كان المشاهد العربي والغربي، على حد سواء، متوقعًا هذه الحرب قبل قدومها، في ظلّ تصريحات متتالية حرص رئيس الولايات المتحدة جو بايدن على تكرارها مرة تلو الأخرى، يحذّر فيها من إمكانية غزو روسي وشيك لأوكرانيا، متبعًا تحذيره “القلق” هذا بالتأكيد على الدعم الأمريكي لأوكرانيا لو تجرّأت روسيا واتخذت خطوات عسكرية.
ومع تواتر هذه التصريحات، تجرّأت روسيا، وأعلنت منطقتَي دونيتسك ولوغانسك جمهوريتَين منفصلتَين عن أوكرانيا، تبعها بأيام غزو روسي للأراضي الأوكرانية، تحت ذريعة حماية المناطق الانفصالية، أو الجمهوريتَين الجديدتَين وفق رؤية الدبّ الروسي للخارطة السياسية للعالم.
في ظلّ اشتعال المواجهة العسكرية بين روسيا وأوكرانيا، لم يغب عن بال الأخيرة خطابات بايدن الرنّانة، التي قال فيها إن الولايات المتحدة ستدعم أوكرانيا، ولن تتركها تواجه مخالب الدب وحدها، فاستنجدت بهذه القوة التي نفخت في نار الحرب بين الطرفَين أكثر من سواها تحقيقًا لمصالحها، وكان الردّ الأمريكي دغدغة ناعمة، لا يرقى لأن يكون ردًّا: تدين أمريكا العدوان الروسي على أوكرانيا، وتحذّرها من عقوبات اقتصادية تطال أشخاص الطبقة الروسية الحاكمة.
“إسرائيل”.. خوف من الخذلان
الاكتفاء بعقوبات ناعمة، يستثنى منها النفط، وتحاول مراعاة عدم تضرُّر المصالح الاقتصادية الأمريكية، وعدم المساندة العسكرية المباشرة، أشعرَ الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بالخذلان، وأن دول العالم التي صدحت بدفاعها عن أوكرانيا تخلّت عنه وقت الحسم، وأنه تُرك وحيدًا بينما جيشه يواجه جيشًا ضخمًا لوحده.
عدم التدخل الأمريكي المباشر في الحرب، لم يشعر زيلينسكي وحده بالخذلان، بل بدأت “إسرائيل”، طفل أمريكا المدلل في الشرق الأوسط، بالتخوف من الخذلان الأمريكي حينما تقتضي الضرورة ذلك، وبغياب السند الأمريكي خلف مصالح اقتصادية وأسباب عسكرية تفضِّل أمريكا النأي عنها.
يتحدث الإعلام الإسرائيلي صراحةً عن تخوفات الاحتلال من الخذلان الأمريكي، نتيجة الموقف الأمريكي من الحرب بين دولتَين إحداهما عظمى والقطب المضاد للولايات المتحدة، والأخرى استنجدت بالعالم الغربي لمساعدتها.
وترى في ذلك صحيفة “يديعوت أحرنوت” العبرية أن “خطاب الرئيس الأمريكي جو بايدن يجب أن يقلق الاحتلال الإسرائيلي، لما يحمله من مؤشرات حول ما ستقدّمه الولايات المتحدة للاحتلال الإسرائيلي في حال اندلاع حرب بين “إسرائيل” وإيران”.
بالنسبة إلى معهد الأمن القومي في “إسرائيل”، فإن على الاحتلال انتظار الأسوأ لأمنه بعد هذا الخذلان الأمريكي في مواجهة روسيا، “ويكفي أن يلتقط مشهد الخذلان الذي تعيشه الآن أوكرانيا بسبب تخلي أمريكا وأوروبا عن هذا البلد، وإعلانهما عدم التدخل عسكريًّا لإنقاذ الأوكرانيين، وبقائهما في مساحة ضيقة من المواقف السياسية المنددة والعقوبات الاقتصادية، والتي لم يظهر أي أثر لها في إرغام روسيا على وقف الغزو لأوكرانيا، وبالتالي إن مراهنات العدو الإسرائيلي على حلفائه الدوليين ستسقط، وسيجد نفسه قريبًا أكثر عزلة في مواجهة مخاطر وتحديات غير مسبوقة ومتدحرجة ليس فقط في الشمال، وإنما في مختلف الجبهات”.
المتتبّع لمحلِّلي الاحتلال السياسيين، يرى أن التخوفات الإسرائيلية تنعكس على ما بعدها من دراسة قرار أي مواجهة يخوضها الاحتلال ألف مرة بدل مئة، وأن الوقت حان لوضع استراتيجيات عسكرية بعيدًا عن التحالف الأمريكي، الذي لا يُضمن الارتكاز إليه في أي خطوة.
