تواصل القوات الروسية هجماتها المكثفة على المدن الأوكرانية لليوم الخامس من الغزو، حيث شهدت بعض المدن لا سيما خاركيف (ثاني أكبر مدن البلاد شرقًا) قتالًا عنيفًا بين الروس والجيش الأوكراني، وسط استمرار المقاومة الأوكرانية التي نجحت حتى الآن في إبطاء سيطرة الجيش الروسي على العاصمة كييف، يتزامن ذلك مع عقد وفدي البلدين اجتماعًا اليوم في بيلاروسيا في محاولة لتبريد الأزمة مرحليًا من أجل التوصل إلى اتفاق.
واستشعارًا منه بالقلق إزاء التطورات التي يشهدها ميدان القتال، وفشل قوات بلاده في حسم المعركة كما كان متوقعًا، أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أنه “سيضع قوات الردع النووية التابعة للجيش الروسي في حالة تأهب قتالي خاص”، وهو التصريح الذي أثار الكثير من الجدل والغضب معًا.
وبالتزامن مع التصعيد الميداني يواصل الاقتصاد الروسي نزيفه جراء العقوبات الغربية المتصاعدة يومًا تلو الآخر وفق متوالية مثيرة للتساؤلات، فقد انخفض الروبل الروسي بنحو 41.6% مقابل الدولار صباح اليوم، ما دفع البنك المركزي الروسي إلى رفع سعر الفائدة الرئيسي من 9.5 إلى 20% لمواجهة مخاطر هذا الانخفاض وارتفاع التضخم، فيما تهاوت البورصة وسط موجة من تجميد الأصول ووقف التعامل مع الاستثمارات الروسية.
على الجانب الإنساني، فقد أسفرت الحرب منذ اندلاعها عن مقتل 352 مدنيًا، بينهم 14 طفلًا، وإصابة 1684 مدنيًا، بينهم 116 طفلًا، وفق البيانات الرسمية الصادرة عن وزارة الصحة الأوكرانية، فيما أعلنت مفوضية اللاجئين التابعة للأمم المتحدة تجاوز أعداد اللاجئين الأوكرانيين 368 ألفًا، وسط توقعات بارتفاع هذا العدد ساعة بعد الأخرى.
Talks between Ukraine and Russia have started, says Ukraine presidential advisor https://t.co/HFeWqfQ6b4 pic.twitter.com/ryHiAnkkWu
— Reuters (@Reuters) February 28, 2022
تعدد جبهات القتال
يعتمد الجيش الروسي في إستراتيجية المواجهة على إصابة القدرات الجوية والدفاعية الجوية الأوكرانية بالشلل التام، وهو ما يفسر استهدافه للمطارات الحربية ومخازن التزود بالوقود، بما يؤمن التغطية الجوية لتقدمه البري الذي بات متجمدًا نسبيًا على مشارف العاصمة كييف خلال اليومين الماضيين تحديدًا رغم دوي الرشقات التي تضيء سماء العاصمة بين الحين والآخر.
وبجانب الاشتباكات الدائرة على حدود كييف (على بعد 11 كيلومترًا من وسط العاصمة) هناك معارك ضارية أخرى في إقليم دونباس الشرقي، حيث يواصل الانفصاليون المدعومون من موسكو زحفهم نحو بعض المدن والمناطق التي سقط بعضها في أيديهم، غير أن الأمور لم تحسم بعد رغم الدعم الروسي الكبير لتلك القوات وتمركز الغالبية العظمى من وحدات الجيش الأوكراني في العاصمة.
الصور الملتقطة عبر الأقمار الصناعية وبثتها وكالات الأنباء، مساء أمس، تشير إلى تعرض مطار هوستوميل قرب كييف، لأضرار بالغة نتيجة الاستهداف الروسي، كما أظهرت انتشارًا كبيرًا لبعض الوحدات التابعة للقوات البرية الروسية، مدعومة بمئات المركبات العسكرية، في قافلة شمال شرق مدينة إيفانكيف (40 ميلًا تقريبًا من العاصمة).
