ترجمة وتحرير: نون بوست
يعد التقارب بين الصين وروسيا أكبر مشكلة استراتيجية تواجهه الولايات المتحدة. حيث أن هذان البلدان لا تجمعهما علاقة محبة أو ثقة، رغم ذلك يمكن أن يحققا فوائد كبيرة من هجمتهما المتزامنة على النظام العالمي القائم. وفي وقت تتسابق فيه موسكو وبكين لتغيير موازين القوى في جانبي أوراسيا، يبدو أنهما تتعاونان بأشكال أخرى مثيرة للقلق.
إذ أن الصين رفضت التنديد بالغزو الروسي لأوكرانيا. بل إنها في بداية هذا الغزو اتهمت الولايات المتحدة وحلفائها بإذكاء نيران الحرب. ويأتي هذا الموقف الصيني الرافض للتنديد، كجزء من العلاقات الأوسع بين موسكو وبكين، حيث تستخدم كل منهما أساليب جديدة وقديمة من أجل تغيير الوضع القائم في العالم. وفي كانون الثاني/ يناير 2022 كانت الصين قد دعمت بشكل علني التدخل الروسي في كازاخستان لقمع الثورة الملونة في بلد يتواجد في باحتهما الخلفية.
وفي بداية شباط/ فبراير أصدر الرئيسان بوتين وجينبينغ بيانا مشتركا مطولا، يشيدان فيه بالجهود الرامية لحصر نفوذ أمريكا في محيطها المباشر، وينتقدان تحالفات واشنطن معتبرين أنها من بقايا الحرب الباردة، ويدافعان في نفس الوقت عن نموذجهما في الحكم المتسلط، ويعلنان أن الصداقة الصينية الروسية لا حدود لها.
وقد جاء هذا البيان بعد سلسلة من خطوات تعزيز التعاون بين البلدين، في المجالات العسكرية والاقتصادية والدبلوماسية والتكنولوجية. واليوم يجب أن نتوقع المزيد من التعاون بين الجانبين، حيث أن الغزو الروسي لأوكرانيا أجج التوترات بين بوتين والغرب، وعمق حاجة روسيا للدعم الصيني.
حذر في عام 1904 من أن العصر المقبل قد يشهد مخاطر كبيرة وصراعا للسيطرة على أوراسيا والمحيطات القريبة منها
هذا التقارب الصيني الروسي يمنح كلتا القوتين المزيد من المساحة للتحرك، وذلك من خلال تضخيم مشكلة واشنطن مع الجبهتين: حيث أن الولايات المتحدة تواجه الآن خصوما أكثر شراسة في مسرحين منفصلين تماما، هما شرق أوروبا وغرب المحيط الهادي، تفصل بينهما آلاف الأميال. ورغم أن التعاون الصيني الروسي قد يكون مشحونا ومتناقضا، فإنه يزيد من احتمالات أن يقرر أكبر خصمين للولايات المتحدة الاندماج في قوة واحدة تمثل المحور الاستبدادي. وحتى في حال عدم تحقق هذا السيناريو، فإن الوضع الحالي أحيى الكابوس الجيوسياسي الأكبر في العصر الحديث، وهو وجود توافق بين قوى استبدادية تسعى للسيطرة في منطقة أوراسيا، التي تمثل قلب المسرح الإستراتيجي للعالم.
هذا الكابوس يعود بنا إلى كتابات عالم الجغرافيا السياسية هالفورد ماكيندر، الذي حذر في عام 1904 من أن العصر المقبل قد يشهد مخاطر كبيرة وصراعا للسيطرة على أوراسيا والمحيطات القريبة منها. هذه النبوءة ظهرت ملامحها جليا خلال كارثة الحربين العالميتين ثم الحرب الباردة التي تلتهما. واليوم تعود رؤية ماكيندر لتطفو على السطح في القرن الواحد والعشرين، حيث أن خصوم الولايات المتحدة يعملون على إنشاء نظام عالمي مختلف كليا، في قلبه توجد منطقة أوراسيا.
