في تطور جديد لمطالبة أوكرانيا لتركيا بإغلاق مضيقي الدردنيل والبوسفور أمام مرور السفن الحربية الروسية، وجه الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي، الشكر للرئيس التركي على قراره بحظر مرور السفن الحربية الروسية إلى البحر الأسود.
في المقابل فإن الحكومة التركية، لم تؤكد ذلك ولم تعلن بشكل رسمي إغلاق مضائقها أمام سفن البحرية الروسية، بل إن ما جاء على لسان مسؤوليها الأيام الفائتة، كان تأكيدًا على التزام أنقرة باتفاقية مونترو التي تنظم الملاحة ومرور السفن في المضائق التركية.
وقد جدد الجدل المثار بشأن مطالبة كييف لأنقرة بإغلاق مضائقها التي تعد المنفذ الوحيد للدول المطلة على البحر الأسود، الحديث عن ذلك الصراع الدموي المرير الذي استمر لعدة قرون بخصوص السيطرة والتحكم في تلك المضائق، وهل يمكن أن يتجدد ثانية حال تتطور الصراع واتساع دائرة الحرب الراهنة.
ومع هذا الجدل ثارت التساؤلات عن موقف الحكومة التركية من إمكانية إغلاق مضيقي الدردنيل والبوسفور، وهل يمكن لأنقرة أن تتخذ مثل هذا القرار الذي يعد انحيازًا صريحًا لكييف في وقت تحرص فيه أنقرة على وزن مواقفها بين طرفي الصراع بميزان دقيق للغاية وتحرص على لعب دور الوسيط الساعي لإطفاء نيران الحرب، رغم موقفها المعلن بالتضامن مع أوكرانيا وإدانة الغزو الروسي.
مطالب أوكرانية
تجدد الحديث عن دور مضيقي البوسفور والدردنيل التركيين المتحكمين في حركة الملاحة بين البحرين المتوسط والأسود، في الأزمة الأوكرانية، بعد مطالبة كييف لأنقرة بإغلاق المضيقين أمام السفن الحربية الروسية.
واليوم السبت أكد الرئيس الأوكراني أن تركيا وافقت على منع مرور السفن الحربية الروسية إلى البحر الأسود، عبر مضيقي البوسفور والدردنيل، لكن أنقرة لم تؤكد ذلك.
وجاء إعلان زيلينسكي في بيان بعدما أجرى مكالمة هاتفية مع نظيره التركي رجب طيب أردوغان، وقال زيلينسكي: “أتقدم بالشكر للرئيس التركي والشعب التركي لدعمهما الكبير”، وأضاف “حظر مرور السفن الحربية إلى البحر الأسود وتقديم الدعم العسكري والإنساني الكبير أمر بالغ الأهمية اليوم”.
وقبيل ساعات من اندلاع الحرب، قال فاسيل بودنار سفير أوكرانيا في تركيا، إن كييف طلبت من تركيا إغلاق المضائق أمام السفن الحربية الروسية في حالة الحرب.
يهدف الطلب الأوكراني بإغلاق المضيقين، إلى محاولة منع روسيا من جلب المزيد من السفن الحربية إلى البحر الأسود
وقال السفير الأوكراني: “بعض بنود اتفاقية مونترو تمنح الحكومة التركية الحق في تحديد السفن التي يمكنها المرور وأيها لا يمكنها المرور عندما تكون هناك حرب في المنطقة”، وأضاف “سنطلب من تركيا النظر في إغلاق مضيق البحر الأسود أمام الدولة المعتدية في حالة حدوث غزو عسكري شامل أو عمل عسكري ضد أوكرانيا”.
وأعرب السفير الأوكراني عن مخاوفهم من أن تستخدم القوات الروسية للشواطئ الأوكرانية الواقعة على البحر الأسود في حالة نشوب حرب محتملة.
ويهدف الطلب الأوكراني، بإغلاق المضيقين، إلى محاولة منع روسيا من جلب المزيد من السفن الحربية إلى البحر الأسود، لكن في الأسابيع الماضية، عبرت ست سفن حربية وغواصة روسية المضيقين إلى البحر الأسود لإجراء مناورات بحرية.
وتشير بعض التقديرات إلى أن 90% من المعدات العسكرية والغذاء والوقود ومواد الدعم اللوجستي للجيش الروسي يتم نقلها بحريًا عبر مضيق البوسفور.
الموقف التركي من إغلاق المضائق
رغم إعلان الرئيس الأوكراني أن تركيا وافقت على منع مرور السفن الحربية الروسية إلى البحر الأسود، فإن الحكومة التركية لم تعلن ذلك رسميًا، ولم تشر وكالة الأناضول الرسمية إلى هذا الأمر في حديثها عن مكالمة أرودغان وزيلينسكي، موضحة أن تركيا تبذل جهودًا من أجل التوصل إلى هدنة في أقرب وقت للحد من إلحاق المزيد من الخسائر بأوكرانيا.
