ترجمة وتحرير: نون بوست
لماذا تفكك نظام ما بعد الحرب الباردة في قتال عنيف حول أوكرانيا؟ لا شك الآن أن هذا النظام قد انهار وأن أوروبا ستتحمل مرة أخرى حدود الانقسام بين الكتل المتمركزة حول موسكو وواشنطن، مثلما حدث في سنة 1989. مما لا شك فيه أيضا أن مصدر هذه المأساة ينبع من إصرار فلاديمير بوتين على القضاء على استقلالية أوكرانيا – التي تمنحها حرية غير مقبولة (في نظر الرئيس الروسي) للاختيار بين روسيا والغرب، هو السبب الرئيسي وراء العنف القائم.
بما أنني شهدت تفكك الخط الفاصل القديم للحرب الباردة أثناء دراستي في الخارج في برلين الغربية في سنة 1989، من الصعب أن نفهم أن نسخة حديثة منه ستعود اليوم فقط نحو الشرق، حيث تلعب دول البلطيق دور برلين الغربية. بالتأكيد لم أكن أتوقع عودة هذا الانقسام في حياتي.
لم أكن أملك أدنى فكرة أن الشخص الذي سيعيد إحياء هذا الانقسام، في سنة 1989، لم يكن بعيدا عني في شقتي الطلابية في برلين المقسمة، وبالتحديد بوتين الأصغر الذي كان ضابطا في الاستخبارات الروسية في مدينة درسدن بألمانيا الشرقية. وبعد عقود، أصبح بوتين بصفته رئيسا لروسيا غير مستعد للتسامح مع سيادة أوكرانيا بسبب الدور الذي لعبته تلك الدولة فيما يعتبره فلاديمير أكبر كارثة في القرن العشرين: وهو انهيار الاتحاد السوفيتي.
قبل 30 سنة، جعل قرار كييف بالانفصال تفكك الاتحاد السوفيتي المنهار بالفعل أمرا لا رجعة فيه. وهذا الأسبوع، أدى قرار بوتين بإرسال جيش ضخم إلى أوكرانيا إلى زوال السلام المنهار بالفعل بعد الحرب الباردة. وكانت هذه الأحداث بمثابة إعلان لحقبة كان يُعتقد فيها – وقد ثبت الآن أنه خاطئ – بأن أوروبا لن تشهد حربا برية كبرى مرة أخرى.
ما هو الدور المحوري الذي لعبته أوكرانيا بالتحديد؟ هناك العديد من الطرق للإجابة على هذا السؤال، مثل الغوص بعمق في أسئلة الهوية والجنسية الروسية والأوكرانية، أو العودة إلى الألفية الماضية. وتعتبر الإجابات التي تنتجها هذه الأساليب مهمة بالطبع.
لكن هناك طريقة أخرى غير معروفة للكشف عن سبب أهمية أوكرانيا الكبرى – التركيز ليس على أوكرانيا نفسها، وإنما على الطريقة التي أدى بها الخلاف بين الولايات المتحدة وروسيا حول مصيرها ما بعد الاتحاد السوفيتي إلى تفاقم التوترات بين موسكو وكييف، مما أسفر عن اندلاع الصراع الحالي.
من أجل فهم كيفية تطور هذا الصراع المشؤوم، من الضروري إعادة النظر إلى فترة التسعينات. وبصفتي أستاذة تاريخ، يتضح من الأدلة أنني رفعت السرية (إلى جانب مواد أخرى محفوظة) عن حقيقة أن القادة الغربيين كانوا يدكون أن إنشاء مرسى لأوكرانيا المستقلة حديثا كان مفتاح السلام الأوروبي الدائم. ومع ذلك، لم يتمكنوا من وضع سياسة لتحقيق هذا الهدف.
