ترجمة وتحرير: نون بوست
خلال معركة ملتهبة قامت قبل أربع سنوات؛ ركض حسون يحيى، 46 عامًا، وهو رجل متزوج وأب لخمسة أطفال، في شوارع الموصل محاولًا الوصول إلى عائلته؛ وكان عناصر تنظيم الدولة يحتلون المنازل والممرات، وكان الخطر يترصّد في كل مكان، وبينما كان يحيى على بعد أمتار من عتبة منزله، تسبب اندفاعه اليائس بمأساة عندما انفجر لغم أمامه، ومات ابنه، البالغ من العمر 7 أعوام، في ما تبقى من منزلهم، وصرخات أطفاله لم تفارق ذاكرته منذ ذلك الحين.
ويقول يحيى وهو يمسح دموعه: “انفجر رأسه ثم اصطدم بالأرض”، وحملت زوجته جثة ابنه المقطوعة الرأس بين ذراعيها، وقال يحيى إنها أخبرته وهي تبكي “لقد رحل” مضيفًا: “هل يمكنك أن تتخيل شعوري في تلك اللحظة؟”.
كانت الساعة 10:30 صباحًا في يوم ضبابي، في 21 آذار/مارس 2017، وهو يوم يتذكره يحيى بدقّة، فلقد خدرته الصدمة والأدرينالين في البداية ولم يشعر بالألم عندما اخترقت الشظية فخذه الأيمن، وحين ازداد الجرح سوءًا، نُقل بسرعة إلى المستشفى، لكنه قال وهو يشير إلى ندوبه ويداه ترتعشان: “لم يكن هناك شيء يمكن فعله، و كان عليهم بتر الساق”.
ومنذ منتصف عام 2014؛ حاول يحيى التهرب من أهوال ما يسمى بالخلافة، وإطلاق النار والخطف والإعدامات، والخوف الذي لا ينتهي الذي عاش فيه، والآن لا سبيل أمامه سوى الاستسلام لهذا الخوف، بعد موت ابنه وفقدان ساقه وعيشه في قلق مما قد يحدث لبقية أفراد عائلته، حتى أصبح الوضع غير محتمل، ويمكن للموت أن يصيب أي شخص في أي وقت، سواء من الجو أو الأرض، وهنا سيطر الخوف التام على يحيى.
وبعد مرور أكثر من أربع سنوات؛ أُجبر تنظيم الدولة على الخروج من الموصل ولم يعد يحتل البلدات أو المدن في أي مكان في العراق أو سوريا. لكن إرثه الوحشي لا يزال قائمًا تحت أكوام من الأنقاض وفي المنازل والحقول المدمرة؛ حي تستمر القنابل والألغام التي خلفتها الحرب في قتل وتشويه المدنيين، فيما تقول كورنيليا فان ويك، أخصائية العلاج الطبيعي المسؤولة عن اللجنة الدولية للصليب الأحمر في الموصل، وهي تهز رأسها وتمشي في ممرات مركز إعادة التأهيل: “الآن؛ يتوجب علينا خوض حرب جديدة، بسبب المعدات الحربية التي لم تنفجر والتي زرعها تنظيم الدولة وما تزال تقتل الناس حتى بعد انتهاء القتال”.
ترك الغزو الذي شنّه التحالف، الذي تقوده الولايات المتحدة عام 2003، البلاد وخاصة المناطق الوسطى والجنوبية، كميات كبيرة من الألغام الأرضية والذخائر العنقودية المنتشرة على نطاق واسع
وبينما يزور الأطباء المرضى ويصنع الموظفون قوالب الأطراف الاصطناعية، ينتظر الرجال والأطفال دورهم في الطابور ووجوههم منهكة وعيونهم تتأمل في الفراغ، بينما تجلس الزوجات والأمهات في صمت على المقعد خارج الباب، في حين تضيف ويك: “منذ عام 2018؛ عالجنا أكثر من 1600 مريض، لكن الأرقام لا تظهر أي علامة على التراجع”.
ووفقًا لأحدث البيانات حول العراق الصادرة عن منظمة برامج إدارة المعلومات وشؤون الألغام؛ فمن كانون الثاني/يناير 2014 إلى تموز/ يوليو 2020، سُجّلت قرابة 70 ألف حادثة متعلّقة بالمتفجرات الموجودة في البلاد وما لا يقل عن 137،092 ضحية نتيجة الصراع، بما في ذلك 43،662 ضحية لانفجار الذخائر وحدها (16350 قتيلاً و27312 جريحًا).