وكانت الخارجية التركية قد أعلنت، يوم الجمعة، أن أنقرة لا تستطيع تلبية الطلب الأوكراني بمنع السفن الحربية الروسية من الوصول إلى البحر الأسود عبر مضيقي البوسفور والدردنيل، وقال وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو، إنه وفقًا للقانون الدولي يتعين على أنقرة ضمان مرور روسيا عبر مضيقي البوسفور والدردنيل إلى البحر الأسود بشروط معينة.
وذكر جاويش أوغلو أنه سيظل مسموحًا للسفن الروسية بالعودة إلى موانئها في حالة الحرب، لكن أوغلو أشار إلى أن بلاده قد تغلق المضائق أمام السفن الحربية في حال أقرت بوجود حالة حرب بين روسيا وأوكرانيا، وقال: “الخبراء الأتراك يدرسون ما إذا كان هناك حالة حرب، وإذا تم إقرار ذلك بشكل قانوني، فسنمنع عبور السفن الحربية من المضيق.
ونوه إلى أنه “حتى لو أقرت تركيا بذلك، فيحق لروسيا استخدام المضائق وفقًا للمواد 19 و20 و21 التي أضافتها إلى اتفاقية مونترو، حيث تنص على السماح للسفن التابعة للبلد المطل على البحر الأسود بالعبور من المضائق، في حال طالبت بالعودة إلى قواعدها”.
دخلت المعارضة التركية على خط أزمة المضائق وطالبت بضرورة مناقشة هذه الأزمة داخل البرلمان، وقيام الحكومة بتوضيح موقف تركيا منها
كما قال مصطفى شنطوب رئيس البرلمان التركي إن أحكام معاهدة “مونترو” بشأن نظام المضائق واضحة ولا لبس فيها وأنقرة ستلتزم بها حرفيًا، وأضاف شنطوب أن أنقرة تراعي مبادئ وأحكام معاهدة مونترو بعزم وبشكل واضح، مشددًا على أن بلاده التزمت حرفيًا حتى اليوم بأحكام المعاهدة المذكورة، وستواصل ذلك بعد اليوم أيضًا.
يبدو من التصريحات التركية الرسمية، مدى حرص أنقرة على إعلان التزامها ببنود اتفاقية مونترو، لكن تلك التصريحات لم تغلق الباب تمامًا أمام الاستجابة لمطالب أوكرانيا بإغلاق المضيقين أمام البحرية الروسية حال تطور أوضاع الحرب.
كما دخلت المعارضة التركية على خط أزمة المضائق، وطالبت بضرورة مناقشة هذه الأزمة داخل البرلمان، وقيام الحكومة بتوضيح موقف تركيا منها، ودعت أحزاب الشعب الجمهوري والجيد والسعادة والديمقراطي والمستقبل إلى عقد اجتماع عاجل لأعضاء مجلس الشؤون الخارجية بالبرلمان، مع التشديد على ضرورة التقيد الحازم باتفاقية مونترو الخاصة بتنظيم المرور في المضائق، والتأكيد على الالتزام التركي ببنود القانون الدولي في تعاملها مع ما يختص بالمضائق وعدم الاندفاع في تأييد طرف على حساب آخر لما لذلك من تداعيات خطيرة على تركيا.
التاريخ الدموي للمضائق التركية
سعت روسيا منذ أن أصبحت قوةً كبيرةً في ظل القياصرة قبل قرون، إلى الوصول للبحار وخاصة البحار الدافئة، وخاضت ضد تركيا 15 حربًا على مدى ما يقرب من ثلاثة قرون لتحقيق هذا الهدف الإستراتيجي، وبات التحكم بمضيقي البوسفور والدردنيل، أو على الأقل ضمان حرية الملاحة للأسطول الروسي والبواخر الروسية، على رأس أولويات روسيا وأهدافها.
ويتسم تاريخ البوسفور والدردنيل بالدموية في ظل الصراع الروسي التركي للسيطرة على المخرج الوحيد للبحر الأسود.
كانت المضائق من أسباب دخول روسيا الحرب العالمية الأولى عام 1914، فعندما أسرعت روسيا بحشد قواتها على طول حدود النمسا وألمانيا، لمنع تقدمهما نحو تركيا وإغلاق المضائق أمامها أعلنت ألمانيا الحرب على روسيا وحليفتها فرنسا فدخلت إنجلترا الحرب إلى جانب روسيا وفرنسا.