بدأ القتال حول مصير أوكرانيا حتى قبل انسحابها من الاتحاد السوفيتي – وخلف الأبواب المغلقة أثار هذا الموضوع الانقسام في لإدارة جورج هربرت واكر بوش. وبينما كان الاتحاد السوفيتي ينهار في سنة 1991، نصح وزير الدفاع الأمريكي ديك تشيني رئيسه بأن تبذل واشنطن كل ما في وسعها لتسريع هذا الانهيار. ولكن وزير الخارجية الأمريكي، صديق بوش القديم وشريكه في التنس جيمس بيكر، اختلف بشدة حول هذا الأمر.

جادل بيكر بأنه من الضروري الحفاظ على وحدة الاتحاد السوفيتي – العدو الأكبر للولايات المتحدة – وإلا فإن ترسانته المكونة من 35 ألف سلاح نووي سوف تتفكك بطرق لا يمكن التنبؤ بها بشكل خطير. كما حذر بيكر الرئيس بوش آنذاك “لا توجد قضية خارجية أخرى تستحق اهتمامك”.
انقسمت إدارة بوش بشدة بسبب اختلاف وجهات نظر تشيني وبيكر. وفي الوقت الذي تتقاتل فيه الشخصيات البارزة حول الإجراءات التي ينبغي اتخاذها، أجرى الأوكرانيون استفتاء في الواحد من شهر كانون الأول/ ديسمبر 1991 حول ما إذا كانوا سيصبحون دولة مستقلة. كانت النتيجة غير متوازنة: في ظل مشاركة 84 بالمئة من المواطنين في الاستفتاء، صوّت أكثر من 90 بالمئة لصالح الاستقلال. وتراوحت نسبة الدعم للانفصال بين 54 بالمئة في القرم وأكثر من 95 بالمئة في المقاطعات الغربية وفي كييف. وحتى في دونيتسك ولوهانسك والمناطق الشرقية المجاورة، بلغت نسبة التصويت لصالح الانفصال أكثر من 80 بالمئة.
نصح سفير الولايات المتحدة في موسكو آنذاك، روبرت شتراوس، واشنطن بأن هذه النتيجة كانت مدمرة للروس – مشيرا إلى أن “انهيار الشيوعية قد لا يكون أكثر الأحداث ثورية في سنة 1991 بالنسبة لروسيا، وإنما فقدان شيء يعتقده الروس من جميع الأطياف السياسية على أنه جزء من جسدهم السياسي وقريب من القلب هو انفصال أوكرانيا”.


في غضون ذلك، صُدم الغرب عندما أدركوا أن الدولة المستقلة حديثا أصبحت على الفور ثالث أكبر قوة نووية في العالم – أكبر حتى من بريطانيا أو فرنسا – بفضل الترسانة النووية السوفيتية الموجودة على أراضيها. ولا تزال موسكو تسيطر على هذه الأسلحة، لكن هذا لم يقلل من شعور بيكر بالذعر من الحيازة المادية للعديد من الأسلحة النووية في دولة تمر بتحول مضطرب. كانت روسيا تعاني من اضطراباتها الخاصة، ولكن على الأقل كانت مأهولة بالأعداء الذين تعرفهم واشنطن، لذلك في رأيه يجب على موسكو أن ترث كل تلك الترسانة.
حاول برنت سكوكروفت، مستشار الأمن القومي الأمريكي، إقناع بيكر بأن الأسلحة النووية المنقسمة بين الأوكرانيين وغيرهم من غير القادرين على إطلاقها قد تكون أقل تهديدا للولايات المتحدة من القوة السوفيتية الأصلية الخاضعة لسيطرة مركزية. ولكن بيكر لم يقتنع بذلك. وفي أواخر سنتي 1991 و1992، شرع في إجراء بعثات دبلوماسية متكررة وعاجلة إلى الاتحاد السوفيتي المنهار في معركة لضمان ظهور دولة نووية واحدة: وهي روسيا.

تسببت هزيمة بوش في الانتخابات الرئاسية الأمريكية سنة 1992، بعد فترة ولاية واحدة فقط، في إجهاض جهود بيكر، لكن هذا الشعور بوجود ضرورة ملحة تواصل خلال الفترة الانتقالية الرئاسية وازداد تعقيدا، حيث أصبح احتمال توسيع الناتو ليشمل دول ما بعد ألمانيا الموحدة، الذي نوقش كمجرد تكهن في عهد بوش، حقيقة واقعة. ولاحقًا ظلت هاتان المسألتان راسختين في ذهن بيل كلينتون، بعد فوزه في الانتخابات.
