بات من المعلوم أن الحرب التي شنها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على أوكرانيا إنما هي لإعادة كييف إلى البيت الروسي ومنعها من السباحة في الفلك الغربي أو الانضمام للحلف الأطلسي، وفي حال استطاع بوتين تحقيق أهدافه فإنه سيشكل حائط صد يحول بين بلاده وحلف شمال الأطلسي، كما أن دولًا من أوروبا ستكون تحت التهديد والضغط الروسي الدائم وهي دول بحر البلطيق التي ستصبح تحت مرمى الروس.
يمشي بوتين اليوم وفق خطوات رسمها مسبقًا للتعامل مع التغيرات العالمية المستمرة، ولأنه يعتبر أن بلاده لا يمكن إلا أن تكون قطبًا من أقطاب هذا العالم وليست تابعًا أو دولةً غير ذات قيمة، أصبح يتحرك منذ استلم الحكم عام 2000 ضمن إعادة بلاده إلى حجمها الحقيقي في العالم، أي أنها إمبراطورية تحكم ما حولها وتسيطر على العديد من المقدرات في هذا العالم، وهو ما بات جليًا من إعادة تشكيل بوتين لما يسمى “العالم الروسي” والأحلاف المناوئة لحلف الشمال الأطلسي “الناتو”.
الخطوات البوتينية التي تسير عليها روسيا تشكل تحديًا كبيرًا في إطار “تشكيل عالم جديد” يقوم على سياسة الأقطاب المتعددة، وقد وضحت هذه الأفكار من خلال “العقائد” التي يعلنها بين الفينة والأخرى أو يتم تحديثها، وهي على سبيل المثال العقيدة العسكرية الروسية أو عقيدة السياسة الخارجية الروسية وعقدية أمن المعلومات الإلكترونية الروسية، ويتم تعديلها أو تحديثها وفقًا للمتغيرات العالمية الجديدة أو المتغيرات الإقليمية التي تواجه موسكو.
في هذا التقرير سنسلط الضوء على أهم العقائد السياسية والعسكرية التي أقرتها موسكو وكيف تطورت في عهد الرئيس الروسي الحاليّ فلاديمير بوتين.
العقيدة العسكرية الروسية
بعد انهيار الاتحاد السوفيتي بات ملحًا التفكير في تطوير عقيدة عسكرية لمواءمة التغيرات الجارية عالميًا خصوصًا بعد حل حلف وارسو وتوسع حلف الناتو وتقدمه من الحدود الروسية بعد ضم دول من شرق أوروبا وبحر البلطيق، أقر الرئيس الروسي بوريس نيكولايفيتش يلتسن عقيدة عسكرية في 1993، واعتبرت العقيدة العسكرية تلك أن الأخطار الرئيسية التي تهدد الأمن القومي الروسي تتمثل في توسع حلف الناتو والحروب الإقليمية في الفضاء السوفيتي السابق واندلاع الحركات الانفصالية.
وعلى الرغم من توصل روسيا والناتو إلى توقيع اتفاق شراكة عام 1997 ينظم العلاقة بين الطرفين ويحد من أخطار الناتو، فإن ما حدث من تدخل مباشر لبلدان الناتو في البلقان وقصف مقاتلات الناتو لصربيا عام 1999، كان في مقدمة الأسباب التي دعت الرئيس فلاديمير بوتين إلى إعادة النظر في المذهب العسكري الروسي وتغيير جزء من أحكامه على ضوء المتغيرات الناجمة عن إغراق الناتو في “استهانته” بالدولة الروسية.
عام 2000 صدرت عقيدة عسكرية جديدة تمحورت حول استعادة الدولة، وبدت في جوهرها عقيدة دفاعية كما أنها ركزت على تعزيز الأمن على الحدود الجنوبية للدولة الروسية، والتأكيد على وصف الناتو بأنه العدو الرئيس لموسكو.