قلب العالم
يعتبر الكثيرون من الدارسين أن ماكيندر هو أب علم الجغرافيا السياسية. وقد ذكر هذا الرجل في نظرية “قلب الأرض” الشهيرة وفي مؤلفات أخرى، أن ثلاث ثورات وضعت أوراسيا في قلب مسرح الشؤون الدولية. الأولى هي استعمار أفريقيا وجزء كبير من آسيا، ما يعني أن القوى الامبريالية لم يعد لها مجال لمزيد التوسع، وهو ما يؤدي إلى نشوب معارك شرسة بين القوى العظمى في أوراسيا التي تمثل قلب الجغرافيا السياسية للعالم. والثورة الثانية هي انتشار السكك الحديدية، ما سمح ببسط المزيد من النفوذ حول مساحات واسعة وخلق فرص جديدة للغزو في الأراضي الشاسعة في أوراسيا. والثالثة هي الدول غير الليبرالية التي تسخر اقتصادياتها الصناعية لدعم أنظمتها الاستبدادية في الداخل وتوسعها في الخارج. وإذا تمكنت هذه الدول من السيطرة على أوراسيا، فإن تسيدها للعالم يصبح مسألة ممكنة.
كما أشار ماكيندر إلى أن منطقة أوراسيا تتحكم في غالبية السكان والقوى الصناعية في العالم. وأي قوة أو تحالف يمكنه بسط سيطرته على الموارد في هذه المنطقة سينجح في بناء قوة بحرية لا مثيل لها، ويبدأ بتوسيع إمبراطوريته عبر البحر. وبالتالي فإن التطورات الجيوسياسية المقبلة يمكن أن تثبت أو على الأقل تؤشر إلى مصير هذه المنطقة الشاسعة من العالم. إذ أن محاولات الأنظمة الاستبدادية للتوسع، سوف تخلق صراعات بين تحالفات تجمع بين قوى تفصل بينها البحار، وهي بالأساس المملكة المتحدة والولايات المتحدة، في مواجهة تحالفات أخرى لدول بات وجودها مهددا بسبب هيمنة أوراسيا.
وفي الواقع كانت توقعات ماكيندر خاطئة في جزء منها، حيث أن التحديات العظيمة التي واجهتها منطقة أوراسيا في البداية لم تأت من روسيا كما توقع هو، بل من ألمانيا واليابان. هذا دفع الخبير الاستراتيجي نيكولاس سبايكمان، لاعتبار أن أهم المسارح في هذه المنطقة الشاسعة ليس قلبها أو بالتحديد روسيا، بل جانباها أوروبا وشرق آسيا.
ولكن رغم ذلك يجب الإقرار بأن ماكيندر كان صحيحا في توقعه لمسألة أساسية، حيث أن المواجهات الثلاثة الكبرى التي شهدها القرن العشرين، وهي الحرب العالمية الأولى والثانية والحرب الباردة، كانت صراعات بين دول استبدادية سعت للسيطرة على أجزاء واسعة من أوراسيا والمحيطات التابعة لها، في مواجهة تحالفات أخرى برمائية، قادتها لندن ثم واشنطن في مرحلة أخرى، في مسعى لاحتواء الطرف الأول.
في الوقت الحالي من الواضح أن الصين وروسيا لم تنخرطا في أي عمل على نطاق يذكرنا بأهوال الحرب العالمية الثانية
وقد تغيرت ملامح هذه المنافسة مع مرور الوقت، حيث أن ألمانيا واليابان اعتمدتا أسلوب الغزو المباشر، وذلك من خلال استغلال التكنولوجيات الجديدة كالدبابات والطائرات والغواصات وحاملات الطائرات، من أجل فرض قوتها على نطاق غير مسبوق. وخلال الحرب الباردة، أدى التوازن النووي إلى اعتماد الاتحاد السوفياتي على التهديد العسكري والمؤامرات السياسية والحرب بالوكالة. ولكن رغم ذلك فإن الرهان ظل على حاله، حيث أن صانعي السياسة الأمريكية من وودرو ولسون وحتى جورج كينان، فهموا أن النظام العدائي والاستبدادي في أوراسيا قد يقود في النهاية إلى إعادة تشكيل العالم. واليوم بعد استراحة قصيرة تلت نهاية الحرب الباردة، تعود والولايات المتحدة لمواجهة النسخة الجديدة من الكابوس القديم.