أراد الرئيس الأمريكي الجديد إيجاد طريقة لجعل أوكرانيا تشعر بالأمان الكافي للتخلي عن الأسلحة النووية على أراضيها، ولكن إذا وافق على رغبات الدول الواقعة بين ألمانيا وأوكرانيا في الانضمام إلى الناتو، فقد يكون لذلك تأثير عكسي على كييف.
حذّر كلينتون زملاءه من قادة الناتو في كانون الثاني/يناير 1994 من أنه “قد تم تجاهل دول الاتحاد السوفيتي السابق. . . بشكل تام تقريبًا على مدار هذا النقاش بأكمله حول مكان توسع التحالف. لماذا يجب أن نرسم الآن مسارا جديدًا عبر أوروبا بعيدًا قليلاً عن الشرق؟ لن يؤدي ذلك إلا إلى حجب أفضل مستقبل ممكن لأوروبا، مما يعني جعل أوكرانيا ديمقراطية، وإقامة حكومة ديمقراطية في كل دولة من الدول المستقلة حديثًا في الاتحاد السوفيتي السابق، ليكونوا جميعهم ملتزمين. . . بإرساء الأمن المشترك. ولا ينبغي لهم أن يفعلوا أي شيء لإعاقة هذا الاحتمال”.

على ضوء كل هذه الاعتبارات، قرر كلينتون أنه بدلاً من رسم مسار جديد بين الدول الأوروبية التابعة للناتو وغير التابعة للناتو بعد فترة وجيزة من محو خط الحرب الباردة، عليه طمس أي انقسامات مستقبلية. بناءً على نصيحة وزير دفاعه ورئيس هيئة الأركان المشتركة، ويليام بيري وجون شاليكاشفيلي، وافق كلينتون على إنشاء كيان جديد يسمى الشراكة من أجل السلام تضم دول وسط وشرق أوروبا ودول الاتحاد السوفيتي السابقة على حد سواء.
من خلال الشراكة من أجل السلام، تمكن أعضاء الناتو المحتملون من اكتساب خبرة في تنفيذ عمليات حفظ السلام وغيرها من المشاريع العسكرية المشتركة مع الغرب، ومع مرور الوقت تمكنوا من التمتع بالضمانة التي تقدّمها المادة 5، والتي تَعِدُ بأن أي هجوم على أحد الدول الأعضاء يعتبر بمثابة هجوم على الجميع. واعتماد مثل هذا النهج التدريجي القابل للتطبيق على نطاق واسع لم يكن يتطلب من الولايات المتحدة لا رسم مسار جديد عبر أوروبا ما بعد الحرب الباردة ولا ترك حرية التصرّف لأوكرانيا ومعظم جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق الأخرى.

لم تكن الشراكة بنفس شعبية فكرة الانضمام إلى الناتو، لكن مواطني أوروبا الوسطى والشرقية وافقوا على دعمها والانضمام إليها على مضض، وذلك لأنهم استوعبوا ما قاله كلينتون عن أوكرانيا، كما فعلت روسيا وأوكرانيا الشيء ذاته. وهكذا لم يستطع الناتو تحقيق التوسّع الذي حقّقته الشراكة من أجل السلام وهو أمر حظي بأدنى قبول من جميع أصحاب المصلحة. لقد مكّنت هذه السياسة من تجنب رسم مسار جديد عبر أوروبا، وسمحت للناتو بالتوسع ووفرت ملاذا لأوكرانيا، وكل ذلك كان مقبولا من قبل روسيا.
