ترجمة وتحرير: نون بوست
في الوقت الذي أعطى فيه الرئيس فلاديمير بوتين الأوامر للقوات الروسية بدخول أوكرانيا، أوضح أن هدفه الحقيقي يتجاوز أوكرانيا إلى ما أسماها “إمبراطورية الأكاذيب” الأمريكية، مهددًا بعواقب غير مسبوقة على من تسوّل له نفسه التدخل في شؤون روسيا. وفي خطاب آخر حول المظالم التاريخية المتفاقمة والاتهامات بمؤامرة غربيّة كبيرة ضد بلاده، ذكّر بوتين العالم يوم الخميس بأن روسيا “تظل واحدة من أقوى الدول النووية” وتمتاز بتفوقها في صناعة العديد من الأسلحة المتطورة.
يبدو أن خطاب بوتين الذي كان يهدف إلى تبرير غزو أوكرانيا قد اقترب من التهديد بحرب نووية، وهدفه المباشر واضح: منع أي تحرك عسكري غربي محتمل من خلال التحذير من أنه لن يتردّد في التصعيد. وقال الرئيس الروسي إنه بالنظر إلى الترسانة النووية الروسية “لا شك أن أي معتد تُسوّل له نفسه مهاجمة روسيا سيُهزم حتمًا وتنتظره عواقب وخيمة”، وأضاف: “لقد اُتخِذت كافة القرارات اللازمة بهذا الشأن”.
أدى تحرّك بوتين نحو أوكرانيا وتهديده النووي الخفي إلى تبدّد مفاهيم الأمن والسلام التي دافعت عنها أوروبا لعدة أجيال. ويبدو أن المشروع الأوروبي ما بعد الحرب – الذي عزز الكثير من الاستقرار والازدهار – قد دخل الآن مرحلة جديدة وغامضة من المواجهة.
في الفترة التي سبقت غزو بوتين لأوكرانيا، اتجه عدد من القادة الغربيين إلى موسكو في محاولة لثني بوتين عن قراره، حيث عرض الأمريكيون بشكل أساسي العودة إلى اتفاقيات الحد من التسلح، وأظهر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون استعداده للبحث عن بنية أمنية جديدة إذا كان بوتين غير راضٍ عن الهيكل القديم.
إن اعتقاد الرئيس ماكرون والمستشار الألماني أولاف شولتز أنه من الممكن إعادة بوتين إلى رشده يشير إلى الفجوة بين العالمين اللذين يعيشان فيهما. أشار ماكرون يوم الخميس إلى أن بوتين “قرر ارتكاب أخطر انتهاك للسلام والاستقرار في أوروبا منذ عقود”، وفي حديثه عن الأوكرانيين قال إن “حريتهم حريتنا”، لكن في الواقع لا يوجد أي دولة أوروبية – حتى الولايات المتحدة – مستعدة لأن تورط نفسها وتخاطر بشبعها من أجل هذه الحرية.
بعد حربه القصيرة في جورجيا في سنة 2008، وضمه شبه جزيرة القرم في سنة 2014، وتدبيره للحملة العسكرية في شرق أوكرانيا الذي أوجد منطقتين انفصاليتين في 2014، وتدخله العسكري في سوريا في سنة 2015، خلُص بوتين إلى أنّ استخدام روسيا لقواتها المسلحة لتحقيق أهدافها الاستراتيجية لن تردعه الولايات المتحدة أو حلفاءها الأوروبيون.
وقال السفير الفرنسي السابق ميشيل دوكلوس: “تريد روسيا انعدام الأمن في أوروبا لأن القوة هي ورقتها الرابحة. فلا ترغب روسيا في نظام أمني جديد فحسب، بل قرر بوتين منذ بعض الوقت أن المواجهة مع الغرب أفضل خيار له”. من جانبه، صرّح أستاذ الشؤون الدولية في كلية كينيدي بجامعة هارفارد ستيفن والت بأن الحديث عن صراع نووي هو أمر “مقلق”، وأضاف مستدركًا “لكنني أجد صعوبة في تصديق أنّ أي قائد عالمي، بما في ذلك الرئيس بوتين، سيُفكّر بجدية في استخدام الأسلحة النووية في أي من السيناريوهات المحتملة لسبب بسيط وهو إدراكهم للعواقب”.
مع ذلك، أظهر التاريخ أنّ الحروب الأوروبية التي تشارك فيها قوة عالمية كبرى يمكن أن تخرج عن نطاق السيطرة، لا سيما أنّ حرب طويلة في أوكرانيا يمكن أن تمتد في نهاية المطاف إلى بولندا أو المجر أو سلوفاكيا.
ستعيش أوروبا الوسطى ودول البلطيق، التي تشكّل فعليًا خط جبهة الناتو ضد روسيا، وسط أجواء من التهديد والترّقب لبعض الوقت. ومن بين السيناريوهات المشؤومة أنّ بوتين، الذي طالب بانسحاب الناتو من الدول التي كان يسيطر عليها السوفييت سابقًا قبل التوسع في سنة 1997، ربما يحوّل انتباهه في النهاية إلى دول البلطيق الصغيرة: ليتوانيا وإستونيا ولاتفيا التي تشكل الآن الخط الأمامي لدول الناتو. ومن جهته، أشار دوكلوس إلى أنّ هدف بوتين قد يتمثّل في إرساء حكومة روسية في كييف، وإذا نجح في ذلك، “فإنه يريد الشيء نفسه في دول البلطيق”.