وبعد عقود من الحرب والتمرد، التي يعود تاريخها إلى الصراع الإيراني العراقي الذي امتد لعقد كامل، لا يزال العراق من أكثر المناطق المليئة بالألغام الأرضية في الشرق الأوسط؛ حيث كانت الحرب مع إيران وحشية بشكل خاص؛ ففي عام 1980 أدت رغبة صدام حسين في الاستيلاء على مناطق جديدة غنية بالنفط وزعزعة استقرار النظام الديني الإيراني إلى الغزو العراقي لأراضي آية الله روح الله الخميني، وفي سعي صدام حسين لتحقيق هذا الهدف، أصبحت المناطق الحدودية على الجانبين مليئة بالألغام الأرضية، التي لا تزال العديد منها موجودة إلى اليوم.
وأدت حرب الخليج عام 1991، التي طرد فيها التحالف العسكري بقيادة الولايات المتحدة القوات العراقية من الكويت، ومحاولات بغداد لإخضاع السكان الأكراد إلى تفاقم هذا الوضع؛ حيث يقول اللواء صباح حسن الشبلي، قائد مجموعة السيطرة على المتفجرات التابعة لوزارة الداخلية في العراق، من مكتبه في بغداد: “في أوائل التسعينيات؛ بقيت الكثير من الذخائر غير المنفجرة ملقاة في المنطقة، ويمكن العثور عليها اليوم في التلال والمخابئ وعلى طول الخطوط الأمامية للهجوم السابق، لكن الضحايا الأساسيين هم المدنيون، وأغلبهم من الأطفال”.
ومع ذلك؛ ترك الغزو الذي شنّه التحالف، الذي تقوده الولايات المتحدة عام 2003، البلاد وخاصة المناطق الوسطى والجنوبية، كميات كبيرة من الألغام الأرضية والذخائر العنقودية المنتشرة على نطاق واسع، والتي لا تزال تؤثِّر يوميًّا على المجتمعات الفقيرة والمهمشة. (الذخائر العنقودية هي أسلحة مضادة للأفراد تُلقى في قذائف كبيرة تنثر متفجرات صغيرة على مساحة أرضية واسعة).
وزادت الحرب مع تنظيم الدولة من تفاقم هذه المشكلة؛ لا سيما في المناطق شبه الريفية بالقرب من إقليم كردستان، بما في ذلك الأنبار ونينوى وصلاح الدين وكركوك؛ حيث شهد الصراع انتشار الألغام غير التقليدية والأفخاخ المتفجرة.
ومن أربيل؛ يتحدث جاك مورغان؛ مدير العراق في المجموعة الاستشارية للألغام، وهي أكبر منظمة غير حكومية دولية تعمل في العراق ومقرها الأساسي المملكة المتحدة؛ حيث: “صُمِّمت بعض هذه الألغام الأرضية المصنوعة محليًّا لتكون قاتلة، وقطر مساحة تأثيرها يصل إلى 25 مترًا، هذه المتفجرات حساسة بما يكفي ليتسبب في انفجارها طفل صغير لكنها قوية بما يكفي لتعطيل دبابة”.
وفي حين أن المساحة الكاملة التي تحتوي على الذخائر المتفجرة لا تزال غير معروفة بسبب نقص البيانات المتاحة، فيُقدَّر أن أكثر من 700 ميل مربع من الأرض مليئة بها وأن حوالي 8.5 ملايين شخص معرضون للخطر بسبب ذلك.
وعلاوة على ذلك؛ ما تزال الذخائر العنقودية تمثّل مشكلة مستمرة، فوفقًا لآخر تقرير صادر عن وزارة الصحة والبيئة العراقية ومديرية مكافحة الألغام في العراق الفيدرالي، وبالتعاون مع وكالة مكافحة الألغام في كردستان العراق، فإنه اعتبارًا من نهاية عام 2020؛ غطت مخلفات الذخائر العنقودية مساحة إجمالية تبلغ 69 ميلًا مربعًا، مما يجعل العراق رابع أكثر دول العالم تلوثًا بالمتفجرات.
وغطت بقايا الألغام الأرضية المضادة للأفراد 463 ميلًا مربعًا من الأرض (382 ميلًا مربعًا في العراق الفيدرالي و81 ميلًا مربعًا في إقليم كردستان)، كما غطت الألغام الأرضية مساحة إجمالية قدرها 230 ميلًا مربعًا (229 ميلًا مربعًا في العراق الفيدرالي وما يزيد قليلًا عن ميل واحد في إقليم كردستان).