الوضع الأمريكي: استبعاد القتال العسكري
تعاني الولايات المتحدة ما يكفي من ضغط شعبي، واقتصاد متأزِّم لم يتعافَ بعد، رغم ما تظهره الترسانة الأمريكية من القوة كأقوى جيش في العالم، وما تفرضه خطابات رئيسها ووزارة دفاعه من أنها قادرة على الرد أو التدخل العسكري.
داخليًّا، تُظهر الاستطلاعات الأمريكية أن الأمريكيين يرون ضرورة عدم التدخل، وأن الحرب الروسية الأوكرانية ليست سوى شأن أوروبي لا دخل لهم فيه، وأنه من الأولى توجيه الإدارة نظرها إلى خطط اقتصادية لتلافي أزمة اقتصادية هي الأكبر منذ عام 2008، خاصة بعد ما أحدثته جائحة كورونا من ويلات على الاقتصاد العالمي ككل.
كما أن الأمريكيين سيدفعون ثمن هذا الهجوم، مع تجاوز أسعار النفط في أعقاب الهجمات العسكرية الروسية حاجز 100 دولار لأول مرة منذ عام 2014، وما يترتّب عن هذا من ارتفاع تكاليف تدفئة المنازل والكهرباء والطيران، وارتفاع تكاليف النقل والمدخلات للشركات.
ولو تعمّقنا في الحالة الأمريكية، سيفكّر بايدن، الآخذة شعبيته في التراجع شيئًا فشيئًا، مرارًا قبل أن يتّخذ خطوة التدخل العسكري المباشر، خاصة في ظلّ وجود أقطاب داخلية تستثمر الحرب في تصفية حساباتها مع الرئيس، خصوصًا الجمهوريين الذين يتزعّم فيهم دونالد ترامب، الرئيس الأمريكي السابق والخاسر في الانتخابات الأخيرة، تيار معارضة الرئيس بايدن والتحشيد ضده شعبيًّا.
إلى جانب ذلك، لم يمرَّ وقت كفيل يُنسي الجيش الأمريكي مرارة هزيمته في أفغانستان، وخروجه منها على عقبيه، حيث دحرت جماعات مسلحة أعتى جيش في العالم، فكيف سيكون واقع الصورة لو كانت مع جيش رسمي هو الثاني عالميًّا من حيث القوة، وفق مؤشرات عام 2021.
مهما تصاعد الغزل بين الولايات المتحدة و”إسرائيل”، إلا أن لأمريكا حساباتها وقت المواجهات العظمى، التي ترى فيه أمنها القومي ومصلحتها الاقتصادية أهم من دعم حليفٍ، أو خوض حرب إلى جانبه
وبحسب قناة “بي بي سي”، فإن أمريكا ترى في الحرب الروسية الأوكرانية شيئًا بعيدًا عن مصالح الأمن القومي، فأوكرانيا ليست في جوار أمريكا، ولا تقع على حدود الولايات المتحدة، كما أنها لا تستضيف قاعدة عسكرية أمريكية، وليس لديها احتياطيات نفطية استراتيجية، وهي ليست شريكًا تجاريًّا رئيسيًّا.
في الأثناء، تكتفي الإدارة الأمريكية بفرض عقوبات اقتصادية على روسيا، وهي تعلم جيدًا أن هذه العقوبات ستعود عليها بأضرار اقتصادية هي الأخرى، ولن يكتفي تأثيرها بالأموال الروسية، ففي عالم الاقتصاد البائع والمشتري سيتضرران من العقوبات وما تفرزه من رفع الأسعار.
وقد تبيّن للغرب أن مفعول هذه العقوبات سيكون له ردّة فعل عكسية على الاقتصاد العالمي وعلى اقتصاد الدول الأوروبية والولايات المتحدة، وسيكون أكبر من تأثيره الفعلي على الوضع الاقتصادي في روسيا، التي جهّزت نفسها مسبقًا لسيناريو العقوبات، وفي دولة رأسمالية مثل الولايات المتحدة سيكون لكبار أصحاب الأموال كلمتهم، خصوصًا أولئك المنتفعين من الاقتصاد الروسي ورؤوس أمواله.
مهما تصاعد الغزل بين الولايات المتحدة و”إسرائيل”، ومهما أسدلت الدولة العظمى بظلال قوتها على صغيرها في الشرق الأوسط في مواجهاته مع الفلسطينيين، إلا أن لأمريكا حساباتها وقت المواجهات العظمى، الذي ترى فيه أمنها القومي ومصلحتها الاقتصادية أهم من دعم حليفٍ أو خوض حرب إلى جانبه.