انضمت الدول الثلاث، التي كانت خاضعة للاتحاد السوفيتي بعد الحرب العالمية الثانية، إلى الناتو في سنة 2004. وقد تعهد الرئيس بايدن بأن الولايات المتحدة وحلفاءها “سوف يدافعون عن كل شبر من أراضي الدول الأعضاء في حلف الناتو”، مما يعني أن أي هجوم روسي حتى على إستونيا الصغيرة يمكن أن يتسبب في اندلاع صراع كبير. مباشرة بعد الغزو الروسي، فعّلت دول البلطيق الثلاث وبولندا المادة 4 من معاهدة تأسيس التحالف التي تسمح للأعضاء بإجراء مشاورات عندما يشعرون أن سلامتهم الإقليمية مهددة، ونتج عن ذلك عقد الناتو جلسة طارئة.
تعكس مخاوف هذه الدول إلى أي أدّى يمكن للغزو الروسي زعزعة الأمن الأوروبي وتقويض الفرضيات الأوروبية بطرق يبدو من المؤكد أنها ستستمر. وفي حالة أوكرانيا، يعتقد والت أنه إذا كان “لروسيا وسائل أكبر للتأثير على نتيجة الحرب على المدى القصير” فإن هذه المعادلة ستبدأ في التحوّل إذا وصل بوتين إلى أماكن أبعد؛ وعند هذا الحد “تبدأ العزيمة والقدرات في التراجع لصالحنا”. وأضاف “إن احتمال موتي في حرب نووية لا يزال ضئيلا للغاية، حتى لو كان أكبر مما كان عليه بالأمس”.
اعتبرت الدول الأوروبية – وخاصة فرنسا – بشكل عام القناعة الأمريكية بأن الغزو الروسي أمر حتمي أمرًا مُقلِقًا للغاية، ولكن تم إخفاء الاختلافات في السعي وراء الدبلوماسية. في النهاية، باءت الجهود الدبلوماسية التي آمن بها الأوروبيون بالفشل لأن بوتين الذي يعزل نفسه أكثر فأكثر عن العامل نفسه في حالة غضب انتقامي، ويبدو أنه يرى نفسه يقف بمفرده ضد الولايات المتحدة وما يصورهم على أنهم “القوميون اليمينيون المتطرفون والنازيون الجدد” الذين تدعمهم “كبرى دول الناتو” في أوكرانيا.
تمحور غضب بوتين المتزايد على مدى العقدين الماضيين حول رواية الإذلال الغربي لروسيا بعد تفكك الاتحاد السوفيتي قبل 31 عاما وتوسّع الناتو اللاحق شرقًا لحماية دول مثل بولندا التي عانت خلال الحرب الباردة تحت حكم موسكو القائم على الهيمنة الشمولية. لكن من الواضح أن غضب الزعيم الروسي قد تطوّر إلى نظرة عالمية للظلم الأمريكي، ولم يتضح بعد ما الذي يعنيه هذا من الناحية العسكرية في السنوات المقبلة.
قال بوتين “خلّفت الولايات المتحدة في كل مكان فرضت فيه قانونها ونظامها جروحًا لا تلتئم وفاقمت لعنة الإرهاب والتطرف الدوليين”، وصفًا سلوك أمريكا في جميع أنحاء العالم بأنه “احتيالي”. وتابع “لذلك، يمكن للمرء أن يقول وبكل ثقة إن الكتلة الغربية المزعومة التي شكلتها الولايات المتحدة في مجملها تمثّل “إمبراطورية الأكاذيب”.
تضمن خطابه اتهامات لا أساس لها بارتكاب السلطات في كييف “الإذلال والإبادة الجماعية”، كما تضمن اعتراف روسيا باستقلال المناطق الانفصالية في دونيتسك ولوغانسك حتى تتمكن “الجمهوريات الشعبية” من طلب مساعدة روسيا التي ستدّعي بموجب ميثاق الأمم المتحدة بأن لها الحق في الاستجابة لطلب المساعدة بإرسال قوات “لنزع سلاح أوكرانيا”.
في النهاية، يبدو أنّ بوتين لم يتردد في شن حملة عسكرية على أوكرانيا واتهام السلطات في كييف بالتطّلع إلى “الحصول على أسلحة نووية” من أجل “مواجهة” حتمية مع روسيا. لكن يبدو أنه نسي أن أوكرانيا كانت تمتلك ترسانة نووية ضخمة قبل أن تتخلى عنها في سنة 1994 بموجب اتفاقية تُعرف باسم “مذكرة بودابست” كانت روسيا من بين الدول التي وقعت عليها ووعدت في المقابل بأنها لن تستخدم القوة أو التهديدات ضد أوكرانيا وستحترم سيادتها وحدودها الحالية.
المصدر: نيويورك تايمز