أعلن الغرب عن حزمة مساعدات لأوكرانيا ربما تكون الأكبر لأي دولة خارج أعضاء الناتو
وفي تطور لافت ربما يكون الأول من نوعه، اعترفت روسيا على لسان المتحدث باسم وزارة الدفاع إيغور كوناشينكوف، بوقوع قتلى وجرحى وأسرى في صفوف قوات بلاده، لكنه ألمح إلى أن خسائر القوات الأوكرانية أكبر بأضعاف، هذا في الوقت الذي قالت فيه وكالة الأنباء الأوكرانية إن الجيش الأوكراني قصف رتلًا من الآليات العسكرية الروسية بالقرب من منطقة ماكاريف (60 كيلومترًا من كييف) كما أفادت بارتفاع عدد القتلى الروس في المعارك الجارية إلى 4500 قتيل على حد قولها.
وبصرف النظر عن حقيقة هذا الرقم وما إذا كان يعبر عن الأوضاع الميدانية فعليًا أم يأتي في إطار الحرب النفسية المستعرة بين الجانبين، فإن كل المؤشرات تذهب إلى تكبد الروس خسائر كبيرة خلال الأيام الثلاث الماضية، بعد الحديث عن وصول دعم عسكري غربي لأوكرانيا والإعلان عن جيش رديف من الشعب الأوكراني لمؤازرة الجيش النظامي في معركة التحرير.
دعم غربي غير مسبوق
أعلن الغرب عن حزمة مساعدات لأوكرانيا ربما تكون الأكبر لأي دولة خارج أعضاء الناتو، فكما جاء على لسان رئيس المجلس الأوروبي شارل ميشيل، هناك دعم للجيش الأوكراني بأسلحة ومعدات بقيمة 500 مليون يورو، وأن تلك المساعدات في طريقها إلى كييف، هذا بجانب وقف التعامل مع المصرف المركزي الروسي، وفق ما تم الاتفاق عليه من وزراء الخارجية الأوروبيين الذين اجتمعوا في بروكسل أمس.
الاتحاد الأوروبي أغلق هو الآخر مجاله الجوي أمام الطيران الروسي، كما فرض عقوبات على بيلاروسيا التي كانت بمثابة منصة للقوات الروسية لاستهداف المواقع الأوكرانية، فيما أعلنت ألمانيا تزويد كييف بألف صاروخ مضاد للدبابات ورفعت إنفاقها العسكري، في تحول يوصف بـ”التاريخي” لسياساتها الدفاعية، كما ستقدم كندا ما قيمته 17.6 مليون يورو من معدات الحماية العسكرية للجيش الأوكراني، حسبما أعلنت وزيرة الخارجية ميلاني جولي.
كما أعلنت الحكومة البريطانية أنها ستقدم مشروع قانون غدًا يهدف إلى مكافحة الجريمة الاقتصادية وما أسماه “الأموال القذرة” لاستهداف مقربين من الرئيس بوتين، فيما تخلت عملاق النفط البريطاني “بريتيش بتروليوم” عن حصتها في شركة النفط الروسية العملاقة “روسنيفت” لتنهي بذلك مسيرة عمل استمرت قرابة 30 عامًا.
أسفرت العقوبات الغربية التي تشهد توحدًا لم تعهده دول الغرب منذ عقود طويلة، عن تكبيد الاقتصاد الروسي خسائر فادحة، تجسدت في تهاوي سعر العملة الوطنية ومعاملات أسواق المال والبورصات، بجانب القلق الذي يخيم على رؤوس الأموال والاستثمارات الأجنبية
دول مجموعة السبع الكبرى وافقت هي الأخرى على تسليم أسلحة إضافية إلى أوكرانيا، وفق ما جاء في تغريدة لوزيرة الخارجية البريطانية ليز تروس، قالت فيها عقب اجتماع وزراء خارجية المجموعة، أمس الأحد: “كنا واضحين أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يجب أن يفشل ويجب استعادة السيادة الأوكرانية” وأضافت “اتفقنا على مواصلة تسليم الأسلحة والمعدات الدفاعية لأوكرانيا، وزيادة العقوبات لإضعاف الاقتصاد الروسي”.
