ترجمة وتحرير: نون بوست
بصفتها حليفًا رئيسيًا في حلف الناتو وتشترك في حدود بطول 332 ميلًا مع أوكرانيا، كانت بولندا تستعد بهدوء للأسوأ. لقد خصصت المدن في جميع أنحاء البلاد مساكن استعدادًا لاستقبال ما يصل إلى مليون لاجئ في حال شنت القوات الروسية، التي دخلت حاليًا الجمهورتين المواليتين لروسيا في شرق أوكرانيا (دونيتسك ولوغانسك)، حربًا واسعة النطاق.
بعد أن هاجم المخترقون العديد من الوزارات الأوكرانية ومصرفين رئيسيين في البلاد الأسبوع الماضي، عززت الإدارة العامة وأجهزة الأمن في بولندا يقظتها ضد الهجمات السبرانية المحتملة. والآن بعد أن أصبح الغزو الروسي الشامل لأوكرانيا أكثر احتمالًا يومًا بعد يوم، يدرك القادة البولنديون تمامًا أن ما سيحدث في الأسابيع المقبلة سيؤثر حتمًا على بولندا.
حتى الآن، زاد التركيز على الملف الدبلوماسي والعسكري لوارسو في المنطقة خلال الأزمة. فقد كانت بولندا الوجهة الرئيسية للقوات الأمريكية التي وصلت إلى أوروبا الشرقية منذ كانون الثاني/ يناير. وفي أعقاب إرسال 2000 جندي إلى بولندا وألمانيا في مطلع شهر شباط/ فبراير، نشرت واشنطن 3000 جندي إضافي في بولندا بما في ذلك قوات من الفرقة 101 المحمولة جوًا.
أثناء زيارته للقوات الأمريكية في بولندا الأسبوع الماضي، أعلن وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن عن بيع أسلحة بقيمة 6 مليارات دولار إلى وارسو تشمل 250 دبابة من طراز إم1 أبرامز. وقد نقلت واشنطن يوم الإثنين مسؤوليها الدبلوماسيين في أوكرانيا إلى بولندا.
في غضون ذلك، تُقدّم بولندا دعمًا حيويًا إلى كييف. فمنذ كانون الأول/ ديسمبر، كان السياسيون البولنديون يزورون كييف للتعبير عن تضامنهم مع أوكرانيا وأعلنوا عن خطط لإرسال عشرات الآلاف من القذائف المدفعية والأسلحة المضادة للطائرات وقذائف الهاون وغيرها من الأسلحة الأخرى إلى البلاد. وفي الأسبوع الماضي، وُضعت الصيغة النهائية لاتفاقية أمنية ثلاثية جديدة بين بولندا وأوكرانيا والمملكة المتحدة تهدف إلى تعزيز التعاون التجاري والدفاعي بين البلدان الثلاثة.
قبل اندلاع الأزمة الحالية، كانت بولندا – التي انضمت إلى الناتو في سنة 1999 – على خلاف مع روسيا منذ فترة طويلة
مع ذلك، قد تزداد أهمية بولندا في الأزمة الأوكرانية التي تتأجج ببطء. تقع بولندا في مجال روسيا وأوروبا الغربية، وقد تتأثر بالمواجهة بين القوى العظمى. وباعتبارها هدفًا ومعارضًا صريحًا للطموحات الروسية، فإن أكبر عضو في الناتو في أوروبا الشرقية في وضع يؤهله للعب دور حاسم في علاقة أوروبا الأمنية مع روسيا وأن يصبح محور الجهود الغربية لإبراز القوة في أوروبا الشرقية.
والسبب الآخر الذي يجعل الغرب يركّز على بولندا خلال هذه الأزمة الحالية حقيقة كونها أكبر منفق على الدفاع في أوروبا الشرقية بعد روسيا، وموقعها الحاسم في المنطقة يجعلها جزءًا رئيسيًا من شبكة الردع التابعة لحلف الناتو ضد موسكو.
تقع بولندا على أطراف أبعد امتداد لروسيا في أوروبا الغربية، حيث تطوّق كالينينغراد الروسية وبيلاروسيا، التي أصبحت بالفعل دولة بالوكالة لروسيا منذ أن ناشد الزعيم البيلاروسي ألكسندر لوكاشينكو دعم روسيا ضد الاحتجاجات المحلية التي عارضت الانتخابات المزورة في سنة 2020 التي أعادته إلى السلطة.