حسابات الهيمنة
هذا التحالف الحالي بين الصين وروسيا، يعيد إلى الأذهان بشكل طبيعي التحالف الصيني السوفيتي أثناء الحرب الباردة. ولكن التشبيه الأصح في هذه الحالة هو التحالف الألماني الياباني قبل الحرب العالمية الثانية. إذ أنهما رغم التحالف الرسمي بينهما، كانت العلاقة بين برلين وطوكيو تشهد انقسامات وانعداما للثقة، واختلافات جوهرية في الرؤية طويلة المدى. رغم كل ذلك فإن كلا من الطرفين أظهر التزاما بإسقاط النظام العالمي القائم، واستفاد كل منهما من الفوضى التي خلقها تقدم الطرف الآخر.
وفي الوقت الحالي من الواضح أن الصين وروسيا لم تنخرطا في أي عمل على نطاق يذكرنا بأهوال الحرب العالمية الثانية. ولكن كلا البلدين يعبران بوضوح عن استيائهما من النظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة، لأن النفوذ الأمريكي يقطع الطريق أمام سعيهما لكسب المزيد من السيطرة على الشأن الدولي، ولأن المبادئ الليبرالية المكرسة في النظام العالمي الحالي تتناقض بشكل جذري مع الأنظمة غير الليبرالية التي بناها بوتين وجينبينغ في بلديهما. وربما تكون الصين وروسيا بصدد تحقيق أجندات مختلفة، ولكن اجتماعهما يمثل تحديا شاملا للتوازنات الجيوسياسية في أوراسيا والعالم بأسره.
موسكو وبكين تتقاربان وتتعاونان بشكل مخيف
من المؤكد أن القدرات الصينية تفوق الروسية، وهو ما يجعل مساعي الأولى أكثر جرأة، إذ أن بكين تهدف إلى إقصاء القوة الأمريكية من المياه الآسيوية، وذلك من أجل توسيع دائرة النفوذ الصيني ليشمل الجزء الغربي من المحيط الهادئ. وفي نفس الوقت تحاول الصين الوصول إلى أوراسيا عبر الاستثمارات ومشاريع البنية التحتية، مثل مبادرة الحزام والطريق ومشروع طريق الحرير الرقمي، لتمديد نفوذها الاقتصادي والسياسي والعسكري حتى جنوب شرق آسيا وآسيا الوسطى ومناطق أبعد. وباختصار فإن الصين تبحث عن الهيمنة الهجينة في البر والبحر.
هذه الحسابات والتكتيكات الصينية تتقاطع مع جهود روسيا لمراجعة الوضع القائم. إذ أن بوتين على مدى سنوات كان يسابق لإعادة فرض السيادة الروسية على آسيا الوسطى وحتى شرق أوروبا. ويبدو اليوم أن بوتين يسعى لتحجيم وجود الناتو في أوروبا وإعادته إلى حدود الحرب الباردة وتقويض علاقة هذا الحلف بواشنطن. وبما أن روسيا استعادت قوتها وتجاوزت فترة ما بعد الحرب الباردة، فإنها الآن تسعى لفرض قوتها في مناطق عديدة مثل القطب الشمالي وشمال الأطلسي والشرق الأوسط ومناطق أخرى ساخنة في العالم. ورغم أنه لا أمل لموسكو في إقامة نظام عالمي تكون هي محوره، فإنها يمكنها على الأقل إضعاف النظام القائم، بالتزامن مع تعرضه لهجمات من الجانب الصيني.