ويشكّل حجم التلوث الكبير بالألغام الأرضية تحديًا قد يُقوّض إمكانية الوفاء بالموعد النهائي لإزالة الألغام والمحدد في شهر شباط/فبراير 2028 بموجب المادة 5 من اتفاقية حظر الألغام في العراق؛ حيث انضمت الحكومة إلى المعاهدة في 2007 وأصبحت طرفًا فيها بعد عام مع الالتزام بوقف استخدام وتخزين ونقل الألغام المضادة للأفراد وتدمير جميع الألغام المتبقية بحلول عام 2018.
ومع ذلك؛ أعاق تزايد انتشار تنظيم الدولة والضغط العسكري لاستعادة الأرض التي فقدها مقاتلو التنظيم قدرة العراق على الوفاء بالتزاماته؛ لذلك في عام 2017، قدم العراق طلبًا لتمديد الموعد النهائي لإزالة الألغام الأرضية حتى عام 2028، لكن نقاط الضعف المحلية ونقص القدرات والخبرة ونقص التمويل تشير إلى أنه من غير المرجح أن تفي بهذا الموعد النهائي، بالإضافة إلى عدم وفائها بالتزام آخر منفصل بموجب المادة 4 من اتفاقية العراق بشأن الذخائر العنقودية، والتي تدعو إلى تدمير جميع مخلفات الذخائر العنقودية بحلول تشرين الثاني/نوفمبر 2023.
ويقول اللواء أحمد جهاد؛ خبير المتفجرات في مديرية مكافحة الألغام: “مع قدرتنا الحالية على التخلّص من المخلّفات سنحتاج إلى ما بين 15 و17 سنة أخرى”؛ حيث إنه وفقًا لقاعدة بيانات نظام إدارة المعلومات لمكافحة الألغام في العراق، ففي السنوات الـ19 الماضية؛ اكتشف العراق ودمر أكثر من مليون ذخيرة خطيرة، من بينها حوالي 65 ألف لغم أرضي و100 ألف عبوة ناسفة وقرابة 70 ألف قنبلة عنقودية وموزعة قنابل.
وقال جمال علي؛ مساعد المدير العام لمركز السليمانية للأعمال المتعلقة بالألغام، أثناء قيادتنا السيارة إلى بنجوين، في شمال شرق العراق: “إزالة الألغام نشاط معقد يتطلب الوقت والدقة، لذلك لا يمكنك التسرع فيه”.
وفي الطريق إلى بنجوين، التي كانت في السابق ساحة معركة أثناء الحرب مع إيران، وهي الآن محاطة بالأشجار الجافة؛ سألني علي وهو ينظر من النافذة: “هل ترى المثلثات الحمراء الموضوعة على الأرض؟ إنها تشير إلى أن المنطقة مليئة بالمخاطر، وعلينا أن نكون حذرين، فقد تنفجر الألغام المتبقية في أي لحظة”.
وفي هذا المكان الذي يقع على بعد أميال قليلة من المدينة، شرع رجال عليٍّ في أعمال إزالة الألغام من على قطعة أرض صخرية، كانت بقعة صغيرة على أرض شهدت صراعات لا تعد ولا تحصى على مر العصور، لكنها تمثّل نقطة انطلاق لمشروع يهدف إلى حماية بعض سكان المنطقة على الأقل، ويعمل الرجال على إنجاز هذه المهمة بحماس.
وبعد الخروج من السيارة، سألني حسين مصطفى، الذي يعمل في الوكالة منذ 14 عامًا، عن اسمي ولقبي وفصيلة دمي، مرددًا :”السلامة أولاً”، كما أضاف بينما كان يدوّن معلوماتي الشخصية في السجل: “في حالة انفجار لغم وتعرضك للإصابة، يجب أن نكون قادرين على التدخل الفوري مع فريقنا الطبي، وتذكر دائمًا أن تبقى خلفي”.
كنت أسير على خطاه على أرض تبدو غير صالحة للعيش، وهي منطقة قاحلة فقد فيها شخصان حياتهما بعد انفجار وقع قبل عام، وليس ببعيد عنا؛ يقوم أحد عمال إزالة الألغام، الذي كان يرتدي بدلة واقية من الرصاص وخوذة مع قناع، بدوريات على سطح التربة بجهاز الكشف عن المعادن؛ حيث إن هذه هي الطريقة المناسبة للكشف عن الألغام القديمة الصنع، فتلتقط أجهزة الكشف الموجات المغناطيسية التي تنتجها الأجزاء المعدنية للألغام، التي غالبًا ما تدفن ووجهها للأسفل.
