وقّعت تركيا في 4 أبريل/ نيسان 1949 في واشنطن على معاهدة شمال الأطلسي، وفي 17 أكتوبر/ تشرين الأول 1951 وقّعت بروتوكول الانضمام إلى حلف الناتو (يضمّ 30 دولة حاليًّا)، وفي 18 فبراير/ شباط 1952 حصلت على العضوية بشكل رسمي، لتصبح منذ ذلك اليوم ضلعًا أساسيًّا في أقوى تحالف عسكري في العالم.
تعدّ تركيا، بجانب أنها الدولة الـ 13 في ترتيب الدول المؤسِّسة للحلف، من أوائل القوى التي تتصدى للتحديات والمخاطر التي تهدِّد الدول الأعضاء، وذلك بسبب ما تتمتّع به من قدرات عسكرية هائلة، كونها خامس أكبر جيش في هذا الكيان حاليًّا، وفق تصنيف “غلوبال فاير باور” (كانت في المرتبة الثانية عام 2019 بعد أمريكا).
بالإضافة إلى موقعها الاستراتيجي الحسّاس بوصفها حلقة وصل محورية بين الشرق والغرب، هذا بجانب أنها الدولة المسلمة الوحيدة في صفوف الأطلسي، ما يجعلها بمثابة “الجسر الذي يصل بين الناتو والعالم الإسلامي”، بحسب تعبير الناطق باسم الرئاسة التركية إبراهيم قالن.
تتزامن هذه الأيام مع الذكرى الـ 70 لانضمام أنقرة إلى الناتو، مرّت خلالها العلاقة بين الطرفَين بموجات من المدّ والجزر، كان باعثها الأول والأخير تباين الأيديولوجيات بين الطرفَين إزاء العديد من الملفات، والتي كانت بمثابة المسمار الأول في نعش تلك العلاقة، التي لولا البراغماتية الواضحة لكافة الأطراف لذهبت إلى مصير آخر من الفراق الأبدي.
سياقات الانضمام
بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها، وانجلت غيوم الإقصاء والاحتقان بين المحور والحلفاء رويدًا رويدًا، بدأت بعض القوى في تدشين تحالفات جديدة تكون لها درعًا وحماية من أي اعتداءات خارجية، ومن هنا بدأت التفكير في قسم الكرة الأرضية إلى عالم شرقي وآخر غربي، وبينهما من الخصومة والعداء ما بينهما.
كان الغرب أول المبادرين في تدشين مثل تلك التحالفات، فكان حلف شمال الأطلسي الذي هدف في المقام الأول إلى تعميق التعاون العسكري والسياسي بين الدول الأعضاء، التي في الغالب تشكّل الهوية الغربية وتضعها في موقف قوة ووحدة أمام الشطر الشرقي بقيادة الاتحاد السوفيتي سابقًا.
وجد المعسكر الغربي في تركيا الدولة المناسبة تمامًا كحلقة وصل محورية مع الشرق، إذ تتمتّع بموقع استراتيجي لم يُمنح لأي دولة عضو بالتحالف
في تلك الوضعية وجدت تركيا نفسها في موقف حرج، فالعداء التاريخي بينها وبين الروس، والذي تجسد في عشرات الحروب على مرّ السنين، خلّفت وراءها آلاف القتلى هنا وهناك، ما شكّل دافعًا قويًّا للميل نحو المعسكر الغربي رغم الاختلافات الأيديولوجية في ذلك الوقت، غير أن الرغبة الملحّة للانضمام إلى تحالف قوي قادر على مواجهة تجاوزات المعسكر الشرقي، طوت تحت قدمَيها أي تباين في الفكر والثقافة والاتجاهات.
وفي الجهة المقابلة، وجد المعسكر الغربي في تركيا الدولة المناسبة تمامًا كحلقة وصل محورية مع الشرق، إذ تتمتّع بموقع استراتيجي لم يُمنح لأي دولة عضو بالتحالف، هذا بخلاف الثقل السياسي والعسكري لها، ما يجعلها إضافة وقيمة لأي تحالف سياسي أو عسكري.
وحين تلاقت مصالح الطرفَين بمنطق براغماتي بحت، انضمت الدولة التركية إلى الناتو في خطوة أثارت الكثير من الجدل وقتها بين مؤيد ومعارض، وهو الجدل المستمر حتى اليوم، إذ تنظر بعض القوى إلى تركيا على أنها امتداد لنفوذ الإمبراطورية العثمانية التي خاضت حروبًا شعواء ضد العديد من إمبراطوريات الغرب.