عاد بوتين لتحديث صياغة جديدة لعقيدة جيشه وتمحورت حول عقيدة فرض الاحترام، وأكدت مشروعية تأسيس جيش قوي ودعم القوات المسلحة بأحدث الأسلحة والتقنيات العصرية على ضوء المتغيرات الجديدة وتوازن القوى لمواجهة التحديات الجيوسياسية من جانب الولايات المتحدة وحلف الناتو.
بعد شهور من الحرب الجورجية الروسية التي غيرت الكثير من خطوط التماس والآليات العسكرية، كما أنها بينت مكامن الضعف لدى القوات الروسية، صادق الرئيس الروسي السابق ديمتري ميدفيديف عام 2010، على عقيدة جديدة صنفت حلف شمال الأطلسي “الناتو” مجددًا على أنه أكبر تهديد لأمن البلاد، وعللت الوثيقة تصنيف الحلف بأنه أكبر تهديد لأنه يسعى إلى عولمة مهماته، منتهكًا بذلك معايير القانون الدولي، واقتراب البنى التحتية العسكرية للحلف من الحدود الروسية، خصوصًا بتوسيع عضويته في شرق أوروبا.
تطرقت الوثيقة أيضًا إلى تطور محتمل للنظام الإستراتيجي المضاد للصواريخ وكذا تطور متوقع للأسلحة الإستراتيجية التقليدية العالية الدقة، وهي أسلحة تريد موسكو من واشنطن أن تفرض عليها نفس القيود المفروضة على الأسلحة النووية، واعتبرت الوثيقة أن “إنشاء ونشر أنظمة إستراتيجية مضادة للصواريخ يقوض الاستقرار العالمي”، ما يتمثل بالدرع الصاروخية الأمريكية في أوروبا الشرقية.
عام 2014، أقرّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، العقيدة العسكرية الجديدة للجيش الروسي، وقد أتت هذه العقيدة الجديدة أو المحدّثة بعد الثورة الأوكرانية وضم روسيا للقرم، وهو ما أدى لتصاعد التوتر في المنطقة، وتزايد حدّة التوتر بين الناتو وموسكو من أجل أوكرانيا التي صارت تدور في الفلك الغربي بعد ثورتها التي أطاحت بحلفاء موسكو.
اعتبرت العقيدة أن توسّع حلف شمال الأطلسي خطر خارجي رئيسي، كما أبقت العقيدة على الطابع الدفاعي لسياستها مع التشديد على “عدم التدخل عسكريًا إلا بعد استنفاد كل الحلول غير العنيفة”، وبدت السياسة المصاغة مرتاحة بأن احتمال شن حرب واسعة ضد البلاد صار ضعيفًا، وأدرجت العقيدة العسكرية الروسية كذلك مفهوم “الردع غير النووي” الذي يقضي ببقاء القوات العسكرية التقليدية في حالة استعداد عالية، بحيث تحتفظ موسكو لنفسها بالحق في استخدام ترسانتها النووية إذا تعرضت هي أو أحد حلفائها لعدوان.
وتضمنت عقيدة 2014 لأول مرة بندًا يدل على أن “القطب المتجمد الشمالي من ضمن المصالح القومية لروسيا، وعلى القوات الروسية أن تحافظ على هذه المصالح”، وتصنف العقيدة الروسية أنظمة دفاع الناتو والولايات المتحدة من بين المخاطر الأمنية الرئيسية على موسكو، وتسمح العقيدة بلجوء موسكو إلى استخدام الأسلحة النووية للرد على الهجوم عليها أو على حلفائها بسلاح مماثل.
العقيدة الروسية للسياسة الخارجية
لا يكفي التركيز على السياسة الخارجية في روسيا لأن السياسة الخارجية هي مرآة للسياسة الداخلية ولعلها تكون مدفوعة بها، وعلى هذا الأساس كانت تصدر السياسات الخارجية لموسكو، ولعل هذه السياسة تتركز في مضمونها على الدعوة إلى عالم متعدد الأقطاب، وتحقيق روسيا لمكانتها كقوة عظمى وتوطيدها.