أمريكيًا.. أكد المتحدث باسم الخارجية نيد برايس أن بلاده ستضاعف مساعداتها العسكرية إلى أوكرانيا حال استمرار روسيا في حربها، منوهًا أن إدارة الرئيس جو بايدن جاهزة للحوار شريطة أن تكون هناك جدية روسية، فيما أكد البنتاغون أن عضوية حلف شمال الأطلسي (ناتو) أمر تقرره دول الحلف والدولة المعنية بالعضوية، وليس أمرًا يمتلك بوتين حق النقض تجاهه، في إشارة إلى تهديد موسكو باتخاذ الإجراءات اللازمة حال انضمام السويد وفنلندا لعضوية الحلف.
وقد أسفرت العقوبات الغربية التي تشهد توحدًا لم تعهده دول الغرب منذ عقود طويلة، عن تكبيد الاقتصاد الروسي خسائر فادحة، تجسدت في تهاوي سعر العملة الوطنية ومعاملات أسواق المال والبورصات، بجانب القلق الذي يخيم على رؤوس الأموال والاستثمارات الأجنبية لا سيما بعد التلويح بعزل موسكو عن نظام سويفت المالي، وهو التهديد الذي لو تحقق سيكون له آثاره الكارثية رغم صعوبة تنفيذه عمليًا.
ومن المقرر أن يعقد أعضاء الأمم المتحدة جلسة استثنائية لهم اليوم بناء على الدعوة التي قدمها مجلس الأمن بالأمس، لمناقشة الوضع الأوكراني، وهي الجلسة التي تعكس حجم الاهتمام الدولي بهذا الملف، إذ لم يطلب عقد جلسة طارئة بهذا الشكل منذ أربعين عامًا، وبعيدًا عن النتائج المتوقعة التي في الغالب ستفتقد لإلزامية التنفيذ، إلا أنها تمثل ضغطًا كبيرًا على موسكو وحلفائها داخل المجلس.
وكان الرئيس الأوكراني قد تعهد بالدفاع عن بلاده وعدم الاستسلام مهما كانت السيناريوهات، كاشفًا خلال تسجيل صوتي له من أمام مكتبه في العاصمة، أن ما يثار بشأن مغادرته لأوكرانيا عار تمامًا من الصحة رغم عرض بريطانيا باستضافته فوق أراضيها، مؤكدًا “لن نلقي السلاح، سندافع عن دولتنا”.
صواريخ ستينغر في #أوكرانيا.. تعرّف إلى الصاروخ الذي اكتسب سمعة كبيرة عن مدى فعاليته، وارتبط في الذاكرة بالحرب الأفغانية ضد الاحتلال السوفيتي#اوكرانيا_روسيا #الحرب_الاوكرانية_الروسية pic.twitter.com/hbvukPG26Y
— نون بوست (@NoonPost) February 28, 2022
محركات الغرب لتغيير موقفه
كانت كل المؤشرات بداية الحرب تذهب إلى تخلي الغرب عن أوكرانيا بشكل دفع الرئيس زيلينسكي إلى اتهام أوروبا والولايات المتحدة بالخذلان وأنهم تركوه وشعبه وحدهم يدافعون عن بلادهم دون أي غطاء من الدعم الذي وعدوه به قبل ذلك، لكن مع تطورات الأحداث أبدى التكتل الغربي ردود فعل كانت مفاجئة للجميع، دعم غير مسبوق، لم تشهده أي دولة قبل ذلك رغم تشابه التجارب التاريخية خلال العقود الماضية.