وتماما كما كان الحال في القرن الماضي، فإن محاولات التوسع في أوراسيا كانت دائما تعكس تحولات وتوازنات القوى الدولية. واليوم يبدو أن تركيز بكين على بناء قوتها البحرية، والاعتداءات الروسية المتكررة ضد جيرانها غير المنضبطين لإرادتها، وجهود ط البلدين لتغيير التوازنات العسكرية في مناطق هامة مثل شرق أوروبا وغرب آسيا، كلها خطوات تؤشر على أن القوة الخشنة لم ينتهي زمنها، ولم تحل محلها القوة الناعمة.
كما أن كلا البلدين يستخدمان المزيد من الأساليب الجديدة لإضعاف الخصوم وتوسيع الهيمنة: وعلى سبيل المثال تنفذ روسيا الهجمات السيبرانية وحملات التضليل في الإعلام الرقمي، وبالتوازي مع ذلك تعتمد الصين على مشاريع البنية التحتية، مثل مساعيها للسيطرة على شبكات الجيل الخامس في العالم، وعديد الإجراءات غير العسكرية التي تمنحها تفوقا في العالم.
مجتمعان ومنفصلان
في ظل سعي كل من بكين وموسكو للإطاحة بالنظام العالمي القائم، فإنه من غير المفاجئ أن تتقارب القوتان ويظهر تعاون بينهما. إذ أن البلدان تبادلا بحسب بعض التقارير النصائح حول كيفية إدارة شبكة الانترنت والسيطرة على الأصوات المعارضة في الداخل، كما أنهما عملا في إطار منظمة شانغاي للتعاون، على تعزيز الأنظمة الدكتاتورية الصديقة لهما في آسيا الوسطى. إضافة إلى ذلك فإن المعاملات الثنائية في التجارة والمالية والطاقة شهدت انتعاشا، وقد وفرت كل منهما للأخرى دعما دبلوماسيا حاسما في مجلس الأمن في الأمم المتحدة. ويظهر تنامي التعاون العسكري بين البلدين من خلال المناورات المشتركة في مياه آسيا الوسطى والبلطيق وجنوب الصين، إلى جانب تبادل الأسلحة وتعزيز التعاون في مجال التكنولوجيا الدفاعية، وهو أمر يتم غالبا في كنف السرية.
التواجد العسكري لروسيا في حدودها الشرقية قرب الصين، يعتبر في الوقت الحالي هو الأقل منذ وصول القوات النازية لأعتاب موسكو في 1941
إلا أن التعاون الرسمي بين بكين وموسكو لا يعتبر معيارا كافيا لتقييم الشراكة بينهما، إذ أن كل منهما يساعد الآخر أيضا من خلال السعي وراء أهدافه الفردية. فعندما تعتمد الصين أو روسيا التضليل الإعلامي والفساد الاستراتيجي، للتدخل في شؤون المجتمعات الليبرالية، أو لدفع المنظمات الدولية للتقارب مع أنظمة غير ليبرالية، فإنهما بذلك تساهمان في صعود الاستبداد، وأي جهد يقوم به أحد البلدين يستفيد به الآخر. ومن هنا يتضح أن التقارب بين البلدين مفيد لهما على الصعيد الاستراتيجي قبل كل شيء.
ويبدو أن بكين وموسكو تعلمتا درسا مهما من هزيمة الاتحاد السوفيتي في الحرب الباردة. إذ أنه ليس من الحكمة أن تتنافس مع واشنطن في جبهة، وتصنع لنفسك في نفس الوقت أعداء في جبهة أخرى. وبناء على هذا الدرس اقتنعت كل من روسيا والصين بضرورة أن تسندا بعضهما على امتداد حدودها المشتركة في أوراسيا، حتى تتفرغ كل منهما لإضعاف النظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة.
والتواجد العسكري لروسيا في حدودها الشرقية قرب الصين، يعتبر في الوقت الحالي هو الأقل منذ وصول القوات النازية لأعتاب موسكو في 1941، وهو ما يشير إلى أن غياب التوترات بين بكين وموسكو يسمح للأخيرة بالتركيز على تهديد الغرب.