ظلت العديد من الموضوعات التي تجسد المصالح والأهداف الرئيسية للسياسة الخارجية لروسيا ثابتة منذ ولادة الدولة ما بعد السوفيتية، وتكررت هذه الموضوعات بشكل معتاد في معظم وثائق السياسة الخارجية والأمن منذ إصدار مفهوم السياسة الخارجية الأول عام 1993، وكان أكثر هذه الموضوعات إلحاحًا هو إعطاء روسيا الأولوية لعلاقاتها مع ما يسمى دول العالم الروسي، الذي تم إدراجه كأهم أولوية إقليمية لروسيا.
كما اعتبرت روسيا تاريخيًا آسيا الوسطى منطقة نفوذها ورقعة شطرنج تسعى موسكو للسيطرة عليها أو استمالتها، ولعل ذلك الشعور أتى من كون أراضي روسيا الواسعة المنبسطة ضعيفة الدفاعات الجغرافية، عرضة للحروب الخارجية ممن يحاولون التغلب على روسيا.
وهنا شعرت روسيا بالحاجة إلى إنشاء مناطق عازلة حولها وتوسيع المساحة المحيطة بها عبر السيطرة على ما حولها من دول وهو ما يحصل اليوم في أوكرانيا وحصل قبل ذلك في بيلاروسيا، أضف إلى ذلك دول آسيا الوسطى تلك الجمهوريات التي تتبع لروسيا عبر حكامها، كما مثلت حرب بوتين في جورجيا عام 2008 وضم شبه جزيرة القرم عام 2014 تحولات مفاجئة في السياسة الخارجية للاتحاد الروسي.
كانت الدعوة إلى عالم متعدد الأقطاب حيث يتم حل المشكلات الدولية من خلال التعاون متعدد الأطراف بدلًا من الإجراءات الأحادية القطبية الأحادية أمرًا ثابتًا في مفاهيم السياسة الخارجية الروسية منذ عام 2000، لذلك اعتبرت روسيا نفسها على الدوام مساوية للولايات المتحدة وأوروبا وليس لديها نية في أن تكون تحت قيادتهما، ولطالما دافعت عن موقعها كلاعب إستراتيجي مستقل، وذلك على اعتبار أن روسيا ذات ثقل تاريخي من مملكة روما الثالثة إلى مملكة عموم السلافية وصولًا إلى كونها مركز الشيوعية العالمية إلى اعتبارها مركزًا للأوراسية هذه الأيام.
اتسمت المرحلة الأولى من سياسة بوتين الخارجية بعدم الثقة في الغرب، وقد نشأ العداء بين روسيا والغرب من عدة خلافات: دور الغرب في رابطة الدول المستقلة والمستقبل المجهول لبلدان البلطيق، إضافة إلى الخلافات بشأن طرق الطاقة والمشاكل المتعلقة بمعاهدة تخفيض الأسلحة الإستراتيجية (ستارت)، بموازاة ذلك كان بوتين يعمل على تنمية العلاقات مع الصين وكوبا وكوريا الشمالية، وكذلك مع العراق وإيران، التي كانت جميعها دولًا تثير قلقًا بالغًا بالنسبة للغرب، وكل ذلك كان خلال عامي (2000-2001).
كان بوتين يحاول رسم نهج مختلف لتحقيق هدفه المتمثل في جعل روسيا دولة عظيمة، عبر التغييرات الجذرية التي حدثت بين المرحلتين الأولى والثانية، والمرحلة الثانية والثالثة من سياسة روسيا الخارجية حتى عندما فكر في الانضمام إلى الناتو كدولة عضو، وعندما عرض المساعدة على الولايات المتحدة في الحرب على الإرهاب ومنح الولايات المتحدة الوصول إلى القاعدة العسكرية السوفيتية السابقة، كان الرئيس الروسي يريد من خلال ذلك نشوء قوتين عظمتين من شأنهما تشكيل العالم وحمايته مع احترام المصالح الحيوية لبعضهما البعض.
