الهدف، وبدلاً من ذلك هو من يبادر بهذه الخطوة ويطرق بابنا”.
لم يكن هيكل يشبه مروان في أي شيء، وإنما كان يبغض “إسرائيل”. ولكن دون أن يعلم، كان اسمه مطروحًا على مكاتب ضباط الموساد ووزارة الخارجية كموضوع لعملية معقّدة مكتملة بأسماء حركية؛ وكان اسمه الحركي عوزي. لكن كيف أمكن الوصول إليه؟ توفر عدد من الطرق التي أخِذت بعين الاعتبار على غرار بعض الصحفيين الأمريكيين والفرنسيين والأكاديميين وحتى ضابط شرطة مصري.
يبدو أن “إسرائيل” اتبعت مع هيكل نفس النهج الذي اعتمدته مع الصحفي والكاتب الأمريكي روبرت سانت جون، المؤلف غزير الإنتاج مثل هيكل الذي نجا في شبابه كصحفي شجاع من استياء آل كابوني وكان خلال الحرب العالمية الثانية أول من كتب تقارير عن إلقاء الولايات المتحدة القنبلة الذرية على هيروشيما وناغازاكي. عاش كلاهما في الحقبة ذاتها، وتوفي هيكل في سن 92 سنة في حين توفي سانت جون قبل شهر واحد من إتمام عامه الأول بعد المئة. وكان اسمه الحركي مستمدًا من الموسيقى الساحرة “سامبا”. لقد كانا زملاء وأصبحا فيما بعد أصدقاء، وكان يُنظر إلى سانت جون على أنه يمثل أداة مثالية للوصول إلى هيكل من أجل تجنيده ليصبح جاسوسًا إسرائيليًا.
في سنة 1923، اكتسب هيكل – المعاصر لحقبة هنري كيسنجر وشمعون بيريز – شهرته بفضل علاقته مع عبد الناصر الذي كان عضوا أساسيًا المتآمر في مجلس الضباط الأحرار الشباب، الذي أطاح بالملك فاروق وحكم منذ ذلك الحين مصر خلال سبعة عقود. ظهر عبد الناصر الذي كان آنذاك عقيدًا في منتصف الثلاثينيات من عمره كزعيم للحركة وتولى منصب رئيس الوزراء ثم الرئيس أو “الريس”، وهو عنوان السيرة الذاتية التي كتبها سانت جون.
فَتن عبد الناصر الجماهير بشخصيّته الكاريزماتية التي غطت على إخفاقاته التي قادت بلاده النامية إلى طريق مسدود، وهو الأمر الذي حاول نائبه وخليفته السادات استغلاله لصالحه مع أنه لم يكن يحظى بشعبية كبيرة.
كان عبد الناصر حتى وفاته عن عمر 52 عامًا عدوًا لدودًا بالنسبة للإسرائيليين، وكان الجميع يخشاه ويعتبره رمزًا لجيل جديد من القادة العرب. وكان الهدف الأساسي من الحملة البريطانية – الفرنسية – الإسرائيلية على السويس وسيناء في سنة 1956 هو التخلص منه. لكنه نجا من تلك الحملة ثم أطلق شرارة حرب 1967 وخسرها، وقضى سنواته الثلاث الأخيرة متألمًا ومغلوبًا على أمره.
كان هيكل أكثر أصدقاء عبد الناصر إثارة للإعجاب. لم يكن يريد منصبًا رسميًا، وبعد فترة طويلة وافق على منصب وزير الإرشاد الوطني لفترة قصيرة وكان له تأثير كبير على عبد الناصر. أحدثت أفكاره وبلاغته جدلا كبيرا من خلال مقالاته التي تُنشر بشكل متكرر في جريدة الأهرام. وقد جذبت هذه المقالات صانعي السياسة الفضوليين في القدس ومحللي المخابرات في تل أبيب. وفي الستينيات، تصدر اسمه العديد من نشرات أخبار إذاعة صوت “إسرائيل”، حيث كان مقدم الأخبار يقول: “في مقاله الأسبوعي، قال محرر جريدة الأهرام والمتحدت الرسمي لعبد الناصر …”.
كان هيكل مراسلًا جريئًا يجول عواصم بلاد الشام وساحات القتال ويُغطي الحروب التي تدور رحاها في البلدان الأخرى. وكان يُعرف بشبكة علاقاته الكثيفة وشجاعته ورباطة جأشه. وكانت آراؤه بشأن “إسرائيل” مثيرة للإحباط والإعجاب في الوقت ذاته.
في مقابلة سنة 1988 مع مجلة الدراسات الفلسطينية، بعد فترة طويلة من خروجه من دوائر السلطة، لاسيما بعد أن توترت علاقته مع السادات ولم يكن مهتمًا بحسني مبارك، قدّم هيكل رواية مذهلة لا سند لها عن اجتماعين مع ديفيد بن غوريون (الأول كان في القاهرة في سنة 1946، ومقابلة ثانية في القدس في أوائل سنة 1948) تسلط الضوء على علاقاته الحميمة مع الجناح الأكثر اعتدالًا من الجالية اليهودية المصرية، والزيارات التي أداها إلى فلسطين تحت الانتداب البريطاني، والرهان بمبلغ 10 دولارات مع مبعوث الوكالة اليهودية إلياس ساسون حول إمكانية اندلاع الحرب – حيث لم يكن يرجّح حدوث ذلك.