وبنفس الطريقة فإن وجود تهديدات متزامنة من الصين وروسيا يمنع واشنطن من تركيز قوتها على واحد منهما فقط، وهذا الانقسام يجعلها في حالة ضعف ومعرضة للتهديد من خصمين. ورغم أن هذه العلاقة الصينية الروسية ليست تحالفا بالمعنى الكامل للكلمة، فإنها في نفس الوقت لا تحتاج لأن تكون كذلك من أجل التسبب بصداع لواشنطن.
وتكشف نظرة واقعية على الشراكة بين البلدين عديد العقبات. فالصين وروسيا من غير المرجح أن تتدخل إحداهما للدفاع عن الأخرى في حال نشوب حرب مع واشنطن، رغم إمكانية وجود تعاون سري بينهما، من خلال مشاركة المعلومات الاستخباراتية أو الدفع بتعزيزات للتخويف، ولكن لن يكون هنالك تدخل من أي منهما لمنع الولايات المتحدة من هزيمة الطرف الآخر. كما أن روسيا التي مضت في غزو أوكرانيا وتواجه الآن عقوبات ضخمة من الغرب، لن تجد الدعم الاقتصادي الذي تحتاجه في بكين، والسبب هو أن الصينيين لا يرغبون في التسبب لأنفسهم بعقوبات جديدة.
إضافة إلى ذلك فإن التوترات لا تنتهي في آسيا الوسطى، حيث يتنافس البلدان على النفوذ: وفي القطب الشمالي على سبيل المثال تعتبر روسيا القوة المحلية، والصين مجرد متطفل. وفي أفريقيا تتسبب موسكو باضطرابات تجعل الصين عاجزة عن تحقيق الفوائد المالية التي ترجوها من استثمارها في هذه القارة. وفي المحصلة قد يكون تصادم المصالح بين البلدين مدمرا، لأن روسيا لن تكون سعيدة بنظام عالمي تقوده الصين، وهو حلم الرئيس شي جينبينغ.
ولكن في الوقت الحالي، من الواضح أن معضلة واشنطن في أوراسيا سوف تزداد تعقيدا، والتهديدات على النظام العالمي تزداد جرأة، في وقت يظهر فيه الخصوم المزيد من العدائية. ورغم أن غايات شي جينبينغ وفلاديمير بوتين قد تكون متباينة، فإن أهدافهما المرحلية قد تبقيهما في حالة تقارب في السنوات المقبلة.
تفكيك مثلث القوى العظمى
قد تقدم لنا دروس التاريخ حلا لهذه المعضلة، وذلك من خلال الإجابة البديهية: وهي قيام واشنطن بتنازلات وتفاهمات دبلوماسية من أجل تأليب موسكو وبكين ضد بعضهما. ولكن في الواقع هذه الإجابة خاطئة.
رغم أن هذه الفكرة قد تكون مغرية للخبراء في واشنطن وأوروبا، فإن التوترات الصينية الروسية ليست بالحدة الكافية للتسبب بالقطيعة مثلما حدث في ستينات القرن الماضي، وأي محاولات لشراء تعاون واشنطن يمكن أن تكون نتائجها عكسية.
وقد أوضح بوتين أن ثمن تجنب التصعيد مع واشنطن هو التخلي عن تفاهمات ما بعد الحرب الباردة في أوروبا. وحتى إذا حصل بوتين على مراده، فإنه سيعتقد أن سياسة الضغط أثمرت، وبالتالي عليه أن يضغط أكثر.
إذن لا يوجد حل دبلوماسي للانسجام الصيني الروسي لا يتضمن إضعاف موقف الولايات المتحدة في أحد طرفي المنطقة الأوراسية. ومن الصعب أن نتخيل قدرة الولايات المتحدة على تحمل ضربة بهذا الحجم.