لكن عندما أدرك بوتين أن الغرب لن يقبل بروسيا على قدم المساواة، تبنى تغيير البرنامج السياسية الخارجية وعاد إلى نهج أكثر بعدًا وحذرًا وحازمًا.
منذ أن أصبح رئيسًا مرة أخرى عام 2012، اختار بوتين مسارًا للسياسة الخارجية تم تعريفه على نطاق واسع على أنه مختلف تمامًا عن المسار الذي اتبعه خلال فترتي ولايته الأولى كرئيس وعن السياسات الخارجية للإدارات السابقة، مثلت هذه السياسة إعادة توجيه دولية فيما يتعلق بدورة السياسة الخارجية الأطلسية الموالية للغرب، ويومًا بعد يوم أصبح بوتين غير راضٍ بشكل متزايد عن الطريقة التي يتصرف بها الغرب على الساحة الدولية.
عام 2016 أعلن بوتين عن “عقيدة” جديدة لسياسة بلاده الخارجية شملت عدة نقاط أهمها أن موسكو لن تخضع للضغوط الأمريكية التي قد تمارس ضدها، وسترد بكل قوة على كل ما يمكن أن تتعرض له من ضغوط ومضايقات، كما أعلنت أيضًا أنها ستعزز وجودها في المحيط الهادي وفي القطبين الشمالي والجنوبي، ووجهت السياسة الجديدة انتقادات للولايات المتحدة التي عملت على مدى سنوات للسيطرة على العالم واحتكار البحث عن حلول للأزمات الدولية، وقالت العقيدة الجديدة إنه “لا يجوز لأمريكا عولمة تشريعاتها الداخلية وفرضها على العالم”.
ولأن المتغيرات متسارعة على الأصعدة كافة، أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أن وزارة الخارجية الروسية أعدت عقيدة للسياسة الخارجية مع مراعاة التغييرات في السياسة الدولية التي حدثت خلال السنوات الخمسة الماضية، يأتي هذا الحديث قبل أيام من بدء الغزو الروسي لأوكرانيا وانطلاق حرب شاملة أثرت على السياسة العالمية كاملة.
وقال بوتين خلال ترؤسه لاجتماع مع الأعضاء الدائمين بمجلس الأمن القومي الروسي: “لقد أعدت وزارة الخارجية الروسية مشروع نسخة محدثة لعقيدة السياسة الخارجية الروسية، وتنتمي هذه الوثيقة إلى فئة وثائق التخطيط الإستراتيجي”، مشيرًا إلى أن الخارجية الروسية “أخذت في الاعتبار آخر التغيرات التي تحدث في العالم، بما في ذلك التغيرات المهمة في السياسة الدولية خلال السنوات الخمسة الماضية”، وأضاف بوتين “مجلس الأمن القومي الروسي يعمل بشكل أو بآخر على إعداد وثائق التخطيط الإستراتيجي في مختلف المجالات”.
ختامًا: يبدو أن المشترك من خلال هذه السياسات المتعاقبة والمطورّة هو الخوف من التمدد الغربي تجاه روسيا، إضافة إلى توسع حلف الناتو وتطوير أسلحة أعضائه لمواجهة التهديدات، الأمر الذي تعتبره روسيا تطويقًا لها، أضف إلى ذلك أن روسيا تظل طامحة لأن تكون قطبًا عالميًا لمواجهة أمريكا في الأساس والعالم الغربي بشكل أعمّ وهو ما تتمحور حوله عقيدتها السياسية والعسكرية، واليوم يتوقف تحقيق الأهداف على ما ستحققه آلة الحرب الروسية في أوكرانيا، فإما تغيير لوجه العالم والنظام برمته وإما تغيير لوجه روسيا والقضاء على حلم بوتين الإمبراطوري.