في المقابل، بعد التوصل إلى حل سياسي عملي، استبعدت واشنطن هذا الحل بسبب خيارات الرئيس الروسي بوريس يلتسين التي تلحق الأذى ببلده والطريقة التي اتحد بها مع أولويات كلينتون المتغيرة. قرر يلتسين شن غزو وحشي لمنطقة الشيشان الانفصالية في أواخر 1994، مما أرعب سكان أوروبا الوسطى والشرقية، الذين كانوا قلقين من أن إعادة إحياء التكتيكات السوفيتية قد يجعلهم مهدّدين. أدى التضخم المتفشي وانتصار بعض المتطرفين المناهضين للإصلاح في الانتخابات إلى تقوية الإحساس بأن التحول في روسيا كان يخرج عن مساره.
في غضون ذلك، سلّطت إراقة الدماء في البلقان الضوء على الضرورة الملحة للإجابة على جميع مسائل الأمن الأوروبي وخلقت خلافات جديدة بين واشنطن وموسكو حول كيفية التعامل مع الصراع. وقد ساهم فوز الحزب الجمهوري الأمريكي في انتخابات الكونغرس النصفية في 1994، بفضل اعتماد “عقد مع أمريكا” يدعو إلى توسيع أسرع للناتو، في دفع كلينتون للاعتقاد بأن المسألة تتمحور حول تحقيق أعلى نسبة تصويت للفوز بفترة ولاية ثانية كرئيس في سنة 1996.

أخيرا وليس آخرًا، أتى الضغط المستمر على أوكرانيا لنزع السلاح النووي أخيرًا بثماره. مقابل الحصول على ضمانات تحفظ سلامة أراضيها، التي كانت مُدوّنة في مذكرة بودابست لسنة 1994، وافقت كييف إما على تدمير أسلحتها النووية أو نقلها إلى روسيا مما جعلها أقل أهمية بالنسبة للغرب. ونتيجة لكل هذه التطورات أصبح كلينتون على استعداد أكبر لرسم مسار جديد عبر أوروبا.
لاحظ الأعضاء المتمرّسون في مجلس الأمن القومي الأمريكي ووزارة الخارجية الأمريكية المزاج المتغير للرئيس، وأكدوا أن أوروبا الوسطى والشرقية قد عانتا من الكثير من الأخطاء التاريخية وطال بالفعل انتظارهما للانضمام إلى الغرب. تمكن هؤلاء الأعضاء من إقناع كلينتون بتغيير استراتيجية توسّع الناتو. بدلاً من ضمّ عدد كبير من الدول تدريجيا من خلال الشراكة من أجل السلام، منح التحالف الضمان الذي تقدّمه المادة 5 إلى عدد صغير من الدول. وفي حين أن دوافعهم كانت جيدة، إلا أن أسلوبهم في التوسع عمد إلى فصل دول الكتلة السوفيتية السابقة التي تمكنت من تأمين المادة 5 عن الدول التي لم تشارك في هذه العملية، مثل أوكرانيا.

في حين قدّمت الشراكة من أجل السلام طرقًا متعددة ومختلفة لإضافة الأعضاء، أصبح الناتو يسعى إلى ضم الكل أو لا شيء. تمثّلت إحدى النتائج في أن الخيارات الأمريكية لإدارة الطوارئ بعد الحرب الباردة، المتمثّلة في إقامة مجموعة متنوعة من العلاقات مع الناتو لعرضها على كل من دول أوروبا الوسطى والشرقية وما بعد الاتحاد السوفيتي، قد أصبحت محدودة بشكل كبير في الوقت الذي كان فيه فلاديمير بوتين يصعد سلم السلطة في روسيا.
في سنة 1989، ترك بوتين منصبه في الاستخبارات السوفيتية في ألمانيا الشرقية المنهارة وعاد إلى مسقط رأسه في الاتحاد السوفيتي المنهار أيضًا، وهناك وجد عملا مع أناتولي سوبتشاك، وهو أحد أساتذته السابقين من جامعة ولاية لينينغراد، والذي كان في طريقه ليصبح عمدة المدينة التي سيطلق عليها مرة أخرى اسم سانت بطرسبرغ.