لم تتحدث السجلات التي رُفعت السرية عنها عن مسألة الرهان، إلا أنه بعد أن انضم إلى القوات المصرية كمراسل في مجلة لايف في فرعها المصري، لم ترد أي أخبار عن اتصالات هيكل مع الإسرائيليين.
أصيب هيكل بخيبة أمل من الولايات المتحدة، حيث كان يأمل أن تحل محل البريطانيين الذين هُزموا في حرب السويس وتقف إلى جانب العرب ضد “إسرائيل”. أخبر ذات مرة زميلًا كاتبًا أنه في رحلة عبر أمريكا في أوائل الخمسينات وصل إلى نيو أورلينز في حافلة ليُطلب منه النزول بسبب بشرته الداكنة. وقد تسبب نفاق ورياء الولايات المتحدة بشأنها نضالها من أجل الحقوق المدنية في إضعاف إيمانه بإمكانية اضطلاع الولايات المتحدة بدور قيادي في الشرق الأوسط.
قبل معركة السويس، كانت هناك اتصالات عديدة بين المسؤولين الإسرائيليين والمصريين ذوي الرتبة المتوسطة معظمها دارت في أوروبا. وعلى الرغم من أن الاشتباكات الحدودية تصاعدت لتصبح حربًا، لم يفكر أحد في ترتيب اجتماع بين مسؤولين رفيعي المستوى قد يجمع بن غوريون وعبد الناصر في حد ذاتهما. ولا يوجد سجل يثبت تجدد هذه الجهود بعد سنة 1956، مع أنه بعد استقالة بن غوريون من رئاسة الوزراء أراد رئيس الموساد مئير عميت قبول دعوة من ضابط مصري رفيع مقرّب من عبد الناصر للحضور إلى مصر لإجراء محادثات سريّة؛ لكن لم يوافق رئيس الوزراء ليفي أشكول على هذه المهمة.
تمكّن بن غوريون، الذي كان يكبر عبد الناصر بحوالي 30 سنة من رؤية الصفات القيادية لخصمه مع إمكاناته القادرة على إحداث تطورات بناءة أو هدامة. لكن تابعيه لم يستسلموا. وفي أواخر الخمسينيات من القرن الماضي، عندما أخبرهم روبرت سانت جون أنه سيكون قادرًا على التحدث مع هيكل -المقرب من عبد الناصر- خلال مقابلة مع مبعوث إسرائيلي انطلقوا في الترتيب للخطة وكان ملف هيكل موجودًا بالفعل على مكاتبهم.
تم استخدام شبكة واسعة من مسؤولي وزارة الخارجية وجهاز تسوميت التابع للموساد في عملية عوزي-سامبا في أثينا وجنيف ونيويورك وواشنطن ولوس أنجلوس وباريس وروما، منسقة من المكاتب الخلفية في القدس وتل أبيب. وقبل وقت طويل من إخبار سانت جون لأصدقائه الإسرائيليين (الذين ساعدوه في الكتابة عن بلدهم وتصحيح مسودات كتبه) أنه يمكنه الاقتراب من صديقه هيكل، كان الكاتب المصري هدفًا للموساد الإسرائيلي.
وقبل ظهور أجهزة الحاسوب، كان لدى الأهداف بطاقات تحمل أسماءهم الحقيقية والحركيّة وجهات الاتصال الخاصة بهم الإسرائيلية والأجنبية، إلى جانب التواريخ والتفاصيل والأموال التي وقع إنفاقها.
إلى جانب سانت جون، تضمنت بطاقة هيكل ثلاثة أسماء أخرى أحدهم كان مواطنًا مصريًا يدعى ممدوح سالم وهو ضابط شرطة شغل لاحقًا منصب رئيس وزراء في عهد السادات. لكن لم تكشف الوثائق عن أي معلومات حول ما إذا كان لسالم علاقة بإسرائيل. هذا بالإضافة إلى كاتب إيطالي يهودي في صحيفة “لوموند” عرض مساعيه الحميدة للوصول إلى صديقه هيكل، وكان يُعتبر جديرًا بالثقة ولكنه يعرف بنصرته الشديدة للقضايا الإسرائيلية.
وثالثهم أستاذ في كاليفورنيا كان يلتقي بشكل متكرر مع هيكل. في ذلك العصر ما قبل الرقمي، كانت المراسلات مرهقة. وعندما اقترح هذا الأستاذ أن رسائله إلى هيكل في القاهرة يمكن تسريعها باستخدام الحقيبة الدبلوماسية الأمريكية، أحبط ذلك حماس جهات الاتصالات الإسرائيلية لأن ذلك كان يعني إشراف وزارة الخارجية (ووكالة المخابرات المركزية).