منذ ذلك الحين، استخدم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بيلاروسيا لتهديد بولندا. وبعد أن دعمت وارسو المعارضة البيلاروسية وقدمت لها الملاذ، دبّر لوكاشينكو أزمة مهاجرين في سنة 2021 – بدعم من موسكو بشكل شبه مؤكد – تركت آلاف المهاجرين عالقين على طول الحدود البولندية والاتحاد الأوروبي.
ووفقًا لبولندا والاتحاد الأوروبي، شكّل تسليح لوكاشينكو للمهاجرين وموجته الدعائية المتزامنة ضد بولندًا حربًا هجينة. كما دمّرت القوات البيلاروسية حواجز الحدود البولندية، وضايقت قوات الأمن البولندية، وزُعم أنها أطلقت رصاصات فارغة على القوات البولندية – وهي أقرب مواجهة بين دولة عضو في حلف الناتو وحليف روسي منذ نهاية الحرب الباردة.
وقبل اندلاع الأزمة الحالية، كانت بولندا – التي انضمت إلى الناتو في سنة 1999 – على خلاف مع روسيا منذ فترة طويلة. وبعد احتلال بولندا لمدة 123 سنة قبل الحرب العالمية الأولى، غزت روسيا بولندا مرة أخرى خلال الحرب العالمية الثانية وأقامت نظاما شيوعيًا عميلًا بعد الحرب استمر حتى سنة 1989.
تحوّل أوكرانيا إلى بلد مزدهر بعيدًا عن التدخل الروسي يتجاوز مسألة ضمان الأمن بالنسبة لوارسو، بل إنه أمر حيوي لحماية الروابط الاقتصادية والاجتماعية بين البلدين.
منذ ذلك الحين، يتنازع البلدان بسبب معارضة وارسو لموقف بوتين الإقليمي ودعمها لتحركات أوكرانيا لتقارب مع الغرب منذ سنة 2014. ويقول رادوسلاف سيكورسكي، الذي شغل منصب وزير خارجية بولندا ووزير دفاعها في الحكومات السابقة وهو الآن عضو في البرلمان الأوروبي، إن “بولندا تعيق تحركات روسيا لأن لدينا تاريخا طويلا من التقارب ولا نخجل من شرح موقفنا من روسيا للغرب”.
في الوقت الراهن، يشعر البولنديون بقلق متزايد من التهديدات التي تلوح في الأفق على أعتابهم في خضم الأزمة الروسية الأوكرانية. إلى جانب احتمال حدوث موجات من التضليل الإعلامي والهجمات السبرانية والمزيد من أنواع الحرب الهجينة التي واجهتها بولندا من بيلاروسيا السنة الماضي، فإن القوات الروسية المتمركزة على بعد 124 ميلا من وارسو في بيلاروسيا تزعزع استقرار بولندا أيضًا. ويُذكر أن هذه القوات تهدف في المقام الأول إلى تهديد أوكرانيا، لكن وزير الخارجية البولندي زبيغنيو راو وصف هذا الوجود باعتباره “مصدر قلق كبير“.
على الرغم من أن أي هجوم روسي على أوكرانيا سيكون له تأثير هائل على بولندا والمنطقة بأكملها، إلا أن “التهديد المباشر ضد بولندا سيأتي من الأراضي البيلاروسية وليس من الأراضي الأوكرانية”، وذلك على حد تعبير ماريك سويرزينسكي رئيس مكتب الأمن في مؤسسة الأبحاث البولندية “بوليتيكا إنسايت”.
بالنظر للتهديدات التي تشكلها بيلاروسيا المتشددة والمعتمدة على الكرملين، ونفور بولندا من اندلاع صراع كبير في جميع أنحاء أوكرانيا، يبدو أنه لا مفر أمام بولندا من أن تصبح لاعبًا استراتيجيًا كبيرًا في المنطقة – وهو الدور الذي تريد وارسو بوضوح الاضطلاع به.
يقول الصحفي ميشال بوتوكي، في صحيفة “دزينيك جازيتا براونا” والمحاضر في جامعة وارسو، إن “بولندا تحاول بنشاط كبير إبراز مكانتها في المسرح الدولي منذ بداية هذه التوترات الذي تثيرها روسيا. وترسيخ الديمقراطية في أوكرانيا والتعددية السياسية من شأنه تعزيز التوجه الموالي للغرب في أوكرانيا”.