إذا كانت واشنطن ترغب في تغيير استراتيجيتها تجاه موسكو، فيجب عليها أولا أن تثبت أن سياسة بوتين التي تقوم على التقارب مع بكين ليست ناجحة
هنالك درس آخر أكثر أهمية يقدمه لنا التاريخ، وهو أن الحل الأمثل قد يكون الوقوف في وجه التحديات في طرفي أوراسيا. ففي 1940 و1941، رفض الرئيس فرانكلين روزفيلت نصيحة من مستشاريه حول ضرورة إرضاء اليابان والتركيز على المعسكر النازي، فهو كان مدركا للخطر المميت الذي يمثله كل منهما. ولاحقا خلال أول عقدين من الحرب الباردة، عملت الولايات المتحدة على احتواء الصين والاتحاد السوفياتي، بعد أن اقتنعت بعدم وجود وسيلة للفصل بينهما في الوقت الراهن.
الولايات المتحدة تواجه الآن نسخة جديدة من الكابوس القديم
تمتلك الولايات المتحدة وحلفاؤها القوة الكافية لانتهاج أسلوب المواجهة المزدوجة واحتواء الخصمين. وقد أشار مستشار الأمن القومي جايك سوليفان إلى أنه حتى في حال المزيد من الاندماج بين الصين وروسيا، فإن الولايات المتحدة وحلفاؤها يمتلكون القدرات الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية الكافية للمواجهة، في أوروبا وآسيا والمحيط الهادي.
ولكن المؤكد أن كلفة هذا التحدي ستكون كبيرة بالنسبة لواشنطن وأصدقائها. إذ أن مجابهة تحديات مزدوجة سوف تتطلب برامج إعادة تسليح ضخمة، ومزيدا من التعاون في مواجهة هذا التهديد الذي يمثله تحالف الأنظمة الدكتاتورية في موسكو وبكين.
ولتوضيح هذه الفكرة، يمكن القول إن اعتماد أسلوب الحرب الباردة في فترة ما بعد هذه الحرب الباردة، وتخصيص نفس الكم من الاستثمارات والاستنفار، لن يكون خيارا ناجحا. بل إن الحل الأفضل لمواجهة هذه التحديات المتمثلة في كتلة أنظمة دكتاتورية في قلب أوراسيا، يكون عبر العلاج التقليدي: تعزيز الصلابة الجماعية للبلدان الموجودة على أطراف هذه الكتلة الاستبدادية.
هذه الاستراتيجية يمكن أن تشجع التعاون الصيني الروسي في البداية، ولكن التاريخ أظهر لنا أن التفرقة بين حليفين متناقضين يمكن أن يمر أولا عبر الدفع بهما في أحضان بعضهما. وخلال الخمسينات كانت إدارة أيزنهاور قد اعتبرت أن سياسة الضغط ستكون مناسبة لكسر التحالف الصيني السوفياتي أكثر من سياسة الإغراء، لأنها في النهاية ستجعل الطرف الأضعف، وهو بكين حينها، في موقع التبعية للطرف الأقوى وهو موسكو، وهذا في النهاية سيكون مزعجا للطرفين. وكان اعتقاد أيزنهاور صحيحا، حين توقع أن واشنطن ستتمكن مستقبلا من استغلال التوترات بين خصميها، بعد أن تثبت التجربة أن التحالف بينهما ليس بالفكرة المريحة.
وإذا كانت واشنطن ترغب في تغيير استراتيجيتها تجاه موسكو، فيجب عليها أولا أن تثبت أن سياسة بوتين التي تقوم على التقارب مع بكين ليست ناجحة، حتى يشعر الروس أن البديل الوحيد عن تحسين العلاقات مع الغرب هو تبعية للصين التي تزداد غطرستها مع تزايد قوتها.
إذا تم إيصال هذه الرسالة بقوة، فإنها سيكون لها تأثير بناء على التفكير الروسي سواء في عهد بوتين أو من سيأتي خلفه. هذا النجاح يبدو الآن حلما بعيد المنال، وشرط تحققه قد يكون خوض حربين باردتين بشكل متزامن، الآن بعد أن أظهر التقارب الصيني الروسي بما لا يدع مجالا للشك حجم هذا التحدي الأوراسي، وشروط النجاح في مواجهته.
المصدر: فورين أفيرز الأمريكية