وعند نهاية الحرب قلص المنتصرون هيمنة تركيا المهزومة على المضائق وقضت معاهدة سيفر بضرورة نزع سلاح المضائق وبحر مرمرة والجزر الواقعة في مدخلهما من جهة الجنوب، وتم تنظيم وضع المضائق مرة ثانية في معاهدة لوزان سنة 1923 التي نصت على حرية مرور السفن التجارية ووضعت قيودًا على مرور السفن الحربية إلى البحر الأسود.
وعندما ظهرت إيطاليا (موسوليني) سنة 1935 كقوة بحرية، رأت إنجلترا أن مصلحتها تتفق مع كل من تركيا وروسيا في تعديل معاهدة لوزان، وتم توقيع اتفاقية مونترو سنة 1936 لتنظيم الملاحة في المضائق التركية، وما زالت هذه الاتفاقية سارية المفعول حتى الوقت الحاضر.
اتفاقية مونترو
هي اتفاقية عقدت في مونترو بسويسرا عام 1936، منحت تركيا السيطرة على مضيقي البوسفور والدردنيل التركيين، وتنظم عبور السفن التجارية والحربية عبرهما، وتضمن الاتفاقية حرية مرور السفن المدنية في وقت السلم، وتقيد مرور السفن البحرية التي لا تنتمي إلى دول البحر الأسود.
وقد سمحت الاتفاقية لتركيا بإعادة تسليح المضائق، ونصت المادة 2 على “تمتع السفن التجارية بالحرية الكاملة للمرور والملاحة في المضائق في وقت السلم، ليلًا ونهارًا، وتحت أي علم وأي نوع من البضائع”، وتم إلغاء لجنة المضائق الدولية، وفوضت العسكرية التركية بالسيطرة الكاملة على المضائق وإعادة تحصين مضيق الدردنيل.
يمكن لتركيا أن تغلق مضائقها أمام السفن الحربية الروسية، لكن بعد ذلك سيكون عليها إغلاقها أمام أوكرانيا أيضًا، في حين أن الإغلاق الأحادي للمضائق سيعتبر قبولًا لطرف معين في الصراع
وسُمح لتركيا بإغلاق المضيق أمام جميع السفن الحربية الأجنبية في زمن الحرب أو عندما تكون مهددة بالعدوان، كما تم التصريح برفض عبور السفن التجارية التابعة لدول التي هي في حالة حرب مع تركيا.
ورقة رابحة
اعتبرت قناة “تي آر تي” التركية أن اتفاقية مونترو بمثابة ورقة تركيا القوية في الصراع الروسي الأوكراني، وأن أنقرة بموجب تلك الاتفاقية تبسط سيطرتها على المضائق المؤدية إلى البحر الأسود وتضبط قوانين العبور في حالة السلم والحرب، الأمر الذي يُعتبر أهم الأوراق في يد تركيا في الصراع بين روسيا وأوكرانيا المطلتين على البحر الأسود.
وأكدت القناة التركية الرسمية أن سيطرة تركيا، باعتبارها عضوًا بحلف الناتو، على مرور السفن بين البحر الأبيض المتوسط والبحر الأسود، تجعلها لاعبًا رئيسيًا محتملًا في أي صراع عسكري بين روسيا وأوكرانيا.
في المقابل ذهبت بعض المصادر الإعلامية التركية إلى القول إنه يمكن لتركيا أن تغلق مضائقها أمام السفن الحربية الروسية، لكن بعد ذلك سيكون عليها إغلاقها أمام أوكرانيا أيضًا، في حين أن الإغلاق الأحادي للمضائق سيعتبر قبولًا لطرف معين في الصراع.
مبررات الموقف التركي
يعتبر العديد من المحللين أن الغزو الروسي لأوكرانيا، وضع تركيا في موقف لا تحسد عليه، فالدولتان المتحاربتان جارتيها في منطقة البحر الأسود، وتربطها بهما علاقات ومصالح مشتركة لا يمكن التضحية بأي منها، الأمر الذي جعل المواقف المتشددة من جانب المسؤولين الأتراك مثار اهتمام وترقّب، فانحيازها لأحد الأطراف يعني تلقائيًا استعداء الطرف الآخر، والتضحية بمصالحها معه، وهو أمر مستبعد في ظل سعيها الدائم لتحسين علاقاتها وتصفية خلافاتها.
ويرى البعض أن التصريحات الحادة التي صدرت عن المسؤولين الأتراك تجاه التحرك العسكري الروسي ضد أوكرانيا، هي مجرد دعم معنوي للأخيرة، ولا يتوقعون أن تتخذ تركيا منحى أكثر حدة، يصطف بمقتضاه الأتراك إلى جانب أوكرانيا ضد روسيا بصورة علنية واضحة.
