مع دخول الغزو الأوكراني يومه الرابع، على أساس حسم المعركة عبر تقنية الترويع والتمويه السوفيتية، يبدو أن الأوكرانيين وخاصة قادة الصف السياسي الأول بدأوا يستعيدون أنفاسهم، مقارنة بالليالي الأولى من الزحف البوتيني، تنفس زيلينسكي الصعداء، وبدأ يثق نوعًا ما فيمن ظن أنهم خذلوه، بدأ يمتص الصدمة ويوزع رسائل المدح لحلفائه بعد أن خال أن العاصمة سقطت من يديه، بدأ يوزع السلاح على المقاومين بيد ويستقبل بأخرى السلاح من “الأشقاء” على الحدود، الواصل لتوه بعد فشلهم “الموجع” في تمرير مشروع قرار يدين غزوات جارته الشرقية غير المأمونة.
المعارك آخذة في نسق الارتفاع، ولا يبدو أنها ستقف بعد أيام، رغم تلويح كييف بين الفينة والأخرى بالمفاوضات، بالتزامن مع الضغوطات الغربية الاقتصادية غير المسبوقة، فهل تبدد شبح انتصار الدبّ، كما كان مرسومًا له على الأقل؟ وهل تتحول كييف إلى مستنقع آسن لصيد رؤوس الروس أم من المبكر قول ذلك والتنبؤ به؟
بعد غضب.. زيلينسكي يشكر الغرب
المواجهات العنيفة لا تزال مستمرة في رابع أيامها بين القوات الأوكرانية والروسية، فروسيا تسعى للسيطرة على العاصمة كييف التي باتت المعارك وأعمال القصف العنيف في قلب أحيائها وبين سكانها، بالتزامن مع تعرُّض المناطق الأخرى شرقًا وجنوبًا وشمالًا للقصف وعمليات إنزال خاصة على المواقع الحساسة أهمها على قاعدة محطة تشيرنوبل النووية التي يجري الحديث عن تأمينها من الروس.
المحطة المعطلة قد تشكل أزمةً سياسيةً على الأزمة الأم وهي الغزو الروسي، لما تمثله من خطر إشعاعي ليس على أوكرانيا فحسب، بل على أوروبا لما تسببه من إشعاعات نووية مضرة للبيئة والبشر، خاصة إذا ما لم يتم تعهد المحطة بالصيانة الدورية من طرف الروس حاليًّا.
وهي الأزمة التي لم يفوتها الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي لهز صورة بوتين، كما هزت الحادثة سابقًا صورة غورباتشوف وربما كانت وراء الإطاحة بالاتحاد السوفيتي، في معرض ظهوره المستمر على منصة “تويتر”، مستغلًا الحادثة في استدرار عطف شعبه والأوروبيين، ومستلهمًا كارثة انفجار 1986.
Russian occupation forces are trying to seize the #Chornobyl_NPP. Our defenders are giving their lives so that the tragedy of 1986 will not be repeated. Reported this to @SwedishPM. This is a declaration of war against the whole of Europe.
— Володимир Зеленський (@ZelenskyyUa) February 24, 2022
هذا قبل فشل مجلس الأمن الدولي في التصويت على مشروع قرار يدين الغزو الروسي لأوكرانيا، بعد الفيتو الروسي، وهو ما يبدو أنه وراء الصيغة الجديدة للدول الغربية في التعامل مع الحليف الأوكراني بعد أن تم خذلانه علنًا بعد أن أعلنها زيلينسكي صراحة بأن الغرب تخلّى عنه وخاصة تحذيره ليلة التصويت الأممي من سقوط العاصمة كييف بيد العدو.
هذا الغضب سرعان ما بدأ في التبدد والتلاشي نوعًا ما مع امتصاص الضربات الأولى، وهي السياسة القديمة المتبعة من الروس ضمن ما يعرف بأسلوب الصدمة والترويع لإرباك الجانب المقابل، وقد اتبعها الروس خلال الحرب العالمية الثانية عند إسقاط ستالينغراد من النازيين زمن الزعيم ستالين.