التحول الجذري في الموقف الغربي إزاء الحرب الروسية الأوكرانية أثار الكثير من التساؤلات عن دوافعه الحقيقية، بعيدًا عن شعارات الدفاع عن سيادة الدول وحماية المدنيين وانتصار للقانون، فهناك عشرات التجارب في الدول الأخرى التزم الغرب فيها الصمت – إن لم يكن داعمًا للمحتلين والغزاة والأنظمة السلطوية الديكتاتورية -، كما هو الحال في فلسطين وسوريا والعراق واليمن وغيرهم دون أن يحرك ساكنًا رغم الإبادات الجماعية التي تتعرض لها شعوب تلك البلدان.
الدافع الأبرز وراء هذا التحول استشعار الخطر السياسي من وراء تجاهل موسكو لنداءات الغرب، إذ باتت سمعة الغرب بأكمله على المحك بعدما تجاوز بوتين الخط الأحمر الذي وضعه الناتو بشأن اقتحام الأراضي الأوكرانية، كما أن استغاثات زيلينسكي واتهامه للغرب بالتخلي عنه زادت من قتامة الوضعية الحرجة لزعماء أوروبا وأمريكا، وعليه كان التحرك (الذي شمل كذلك الدول المتضررة اقتصاديًا من معاقبة روسيا كألمانيا وفرنسا) لإنقاذ تلك الصورة من التشويه الذي بلا شك سيسحب بساط التفوق من تحت أقدام الغرب لصالح المعسكر الشرقي بقيادة روسيا والصين.
من خلال المؤشرات الميدانية وتطورات الحراك خارج الحدود يبدو أن روسيا ستعيد النظر في حساباتها العسكرية بشأن التوغل داخل أوكرانيا
ارتكان سوق الطاقة الأوروبي وما له من تأثير بأيدي الروس الذين يلبون 40% من احتياجات الغرب من الغاز، كان مصدر قلق واضح لدى شعوب أوروبا وقادتها، لا سيما أن موسكو كثيرًا ما توظف هذا السلاح لابتزاز الغرب بهدف تحقيق أهداف سياسية أو اقتصادية.
ومن ثم فإن تقزيم هذا السلاح في أيدي روسيا – وإن كان له آثاره السلبية القريبة – سيحرر أوروبا من هذا القيد، ولو حتى على المستوى البعيد، ما سيساعد في الحفاظ على الاستثمارات والمصالح الغربية في مأمن من التعرض لأي هزات ربما تأتي بنتائج عكسية وتصيب الاقتصاد الأوروبي بالشلل كما البيوت بالتجمد.
هناك بعد دعائي آخر في هذا التحول اللافت في الموقف الغربي، إذ يبحث كل من جو بايدن وإيمانويل ماكرون، على وجه التحديد، عن انتصار سياسي رمزي يعوضان به الفشل على المستوى الداخلي واستعادة بعض الشعبية المتراجعة التي حتمًا ستؤثر على فرص كليهما في الانتخابات القادمة، خاصة أن كلا الزعيمين يواجهان اتهامات وانتقادات حادة من الشارع بسبب السياسة الخاطئة في إدارة الكثير من الملفات، الداخلية والخارجية.
يبدو من خلال المعطيات السابقة أن روسيا ستعيد النظر في حساباتها العسكرية بشأن المزيد من التوغل داخل أوكرانيا، وهو ما يمكن قراءته في التراجع النسبي على حدود العاصمة خلال الساعات الأخيرة تزامنًا مع عقد أولى جلسات الحوار بين حكومتي البلدين في بيلاروسيا، ما يشير إلى إعطاء موسكو الفرصة للحل الدبلوماسي للخروج من هذا المأزق، لكنه التراجع الذي قد يكون تكتيكيًا لكسب المزيد من الوقت لتعزيز الدعم أو للوقوف على مدى صدق الوعود الغربية بتسليح الأوكرانيين، وعليه فإن كل الاحتمالات مطروحة ميدانيًا وإن كانت بدرجات متفاوتة.