ولعل حرص أنقرة على عدم التضحية بعلاقاتها ومصالحها مع الطرفين قد بدا في إعلان أردوغان أن بلاده ستدعم كييف بكل ما أوتيت من قوة، لكنها لن تضحي بعلاقات التعاون القوية والمستقرة مع روسيا.
ومن ثم يأتي الموقف التركي من الطلب الذي تقدمت به أوكرانيا رسميًا بإغلاق المجال الجوي والمضائق البحرية التركية أمام روسيا، ومنع مرور السفن الروسية من مضيقَي البوسفور والدردنيل، متذرعًا بالقانون الدولي والالتزام باتفاقية مونترو.
ووفقًا لصحيفة “غارديان” فإن تركيا، المستفيد الرئيس من الغاز الطبيعي الروسي، تحاول استرضاء طرفي الصراع.
وبحسب موقع NAVAL NEWS المختص بأحداث الدفاع البحري، يمكن لتركيا عرقلة مرور السفن الحربية رغم عدم مشاركتها بنشاط في الحرب، ويعتبر طلب أوكرانيا ممكنًا لكنه خطير بالنسبة إلى تركيا.
ووفقًا لذات الموقع فحال وافقت تركيا على طلب أوكرانيا، يجب عليها تطبيق القاعدة على كلا الجانبين، ويستحيل بذلك نشر سفن حربية لـ”الناتو” إذا قرر ذلك، مؤكدًا أن انتشار روسيا في البحر الأسود اكتمل بالفعل، وبحال استخدمت تركيا سلطتها التقديرية لمصلحة أوكرانيا فقط، فقد تعترض روسيا وتتهم تركيا بانتهاك حيادها.
وسيكون إغلاق المضائق “محاولة عقيمة لردع روسيا”، لكن الموقع يرجح أن تظل تركيا على الحياد خلال الحرب.
الموقف الروسي
لم تصدر مواقف رسمية من موسكو بشأن مطالبة كييف بإغلاق المضائق التركية التي تعد المنفذ الوحيد لأسطول البحر الأسود الروسي إلى المياه الدافئة في البحر المتوسط، إلا أن بعض التقديرات الروسية أبدت تخوفها من إمكانية إغلاق تركيا المضيقين أمام السفن الروسية حال تصاعد حرب العقوبات.
استجابة تركيا لمطالب أوكرانيا وإغلاق مضائقها أمام سفن روسيا الحربية أمر يبدو مستبعدًا، لما يمثله من تصعيد ومواجهة مع موسكو لا ترغب أنقرة في خوضها
وتشير تلك التقديرات إلى وجود ورقة ضغط تركية متمثلة في نظام القواعد الدولية الخاصة بحركة السفن في مضيقي البوسفور والدردنيل الذي أقرته أنقرة بصورة فردية عام 1994، ويمنح هذا النظام الجانب التركي الحق في منع مرور جميع السفن عبر المضيقين حال القيام بعمليات حفر أو أعمال صحية أو في أثناء الفعاليات الرياضية وكل الحالات المماثلة الأخري، حسبما يقضي به المبدأ الرابع والعشرون للنظام، الذي تبنته تركيا متجاهلة معارضة الروس والعديد من دول العالم.
وتجدر الإشارة إلى أنه لم تسجل بعد أي سابقة متعلقة بتفعيل نظام عام 1994 الأحادي الجانب حتى اليوم.
استبعاد التصعيد
تشير التصريحات الرسمية من القيادة التركية، رغم الانحياز المعلن للجانب الأوكراني، إلى حرص أنقرة على إنهاء تلك الحرب بشكل سريع، فتواصل جهود الوساطة بين الجانبين وتسعى لبدء المباحثات والمفاوضات بين الطرفين.
وتدرك الحكومة التركية المرتبطة بعلاقات وثيقة مع جارتيها المتصارعتين في البحر الأسود، أن إطالة مدى الحرب وتوسع دائرتها سيكون لها آثار وتداعيات اقتصادية مدمرة ليس بوسع أنقرة تحملها في هذا التوقيت.
ومن ثم فإن استجابة تركيا لمطالب أوكرانيا وإغلاق مضائقها أمام سفن روسيا الحربية أمر يبدو مستبعدًا، لما يمثله من تصعيد ومواجهة مع موسكو، لا ترغب أنقرة في خوضها في إطار سعيها للحل والتهدئة وإطفاء نيران الحرب المستعرة على شواطئ البحر الأسود.
لكن أنقرة في ذات الأمر لا تلقي بورقة المضائق الرابحة وتبقي هذا الكارت في يدها، قد تشهره في وجه موسكو حال تصاعد أطماع الدب الروسي.