فيما يتعلق بسامبا، فقد كان كاتب سيرة ذاتية مشهور روى بفخر أنه عندما حضر في وقت مبكر من حياته المهنية درسًا للإنتاج الكتابي كان يعتبر واحدًا من اثنين من المؤلفين الطموحين اللذين يملكان حظوظا وافرة لتحقيق النجاح، جنبًا إلى جنب مع إرنست همنغواي.
وقع تشجيع سانت جون على ترتيب اجتماع في نيويورك، عندما يرافق هيكل عبد الناصر في زيارة للأمم المتحدة. لقد كانت فرصةً مفيدة، إذ لن يضطر هيكل إلى إجراء رحلة مشبوهة إلى الخارج. وفي أوائل 1970، تبيّن أن زيارات الأمم المتحدة مثلت فرصة معتبرة لاجتماعات الموساد مع مخبرها المصري أشرف مروان.
سُرعان ما تحوّلت الحماسة إلى خيبة أمل، فقد غادر هيكل نيويورك قبل أن يتمكّن سانت جون أو الأستاذ المقيم في الساحل الغربي من إجراء مقابلة معه. ولم يستطع الإسرائيليون إخفاء إحباطهم بعد أن طار الطائر من القفص قبل لحظات من الإمساك به. وهذا ما جعل سانت جون يستاء من ردة الفعل الغاضبة لأحد جهات الاتصال الإسرائيلية، حسب ما ورد في رسالة محفوظة في ملف هيكل.
بوجود عميل مهم محتمل مثل هيكل، لم يكن لدى الدبلوماسيين الإسرائيليين وضباط المخابرات نيّة التسرع في خطواتهم، وإنما كانوا يقيسون تحركاتهم.
أولاً، يلتقي شخص أمريكي مقرّب من عبد الناصر، ثم عضو بعثة الأمم المتحدة الإسرائيلية. أما الخطوة التالية، فتقتضي لقاء عضو أعلى رتبة في حكومة بن غوريون. وإذا سارت الأمور على ما يرام، ماذا كان ليحدث؟ كان من المفترض أن تعمل “إسرائيل” على الحفاظ على هذا المفتاح المصري في كشوف رواتب إسرائيل؛ ثم ترتيب زيارة سرية له للبلاد؛ وترتيب لقاء بين رؤساء الحكومات بعد أن يُطمئن هيكل صديقه عبد الناصر أن “إسرائيل” لا تنصب له فخًا.
كان المسؤول الإسرائيلي رفيع المستوى الذي اقتُرح اسمه للاجتماع مع هيكل هو دايان. بعد تقاعده مؤخرًا من جيش الدفاع الإسرائيلي، وهو عضو كنيست ووزير في حكومة بن غوريون الأخيرة، سطع نجم الجنرال دايان بعد أداء الجيش الإسرائيلي في حملة سيناء سنة 1956. كان يكبر عبد الناصر بثلاث سنوات فقط، وكانا من مواليد حرب 1948، وكان دايان مواطنًا إسرائيليًا له كاريزما تضاهي شخصية الزعيم المصري.
انتقد هيكل في مقالاته سمعة دايان المرموقة مدعيًا أنه لم يهزم الجيش المصري خلال 100 ساعة، وإنما الجنود أطاعو أمر عبد الناصر الحكيم بالتراجع لإنقاذ أنفسهم من أجل القتال في يوم آخر وتجنب انهيار النظام. ومما لاشك فيه أن لا أحد يستطيع أن يطعن في سمعة دايان التي تسبقه.
لم يتم ترتيب أي اجتماع أسطوري بين الفرعون وسايكلوبس، ولكن عندما قرر السادات أن الوقت قد حان وأرسل نائبًا إلى المغرب في أيلول/ سبتمبر 1977 للتحدث مع مبعوث مناحيم بيغن المختار، لم يكن هناك سوى رجل واحد مناسب لهذه المهمة وهو وزير الخارجية آنذاك دايان، الذي كان مصممًا على المساعدة في ترتيب السلام بين القدس والقاهرة.
وبالنظر إلى معارضة هيكل الشديدة لسياسة السادات للسلام، التي دفعت الرئيس إلى سجنه، فإن عملية عوزي كان محكومًا عليها بالفشل منذ البداية حتى لو التقى هيكل بدايان في أوائل الستينيات. لكن من يدري! لعله كان بإمكان دايان أن يستميل هيكل في إطار موقف واقعي تجاه “إسرائيل”. وفي الحقيقة، يمكن للطابع الشخصي أن يتفوق على الميولات السياسية، ومثلما حدث بعد رحلة الحافلة في نيو أورلينز التي كانت مصيرية للغاية بالنسبة لهيكل، كان من الممكن أيضًا أن تؤدي رحلة على متن شاحنة تسير في الطرق البرية لإسرائيل رفقة دايان إلى استمالة “عوزي”.
المصدر: هاآرتس