في سنة 1989، عاد بوتين من المنصب الذي كان يشغله في جهاز الاستخبارات الروسي في ألمانيا الشرقية المنهارة إلى مسقط رأسه في الاتحاد السوفيتي الذي يعاني من نكسة كذلك. وجد عملاً مع أناتولي سوبتشاك، أحد أساتذته السابقين من جامعة ولاية لينينغراد، والذي كان في طريقه ليصبح عمدة مدينة ستُطلق عليها مرة أخرى سانت بطرسبرغ.
أصبح بوتين مساعده الذي لا غنى عنه، حيث أدار العلاقات بين السلطات المنتخبة وبقايا جهاز الاستخبارات الروسي ورؤساء الجريمة المحليين. وقد تمكن من كسب مكانة أساسية من خلال تقديم ولاء لامتناهي لعمدة سانت بطرسبرغ. وحتى بعد تصويت على إقالة سوبتشاك في سنة 1996 وتعرّضه لخطر قانوني بسبب ارتكابه جرائم فساد مزعومة، وفّر بوتين حماية له، حيث ورد أنه نظّم خروجًا سريعًا للعمدة السابق إلى فرنسا في تشرين الثاني/نوفمبر 1997 على متن طائرة خاصة.
أثار هذا الولاء إعجاب نائب رئيس أركان يلتسين، أليكسي كودرين، الذي عمل أيضًا مع العمدة في فترة معينة وكان يعرف بوتين. من خلال كودرين وجهات اتصال أخرى، حصل بوتين على منصب في إدارة يلتسين وانتقل إلى موسكو – ولم يخيب آمالهم في أنه سيحول ولاءه المطلق للرئيس الروسي.
أصبحت درجة إخلاصه لسيده الجديد واضحةً عندما أطلق المدعي العام الروسي، يوري سكوراتوف، تحقيقًا حول الأنشطة الفاسدة لعائلة يلتسين وشركائها المقربين. باءت الجهود التي بُذلت من وراء الكواليس لردع المدعي العام عن إجراء هذا التحقيق بالفشل. وفي مطلع سنة 1999، بدا الأمر كما لو أن سكوراتوف تمكن من جمع أدلة مهمة تدين يلتسين. فجأة، ظهر شريط فاضح يُزعم أنه لسكوراتوف عاريا مع امرأتين نشر في جميع أنحاء البلاد على شبكة التلفزيون الحكومية. وقد أكد بوتين شخصيا صحة الفيديو على الهواء.
من خلال جهود الولاء، صعد بوتين بسرعة في سلم السلطة، وأصبح رئيسًا للوزراء في آب/أغسطس 1999، ورئيسًا بالنيابة بعد استقالة يلتسين غير المتوقعة والفورية في كانون الأول/ديسمبر 1999، ورئيسا بعد الانتخابات التي نظمت في آذار/مارس 2000. وبمجرد توليه المنصب، لعبت المظالم التي تعرض لها بوتين دورا كبيرا في تشكيل معالم سياساته. لم ينس بوتين أنه عندما اتصل بالقوات العسكرية السوفيتية المجاورة في سنة 1989 لطلب دعم مسلح للدفاع عن موقعه في المخابرات السوفيتية، لم يستطع الحصول عليه. كان الشخص الذي رد على الهاتف قد رفض الموافقة على طلب بوتين دون إذن صريح من موسكو – ثم أضاف: “ظلت موسكو صامتة”.
ظلت تلك العبارة تطارد بوتين وساهمت في ترسيخ قناعة شخصية لديه. وقال في السنة التي أصبح فيه رئيسًا لروسيا، “هناك شيء واحد فقط ينجح في مثل هذه الظروف – أن تستأنف الهجوم. ينبغي أن تضرب عدوك أولاً، وتضرب بقوة حتى لا يتمكن خصمك من الوقوف على قدميه”. من وجهة نظره، “كنا سنتجنب الكثير من المشاكل إذا لم يقم السوفييت بمثل هذا الخروج المتسرع من أوروبا الشرقية”.