نفس الأساليب القديمة في الخداع والتمويه التي يستحضرها بوتين، وقد بدا ذلك واضحًا منذ خطابه ليلة الاعتراف باستقلال جمهورتي إقليم دونباس، في خطاب متناقض، مؤكدًا عدم احتلال أوكرانيا تارة، وملمحًا إلى إمكانية نشر قوات أممية تارة أخرى، ومستدعيًا التاريخ والدين الأرثوذكسي لإضفاء الصبغة المقدسة على حربه، وهو نفس الأسلوب الذي استعمله في 2014 خلال حرب استرجاع شبه جزيرة القرم.
بالتوازي مع مضي أربع ليال من بدء “الزحف الروحي” المقدس، بدأت المواقف الأوروبية والأمريكية تتضح أكثر، خاصة مع صمود جبهة زيلينسكي في الداخل، فقد ظهر منذ البداية وطمأن شعبه وواصل على نفس الوتيرة في الظهور في كلمات رسمية ومن خلال بث على مواقع التواصل من الشوارع العامة، وخاصة رفضه منذ البداية الخروج من البلاد رغم الاقتراح الأمريكي، كلها كانت عوامل لبث روح الصمود وإحراج حلفائه أكثر وأكثر بعدما قال لهم صراحةً أنهم تخلوا عنه.
لم يستسلم زيلينسكي بل رفع لهجة تحديه، بعد فشل إدانة الغزو الروسي وطالب المنتظم الأممي بحرمان روسيا من التصويت بالمجلس، بموازاة هذا بدأ عمليًا التحرك الأوروبي من بولندا التي انتقدت أنانية وسلبية الأوروبيين تجاه الأوكرانيين وفتحت حدودها لأربعين ألف لاجئ، لتبدأ فعليًا المواقف في التبلور.
تسليم السلاح للمدنيين.. حرب العصابات
ربما لم تتصور روسيا أن تمضي ليالٍ دون السيطرة على العاصمة كييف من خلال سيناريوهات عدة حضرت لها مسبقًا، لكن المؤكد أن أيًا من تلك الخطط لم تنجح ثلاثة أيام بلياليها.
صحيح أن التوغل جار من محاوره الأربع الشمالية والجنوبية، في أكبر هجمة عسكرية على بلد أوروبي منذ الحرب العالمية الثانية، إلا أن الثابت أن خيار الحسم الفوري الروسي فشل في تحقيق هدفه، وهو الحل الذي يبقى دائمًا وإن تحقق بعد أيام، على غرار الغزو العراقي في 2003، فلن يضمن انتصار روسي نهائي لعدة اعتبارات.
فالحل العسكري لن ينجح في خلق الاستقرار الدائم الذي تبحث عنه روسيا، تمامًا كما أن تنصيب حكومة موالية لا يضمن ولاء الحكام الجدد، في ظل فوضى ليس من السهل القضاء عليها، خاصة مع وجود أكثرية صوتت للولاء للغرب، ناهيك بصعوبة استتباب الأمن على المنظور القريب.
تعمل المقاومة والقوات الأوكرانية على إبطاء تقدم القوات الروسية، من المحورين الآخرين بالجنوب من ناحية شبه جزيرة القرم والساحل الأوكراني
عامل آخر وهو الأهم، وهو اشتداد المقاومة الشعبية للمشروع الروسي لخلق بيئة موالية للكرملين، لا سيما فتح صناديق الذخيرة للمواطنين وإعلان التجنيد والنفير، هذا دون اعتبار جيش الاحتياط قرابة ربع مليون جندي، وما يقارب نصفهم ممن تلقى قبل مدة تدريبات على حرب العصابات والشوارع على الطريقة الفيتنامية لمقارعة الروس من شارع إلى شارع، ما سيخلق فارق قوة مع جيش نظامي يجهل تفاصيل التفاصيل، وبالتالي قد تتحول كل المدن الأوكرانية وأولها العاصمة لما لها من مكانة اعتبارية ورمزية كبيرة إلى بؤرة حقيقية لصيد فرائس الروس، وتحويل النزهة الروسية إلى مستنقع آسن لجنود بوتين.
ومعركة غروزني شاهد على خيبات روسيا بسبب حرب الكر والفر، وهذا ربما وراء ظهور قوات قاديروف، والدفع بها إلى المستنقع لمعاضدة مجهود الجيش (الذي قد يتولي مهام أخرى كحراسة المنشآت)، إذا استشعر الهزيمة.