وخلال تلك الفترة، قدمت تركيا أوراق اعتمادها للغرب كلاعب أساسي قادر على التماهي مع مواقف الحلف الجديد، فكان الاعتراف بدولة الاحتلال الإسرائيلي عام 1949، ثم المشاركة في حلف بغداد المدعوم من الغرب عام 1955، وهو الحلف الذي دُشِّن للوقوف بوجه المدّ الشيوعي في الشرق الأوسط، وتكوّن بداية الأمر من بريطانيا والعراق وإيران وباكستان بجانب تركيا.
أمواج من المدّ والجزر
شهدت العلاقة بين أنقرة والناتو العديد من المحطات الفارقة، بعضها كان يرتقي إلى درجة التناغم الكامل، لا سيما في المواقف التي تتطابق فيها وجهتا نظر الطرفَين، وبعضها الآخر وصل فيها التباين إلى حدّ الخلاف والسجال السياسيَّين والإعلاميَّين بينهما، والتلويح بإحداث شروخات في جدار التحالف.
وكانت باكورة التوتُّر بين الجانبَين خلال عامَي 1963 و1964، حين شهدت جزيرة قبرص أزمتها الشهيرة بين القبارصة الأتراك واليونانيين، حيث حاولت أنقرة التدخُّل لدعم حلفائها من القبارصة، لكنها فوجئت بموقف متخاذل من أعضاء التحالف وعلى رأسهم الولايات المتحدة، التي أفادت بأنها لن تقف إلى جوارها حال نشوب صدام مع الاتحاد السوفيتي جرّاء دعم الأتراك في قبرص.
حينها بدأت تركيا تعيد النظر في موقفها العام إزاء هذا التحالف الذي اعتبرته قد تخلّى عنها في واحدة من أكثر أزماتها توترًا، بما يخالف المادة الخامسة من اتفاقيات الناتو، التي تنصُّ على وجوب الدفاع المشترك بين الدول الأعضاء في حال حصول أي اعتداء خارجي.
دفع هذا الموقف الأتراك لتشكيل خارطة سياسية خارجية جديدة تميل إلى الاستقلالية النسبية في المواقف، بعيدًا عن المزاج العام للحلف إذا ما تعارض ذلك مع مصالحها، فتبنّت أنقرة مواقف عكس عقارب الساعة الأمريكية، منها الاعتراض على الحرب الأمريكية على فيتنام (1955-1975)، كما تبنّت موقفًا مناوئًا لتوجُّهات التحالف فيما يتعلق بالصراع العربي الإسرائيلي، فرفضت استخدام أراضيها كقواعد للحلف لدعم الكيان المحتلّ خلال حربَي 1967 و1973، رغم اعترافها الرسمي بـ”إسرائيل”.
عقب فشل محاولة الانقلاب التي شهدتها تركيا منتصف يوليو/ تموز 2016، دخلت العلاقات بين أنقرة والناتو مرحلة صدام غير مسبوق، وصلت إلى التفكير الجدّي في الانسحاب من هذا الكيان
وفي عام 1975 واصلت عنادها بالاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية، ثم التصويت في العام ذاته لصالح قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة باعتبار الصهيونية شكلًا من أشكال العنصرية، وهو الموقف الذي أثار حفيظة العديد من أعضاء الناتو ضد تركيا التي باتت تغرّد خارج السرب الغربي بصورة مقلقة.
وبعد تفكُّك الاتحاد السوفيتي، دخلت العلاقات بين تركيا والناتو مرحلة من الدفء والتناغم، فرضتها تلك المستجدّات التي دفعت كلا الجانبَين للانتصار لمصالحه ببراغماتية مطلقة بعيدًا عن أي خلافات أيديولوجية، وبالفعل لعبت تركيا دورًا محوريًّا في توسيع دائرة نفوذ الناتو في الشرق الأوسط والبلقان ووسط آسيا، لما تتمتّع به من ثقل ومكانة استراتيجيَّين في تلك المنطقة تاريخيًّا.
واستمرَّ هذا التناغم نسبيًّا حتى انطلاق قطار الربيع العربي نهايات عام 2010 وبدايات عام 2011، إذ شاركت تركيا في جهود الناتو العسكرية في بعض الملفات، كمحاربة تنظيم “داعش” في العراق وسوريا، مرورًا بدعم عمليات التحالف في ليبيا، وتبنّي وجهة النظر ذاتها إزاء الوضع في اليمن.