يعتقد بوتين أنه لا ينبغي أن يُسمح للجمهوريات السوفيتية ببساطة بإعلان نفسها دولًا مستقلة ذات سيادة. على حد تعبيره في سنة 2014، يعني استقلال هذه البلدان أن “ملايين الأشخاص ناموا وهم ينتمون إلى بلد ليستيقظوا ويجدوا أنفسهم في بلدان مختلفة، أي أنهم أضحوا بين عشية وضحاها أقليات عرقية”.
حسب تقديرات مركز بيو للأبحاث، بلغ عدد الروس الذين يعيشون خارج روسيا في جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابقة الأخرى حوالي 25 مليونًا. في نظر بوتين، جعل هذا الروس “أكبر مجموعة عرقية في العالم كانت ضحية تقسيم الحدود”. وقد استبعد من تفكيره دور عمليات الترحيل القسري وإعادة التوطين التي قام بها جوزيف ستالين في خلق هذا الواقع.
مع اقتراب الذكرى الثلاثين لانهيار الاتحاد السوفيتي واستقلال أوكرانيا، من الواضح بعد فوات الأوان أن بوتين قرّر نيابة عن هاته المجموعات الروسية العرقية إنهاء قدرة أوكرانيا على التقرب من الغرب. لقد شعر أن كييف، بعد أن فشلت في الحصول على مكانة في النظام الأمني الذي نشأ بعد الحرب الباردة، سيكون لديها خيارات قليلة إذا كانت روسيا ستستخدم القوة لتأكيد هيمنتها.
ربما أراد بوتين استغلال حالة الضعف التي يعاني منها الغرب في الوقت الحالي في ظل انشغال الولايات المتحدة بالخلافات التي تعاني منها على الصعيد الوطني، وحالة الاستنزاف التي تعاني منها بريطانيا بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي وفضائح رئيس الوزراء بوريس جونسون، وانتخابات فرنسا، وتنحي المستشارة السابقة أنجيلا ميركل – التي نشأت في ألمانيا الشرقية وتتحدث الروسية بطلاقة، والخروج من منطقة الراحة الخاصة به.
في الوقت الراهن، جاءت الحرب ومن الواضح أنه في سنتي 1989 و1990، وسط كل الاحتفالات، لم نعر اهتماما لموضوع مهم. لفترة طويلة، وضّحنا كيف أدى محو خط تقسيم الحرب الباردة إلى خلق مجتمعات أكثر حرية وخيارات حياة أوسع لدول وسط وشرق أوروبا ودول ما بعد الاتحاد السوفيتي الجديدة. وقد ركزنا على أولئك الأشخاص الذين يمثل محو هذا الخط انتصارًا لهم. بالتأكيد هذه هي ذكرياتي عن ذلك الوقت السعيد.
لكن إذا نظرنا إلى الوراء، يبدو أنه كان من السهل جدًا نسيان الأشخاص الذين خسروا تلك الحرب – وقبل كل شيء بوتين. كان من السهل أيضًا أن ننسى أن روسيا، على الرغم من كل المشاكل التي أعقبت الانهيار السوفيتي، ظلت قوة عالمية تملك مجالا مترامي الأطراف وموارد طبيعية وفيرة وجيشا ضخما وترسانة نووية استراتيجية. وكان من السهل تجاهل مدى جدية تعامل بوتين مع الصراع مع الغرب بشأن مستقبل أوكرانيا، ومدى رغبته في إعادة إنشاء خط سيطرة موسكو.

يعني اندلاع الحرب في أوكرانيا من بين عواقب أخرى كثيرة أننا بحاجة إلى النظر في نهاية الحرب الباردة من منظور جديد. قد لا تكون نتائجها الأكثر ديمومة، على نحو مأساوي، التفاؤل الذي رأيته في أعين الكثيرين الذي كان مصحوبا وإنما الضرر الذي ألحقه فلاديمير بوتين. من أجل تخفيف خيبة أمله بشأن فقدان الاتحاد السوفيتي لمكانته على الصعيد العالمي وقبل كل شيء خسارته لأوكرانيا، شن حربًا برية كبيرة في أوروبا – واضعا حدا لعهد السلام ما بعد الاتحاد السوفيتي.
المصدر: فاينانشيل تايمز