السلاح مقابل “الفيتو”
طبعًا كل ما سبق سيتعزز، مع تواصل وصول السلاح والذخيرة وبدء التيار في السريان بين خط كييف والحلفاء في الناتو، بعد خيبة أمل، فها هي، لم تكد تمضي ساعات فقط على “الفيتو” الروسي، حتى سارعت هولندا بإرسال مئتي صاروخ طراز “ستينغر” المضادة للطائرات للجانب الأوكراني، وتعهد المملكة المتحدة بذات العدد من طراز “جافينال” المضادة للدروع.
ثم تداعى المستشار الألماني أيضًا، بإرسال ألف قطعة سلاح مضاد للدبابات ومئات من صواريخ “ستينغر”، ولا شك أنه تطور مزدوج، ماديًا ومعنويًا، والمرجح أنها لن تكون الأخيرة بعد القرار الرسمي الذي يبدو أنه متفق عليه، وهو الدعم بالذخيرة.
ويرجح الخبراء العسكريون أن “ستينغر” له قدرة فائقة على تدمير طائرات ودبابات، رغم موازين القوى من حيث العتاد وعدد الجند، لكنها ستكون قوة للمقاومة والتحمّل، ومحاولة إحباط تقدم القوات المقابلة، من المحورين الحاليّين، الشمالي حيث توقف المقاومة الأوكرانية، القوات الروسية على بعد 30 كيلومترًا، والمحور الشمالي الشرقي في مدينة خاركيف، وفق المعطيات الأخيرة.
ثم بالتزامن مع ذلك تعمل المقاومة والقوات الأوكرانية على إبطاء تقدم القوات الروسية، من المحورين الآخرين بالجنوب من ناحية شبه جزيرة القرم، والساحل الأوكراني، هذا سيعمل على مزيد من إضعاف خطوط إمداد الجيش الروسي نحو العاصمة، في حال إعادة التفكير في عمليات إنزال جوي بعد التصدي لمحاولة إنزال 60 عنصرًا روسيًا في كييف، وفق مختصين.
هذا الدعم المادي قد يتحول إلى دعم بشري من هنا وهناك، على غرار ما تم تداوله بخصوص إعلان أحد رجال الأعمال من أصل سوري بالتكفل على حسابه بتأسيس كتيبة مقاتله للدفاع عن الأراضي الأوكرانية، وبالتالي قد تصبح أوكرانيا بؤرة استقطاب للجماعات والفصائل المناهضة للوجود الروسي في استنساخ للنموذج السوري.
Tarek Al Jassem, a Syrian-Ukrainian businessman from Aleppo raised a platoon with his own money.
Translation:
My dear Ukrainians sons of my city Odessa. I am here and have not departed. We will defend our land. The Russians have destabilized the security of our homes and lands. pic.twitter.com/EyhWwnqrHq
— Mike (@Doranimated) February 26, 2022
هذا النموذج لا شك أنه لا يبشر بوضع نهاية سريعة للصراع، كما تريده روسيا والمتحالفون معها، وهناك تكفي الإشارة إلى ما عانته موسكو في التسعينيات من حربين دمويتين ذاق فيهما الروس الأمرّين، سيناريو لا يزال كابوسًا مزعجًا قد تضاف إليه كوابيس جرحها لا يزال حيًا في سوريا، وبدرجة أقل في طرابلس الغرب، وحتى حيث أفسدت المعارضات المسلحة وأجنحتها الأخرى من المقاومين الذين انخرطوا في رفض الوجود الأجنبي، بالتالي تعكير صفو السلطة القائمة حتى لو نجح بوتين في تنصيبها في إنجاز أي مهمة.
سيناريوهات لا شك أنها ستطيل أمد الأزمة، حتى إن لم تصبح حربًا عالميةً ثالثةً، فإنها ستعيد بقوة أجواء الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي، وربما تشتد أكثر على خط التماس بين المحورين، آخذة شكل حروب جديدة، لكن هذه المرة قد تصطبغ بطابع اقتصادي، بمزيد من عزل روسيا وتشديد العقوبات عليها، كشكل من أشكال الضغط لجرها للقبول بالتفاوض.