لكن مع مرور الوقت، برز الخلاف في أجندة كل منهما إزاء التطورات في المشهد السوري، لا سيما المناطق الشمالية (على مقربة من الحدود مع جنوب تركيا)، حيث أثارت العمليات العسكرية التي استهدفت تركيا من خلالها الوحدات الكردية حفيظة بعض أعضاء الحلف، فيما اتّهمت أنقرة دول الحلف بدعم أعدائها في تلك المناطق، ما دفعها لشنّ سلسلة من العلميات العسكرية طيلة السنوات الماضية بمعزل شبه تامّ عن التنسيق مع الحلف، أبرزها “درع الفرات” عام 2016 ضد “داعش” في ريف حلب، تلتها عملية “غصن الزيتون” في عفرين عام 2018، ثم عملية “نبع السلام” في شرقي سوريا عام 2019.
تصاعُد الخلافات
في الأعوام القليلة الماضية، لا سيما عقب فشل محاولة الانقلاب التي شهدتها تركيا منتصف يوليو/ تموز 2016، دخلت العلاقات بين أنقرة والناتو مرحلة صدام غير مسبوق، وصلت إلى التفكير الجدّي في الانسحاب من هذا الكيان، لولا الحسابات السياسية والعسكرية والاقتصادية التي وضعها الرئيس التركي في الحسبان، والتي حالت أو أجّلت الإقدام على تلك الخطوة.
لم تَنِل السياسات التركية الأخيرة القبول لدى الغرب، أو بمعنى أدقّ لدى قوى محدَّدة في الغرب على رأسها ألمانيا وفرنسا ثم الولايات المتحدة، وهو الأمر الذي دفع واشنطن إلى عرقلة صفقة طائرات إف-35 التي كانت ترغب تركيا في الحصول عليها، لأسباب اعتبرها الجانب التركي محاولة للتملُّص والضغط وربما الابتزاز.
تعدّ تركيا واحدة من الخمسة الكبار الأكثر إسهامًا في أنشطة التحالف وعملياته، كما أنها تحتلُّ المركز الثامن في قائمة أكثر الأعضاء مساهمة في ميزانية الحلف
لم تتحمّل أنقرة استراتيجية الغرب كثيرًا، وبمنطق براغماتي بحت تحوّلت إلى المعسكر الشرقي، حيث روسيا، لتحصل منها على نظام الدفاع الجوي الروسي إس-400، وهي الخطوة التي أثارت غضب الأمريكيين بصورة كبيرة، كان نتيجته استبعادها من تجمُّع مصنِّعي المقاتلات المتطورة من طراز إف-35.
وكان آخر فصول الخلاف بين الجانبَين أزمة رجل الأعمال والناشط التركي المتّهم بقضايا إرهاب، عثمان كافالا (تركي الأصل وفرنسي الجنسية)، القابع في السجون التركية رهن المحاكمة منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2017.
حيث تقدّمت قرابة 10 دول من بينها 9 في حلف الناتو (كندا وفرنسا وفنلندا والدنمارك وألمانيا وهولندا والنرويج والسويد والولايات المتحدة) في أكتوبر/ تشرين الأول 2021، بطلب للإفراج عنه، وهو ما أغضب أردوغان الذي هدّد بطرد سفراء تلك الدول بجانب سفير نيوزيلندا، ما كان له أثره في تعكير الأجواء بين أنقرة وبقية الأعضاء داخل التحالف.
ماذا قدّمت تركيا للناتو؟
منذ انضمامها قبل 70 عامًا، لعبت تركيا دورًا داخل الناتو لم تلعبه أي دولة أخرى، إذ كان منوط بها حماية وتأمين الناتو من ناحية الجنوب الشرقي خلال الحرب الباردة بين أمريكا وحلفائها من جانب، والسوفيت وحلفائه من جانب آخر، حيث ساعدها موقعها الجيوسياسي على القيام بهذا الدور على أكمل وجه.
وتُعد أنقرة واحدة من الخمسة الكبار الأكثر إسهامًا في أنشطة التحالف وعملياته، كما أنها تحتلُّ المركز الثامن في قائمة أكثر الأعضاء مساهمة في ميزانية الحلف، حيث قدّمت دعمًا تجاوز الـ 90 مليون يورو خلال السنوات الأخيرة، وكانت الأكثر حضورًا في الملفات الحساسة التي خاضها الحلف في أفغانستان والبحر الأسود والبلقان.