إن تحوّل أوكرانيا إلى بلد مزدهر بعيدًا عن التدخل الروسي يتجاوز مسألة ضمان الأمن بالنسبة لوارسو، بل إنه أمر حيوي لحماية الروابط الاقتصادية والاجتماعية بين البلدين. فبولندا ثاني أكبر شريك تجاري لأوكرانيا بعد الصين، ويعتبر السكان والعمال الأوكرانيون جزءًا لا يتجزأ من الاقتصاد البولندي باعتبارهم أكبر مجموعة مهاجرين في بولندا اليوم.
قدم الرئيس البولندي أندريه دودا تشريعًا للتخلص من الإصلاحات القضائية المثيرة للجدل، قائلا “لسنا بحاجة إلى هذه المعركة”.
إن صانعي السياسة البولنديين ليسوا الوحيدين المهتمين بحماية جارتهم الجنوبية الشرقية. فوفقًا لاستطلاع رأي أجراه المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية الشهر الماضي، قال 65 بالمئة من البولنديين إن بلادهم يجب أن تدافع عن أوكرانيا إذا تعرضت للهجوم من قبل روسيا – وهي نسبة أعلى بكثير من أي دولة أخرى شملها الاستطلاع. وربما يكون تصنيف حزب القانون والعدالة الحاكم في بولندا لنفسه على أنه المدافع الوحيد عن أوروبا من التوغلات الروسية والبيلاروسية قد ساهم في بلورة مثل هذه المواقف. ويقول الصحفي البولندي والخبير في معهد وارسو، توماسز غريزياكوسكي، إنه “من المفارقات أن هذا الصراع قد يمثّل فرصة لبولندا”.
بالإضافة إلى تقريب بولندا من حلفائها الإقليميين، زار راو موسكو الأسبوع الماضي بصفته رئيس منظمة الأمن والتعاون في أوروبا هذه السنة على أمل الحد من التوترات الإقليمية. ويشير تحالف بولندا الجديد مع أوكرانيا والمملكة المتحدة إلى أن وارسو تريد توسيع دورها كعقدة إقليمية للتعاون الأمني بين أوروبا الغربية وأوكرانيا.
لكن هذا الدور لم يزدهر حتى الآن إلا خارج مؤسسات الاتحاد الأوروبي. وحتى مع تطور الأزمة الحالية، استمرت معارك بولندا طويلة الأمد مع الاتحاد الأوروبي، وألغت محكمة أوروبية طعنا قانونيا بولنديا يتعلق بقضايا سيادة القانون الأسبوع الماضي. ووفقًا لسيكورسكي، فقد أضعفت الخلافات من هذا النوع جهود بولندا لبناء تحالفات داخل أوروبا.
في خضم الأزمة، تراجعت بولندا خطوة إلى الوراء بشأن الخلافات الداخلية المثيرة للانقسام في الاتحاد الأوروبي. فعلى سبيل المثال، قدم الرئيس البولندي أندريه دودا تشريعًا للتخلص من الإصلاحات القضائية المثيرة للجدل، قائلا “لسنا بحاجة إلى هذه المعركة”. وقال بوتوكي إن “الأولوية المطلقة هي أمن القارة، وأمن العالم الغربي مفهوم على نطاق واسع، وأمن أوكرانيا، وأمن بولندا”.
حتى لو قرر بوتين التراجع عن الحرب المفتوحة مع أوكرانيا، فإن الظروف السياسية الراهنة التي تواجهها بولندا لن تنتهي قريبًا. إن توسيع الميزانية العسكرية لوارسو، التي تعهدت الحكومة بها لأنها تخطط لمضاعفة حجم قواتها، سيسمح لبولندا بأن تصبح أكثر اكتفاءً ذاتيا في أمنها في السنوات المقبلة – وكذلك الجهود المستمرة لتهدئة الخلافات التي زعزعت استقرار علاقتها مع الاتحاد الأوروبي. وتدرك بولندا أنها يجب أن تستعد لمستقبل ستلعب فيه دورا رائدا في إبقاء روسيا بعيدة. وبعد كل شيء، من شبه المؤكد أن هذه الأزمة لن تكون الأخيرة في المنطقة.
المصدر: فورين بوليسي