ومع ذلك؛ يقوم الرجال بتحديد الموقع الدقيق لللغم عن طريق حفر الأرض بعصا مدببة، وشرح مصطفى العملية لي قائلًا: “يتم حفر ثقب كل سنتيمتر حتى نتأكد من عدم وجود خطر، ومن خلال الخبرة من الممكن تحديد ما إذا كانت هناك قطعة معدنية أو قطعة من الخشب أو الحجر”، وعندما تكون مستلقيًا على الأرض، على بعد خطوتين من قنبلة، فلا بد من الحذر؛ حيث يضيف مصطفي أنه “قد تجد بعض الألغام الصغيرة المنفجرة، لكن من الضروري تجنب الضغط على طرفها العلوي، لأنه يمكن لبعض تلك الألغام أن تخفي تحتها قنبلة يدوية، وبمجرد إزالتها، ستنفجر تلك القنبلة.”
بعد ذلك يأتي دور العمل اليدوي، بشكل أبطأ ولكن أكثر دقة، فيقول مصطفى: “الآلات غير قادرة على العمل على أراض معيّنة، وكذلك في الحقول الجبلية أو التلال أو المناطق الضيقة، بدلًا من ذلك، يمكن لليد أن تنجز المهمة عنها وبدقة أكبر”.
وعلى الجانب الآخر من التل؛ هناك آلة تحفر الأرض بحثًا عن الألغام، فحتى الآن؛ عثر مركز السليمانية للأعمال المتعلقة بالألغام على أكثر من 349 لغمًا مضادًّا للأفراد و 20 ذخيرة غير منفجرة في هذا الموقع
ويوجد في كردستان بأكملها أكثر من 7 ملايين لغم أرضي، لكن معظمها يوجد في محافظة السليمانية، في مناطق بنجوين وشربجار وبشدار، وهي المناطق التي دارت فيها الحرب مع إيران المجاورة؛ حيث يقول محسن عبد الكريم نجيب، المدير العام لمركز السليمانية للأعمال المتعلقة بالألغام، من مكتبه في السليمانية: “تمت تصفية ثلث المنطقة من المتفجرات وما تزال بقية المساحة بحاجة إلى التصفية، فقد وقع العراق على اتفاقية حظر الألغام التي تحظر المتفجرات المضادة للأفراد وتعهدت بتطهير المنطقة بأكملها منذ أكثر من 20 عامًا، ومع ذلك فإن الأموال التي تأتي من حكومة إقليم كردستان لأنشطة إزالة الألغام تقلّ في كل مرة”.
ووفقًا لمدير التخطيط في مركز السليمانية للأعمال المتعلقة بالألغام، سياماند رفيق، فإن ميزانية خطة الاستثمار السنوية تكلف حوالي 3 مليارات دينار عراقي أو 1.5 مليون دولار، وهو رقم لم تتمكن الحكومة الكردية من دعمه في السنوات الأخيرة؛ حيث أشار رفيق إلى أن “ميزانية التشغيل، التي تبلغ حوالي 400 ألف دولار أمريكي، ليست كافية، مما يجبر 80 بالمئة من القوى العاملة لدينا على البقاء في المنزل، فيما نحتاج إلى 10 مليارات دينار عراقي سنويًا أو 4.8 مليون دولار أمريكي، لنتمكن من إنجاز المطلوب”.
ولولا المانحين الدوليين، لتوقفت أنشطة هذا المركز؛ فوفقًا لمرصد الألغام الأرضية التابع للحملة الدولية لحظر الألغام الأرضية، تلقى العراق في عام 2020 ما مجموعه 104.5 ملايين دولار من 18 مانحًا، وأكبر الحصص جاءت من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وألمانيا واليابان والنرويج، لكن هذا الرقم انخفض إلى النصف تقريبًا مقارنة بعام 2017، عندما بلغت قيمة المساهمات الدولية 203.3 ملايين دولار.
وقال بهمان عثمان، مدير التدريب في مركز السليمانية للأعمال المتعلقة بالألغام منذ عام 2003: “أدت جائحة كوفيد-19 إلى تباطؤ الأعمال بشكل كبير وخفض التبرعات أيضًا، ولكن ما كان دور الحكومة في كل هذا؟”، مضيفًا: “الحقيقة هي أن الحكومة تفضل المصالح السياسية بدلًا من استثمار الأموال في القضايا الإنسانية”.