وقد شاركت تركيا بقواتها في مساعدة جهود الحلف لحفظ السلام في كوسوفو ودارفور والبوسنة والهرسك، بجانب الدعم البحري المقدَّم لمنع الهجرة غير النظامية، هذا بخلاف الدور الذي قدّمته في العراق في مواجهة تنظيم “داعش”، باعتبارها محطة مهمّة للتزوُّد بالوقود، بجانب إسهاماتها في مجال التدريب والاستشارات العسكرية.
انسحاب تركيا من الناتو أمر مستبعد في ظل حاجة كل طرف للآخر في ضوء التحديات الأخيرة، والتي ربما تعيد ترميم العلاقات مرحليًّا وفق نظرة براغماتية بحتة
وتحتضنُ الدولة التركية فوق أراضيها العديد من القواعد العسكرية، التي لعبت على مدار 7 عقود كاملة دورًا هامًّا في دعم جهود الحلف في محاربة الإرهاب في المنطقة، أبرزها قاعدة إنجرليك العسكرية، التي تُعتبر، بجانب أنها مقرّ لقيادة السرب العاشر التابع لقيادة القوة الجوية التركية، ومقرّ للسرب الـ 39 في القوة الجوية الأمريكية، بمنزلة قاعدة جوية لحلف الناتو في تركيا.
كما تستضيف ولاية أزمير (غربًا) واحدة من أكبر القواعد الداعمة للقوات البرّية للتحالف، وهي قاعدة LANDCOM التي منذ تأسيسها عام 1952 تواصل دعمها المطلق لأعضاء الناتو، وتدعم تحركاتهم في الشرق الأوسط وآسيا، فضلًا عن بعض القواعد الأخرى المتخصِّصة في الدفاع الصاروخي للحلف، أبرزها قاعدة رادار منطقة كورجيك بولاية ملاطيا (وسطًا).
هل تنسحب أنقرة؟
في يوليو/ تموز 2021، وخلال خطاب متلفز له تعليقًا على نتائج قمة الناتو التي جرت في بروكسل في 14 يونيو/ حزيران من العام نفسه، قال الرئيس أردوغان صراحة إن الحلف من دون تركيا لا يستطيع الحفاظ على قوته، بل على بقائه في المجمل، منوّهًا أن بلاده رغم تنفيذها كافة التزاماتها أمام الحلف بالكامل، إلا أنها وجدت نفسها بمفردها دون دعم من أعضاء الحلف، رغم أنها كانت في أمسّ الحاجة إلى دعمهم.
الحديث عن انسحاب تركيا من الحلف الغربي ليس وليد اليوم، بل تمَّ التلويح به أكثر من مرة، آخرها عقب محاولة الانقلاب الفاشلة، إذ لم يجد الأتراك من الناتو ما كانوا يأملونه، علمًا أن هناك بعض الدول الأعضاء تعزِّز هذا الاتجاه، بل تطالب بعزل أنقرة، في ظلّ الخلافات الأيديولوجية وصراع النفوذ، وفي المقدمة منها ألمانيا من خلال بعض التيارات السياسية المناوئة لتركيا، وإن كان قانون الناتو يحول دون عزل أي من الدول الأعضاء، إلا عبر خطوة تقديم طلب انسحاب بموجب الفصل 13 من اتفاقية الحلف.
التوترات المستمرة بين الطرفَين خلال السنوات الماضية زادت من حدة الاحتقان وعززت سياسة الاستقطاب، ما انعكس بطبيعة الحال على الأداء العام داخل هذا الكيان، الذي بدأ يشهد في الآونة الأخيرة خروقات وانتهاكات شوّهت سمعته ووضعت صورته عالميًّا على المحكّ.
وفي ضوء ما سبق، ووفق المعطيات الواردة، فإن انسحاب تركيا من الناتو أمر مستبعد في ظل حاجة كل طرف للآخر في ضوء التحديات الأخيرة، والتي ربما تعيد ترميم العلاقات مرحليًّا وفق نظرة براغماتية بحتة، لكن على كل حال ستجعل الأرضية الأيديولوجية المختلفة وأجندة الأهداف المتباية، والمتعارضة أحيانًا، من فضّ الشراكة بين القوتَين احتمالًا واردًا على الطاولة، يتوقّف تحقيقه على مجريات الأحداث ومسارات الصدام والتناغم.