وكان هناك حوالي 14 ألف ضحية للألغام والذخائر غير المنفجرة في إقليم كردستان منذ عام 1991، بناءً على بيانات مركز السليمانية للأعمال المتعلقة بالألغام. وهي المحافظة التي لقي فيها – وحدها – 5000 شخص حتفهم وأصيب 1500 شخص بتشوه جسدي حتى اليوم.
وبعد فترة طويلة من انتهاء القتال؛ لم تقتصر الألغام الأرضية على قتل وجرح الأبرياء في ساحات القتال المهجورة فحسب، بل تعيق أيضًا عودة قرابة 1.3 مليون نازح إلى ديارهم.
فمنذ أكثر من أربع سنوات؛ كان رشيد عبد الله، مزارع سابق يبلغ من العمر 62 عامًا، يتقاسم خيمة مع أسرته في مخيم الخزر، وهي قطعة أرض مغبرة بجوار نقطة تفتيش عسكرية كردية في شمال العراق؛ حيث كان من المفترض أن تكون هذه الخيمة مجرد منزل مؤقت، لكنها تحولت إلى حل شبه دائم لأن المخاطر في مسقط رأسه في الموصل ما زالت قائمة، فيقول عبد الله: “لا أستطيع الانتظار للعودة إلى المنزل، لكن هذا مستحيل، فقد حاولت بعض العائلات العودة إلى القرية، لكنهم ماتوا بسبب الألغام القريبة من منازلهم. هل تفهم ما أعنيه؟ لا يزال ذلك المكان خطيرًا للغاية”.
الآن وبفضل أنشطة التوعية بالمخاطر التي يقدمها المتطوعون في المخيم؛ أصبح الأطفال قادرين على التعرف على الخطر، لكن رعب ذكريات الماضي ما زالت راسخة
وهرب رشيد من الموصل مع زوجته وأطفاله الخمسة بعد ثلاث سنوات من العيش بصعوبة تحت سيطرة المتشددين؛ حيث كانت الساعة 2 صباحًا في إحدى الليالي السوداء في أيار/مايو 2017، كما يتذكّر، مضيفًا أن “الظلام كان دامسًا، وأنهم لم يتمكنو من رؤية أي شيء”، وفي البداية كانت خطواتهم بطيئة مع التركيز على موطئ أقدامهم على الأرض، ثمّ خوفًا من أن يقبض عليهم تنظيم الدولة، أخذوا يركضون في حقل الألغام هذا وسط أصوات الانفجارات.
وقال رشيد وهو ينظر إلى يده اليمنى المبتورة التي مزقتها ذخيرة أرضية غير منفجرة في عام 2003: “توفي اثنان من أطفالي – ولدان – في الانفجار، واليوم كانا ليبلغ أحدهما 15 سنة والآخر 9 سنوات، على التوالي. لكنهما لم يعودوا حيين، لقد رحلا إلى الأبد”.
وكان رشيد يحمل ابنه عدنان البالغ من العمر 11 عامًا، وهو الابن الوحيد المتبقي، وكانت علامات الانفجار تغطي جسده: ندبة بطول 6 بوصات على البطن وجرح عميق في الفخذ الأيسر وندبة أخرى على أردافه، ولن تتمكّن أكريما، وهي أصغر أطفاله وهي في سن التاسعة، من الرؤية جيداً مرة أخرى، بينما لا يزال آزر، البالغ من العمر 15 عامًا، يعاني من كوابيس كل ليلة.
الآن وبفضل أنشطة التوعية بالمخاطر التي يقدمها المتطوعون في المخيم؛ أصبح الأطفال قادرين على التعرف على الخطر، لكن رعب ذكريات الماضي ما زالت راسخة، وكل خطوة يخطونها يجب أن تكون مدروسة بعناية، فلا يستطيع هؤلاء الأطفال عيش حياة خالية تمام من الهم، فقد ضاعت براءتهم على الأراضي التي شوّهتها حروب العراق.
وتقف هيام، زوجة راشد، في الزاوية وتبكي بسبب ذكرى تلك الليلة وتلامس بيدها الندبة التي تغطي جبينها نتيجة إصابتها بشظية عبوة ناسفة؛ حيث تقول وهي تنظر إلى ألواح الحديد المغطاة بقطعة قماش زرقاء ووردية، والتي تمثّل جدران خيمتهم: “تواجدنا هنا يجعلنا نشعر وكأننا في سجن، وهذه ليست حياة. فكيف أضمن لأولادي مستقبلًا أفضل وأنا لم أتمكن من إيجاد سقف يستطيعون النوم تحته؟”. ففي كنف تلك المساحة الضيقة، يزداد اليأس يومًا بعد يوم.
المصدر: نيولاينز