ترجمة وتحرير: نون بوست
بالنسبة للأوكرانيين، تُعرف مدينة خاركيف بالشعر والفن والتجارة والصناعة والاكتشافات العلمية، ولكنها باتت حاليًا تُمثّل محور النضال من أجل مستقبل أوكرانيا.
على بعد 25 ميلا فقط من روسيا، واجهت ثاني أكبر مدينة في أوكرانيا بعض أعنف المعارك منذ أن توغلت القوات والدبابات والطائرات الحربية الروسية عبر الحدود يوم الخميس. وفي خضم هذه الحرب، لا يوجد إحصاء رسمي لعدد الضحايا في خاركيف، حيث تعرضت الملاعب والمباني السكنية للقصف.
ويوم الأحد، سيطرت القوات الروسية لفترة وجيزة على المدينة التي يبلغ تعداد سكانها 1.5 مليون نسمة قبل أن يطردها الجيش الأوكراني بعد ذلك بساعات في عرض قويّ للمقاومة تجاوز التوقعات إيذانا بالمرحلة الأولى من الغزو الروسي.
لكن من غير المرجح أن تتراجع موسكو عن هجومها على خاركيف، المدينة التي يتحدث أغلب سكانها اللغة الروسية، والتي أصبحت نقطة محورية لتقدم روسيا إلى ما بعد الجزء الشرقي من البلاد خاصة أمام ما تواجهه من انتكاسات في السيطرة على العاصمة كييف.
يقول مايكل كوفمان، مدير برنامج الدراسات الروسية في مركز أبحاث “سي إن أي”، وهي منظمة غير ربحية للأبحاث والتحليل في فرجينيا، إن “الحملة العسكرية الروسية استندت إلى اقتراح يفيد بأن الروس قادرون على تحقيق مكاسب سريعة دون أن يواجهوا مقاومة قوية. لكن المقاومة في الجزء الشرقي من أوكرانيا أقوى مما هي عليه في بقية المناطق الأخرى”. وقد أطلق كوفمان على مدينة خاركيف اسم “مركز الدعم” الذي يحافظ على رباطة جأش الجبهة الشرقية.
ويضيف كوفمان أنه مع اشتداد القصف الروسي قد تكون خاركيف محور المرحلة التالية الأكثر دموية في الحرب بعد أن تبددت آمال روسيا في تحقيق نصر سريع. وهو يوضّح أن “القوات الأوكرانية خاضت معركة قوية جدا، لكن الأسوأ لم يأت بعد. لم تحاول القوات الروسية حتى الآن التعامل مع خاركيف على محمل الجد”، مشيرًا إلى أن زيادة عدد القوات البرية إلى جانب القصف العنيف للمدينة “يمكن أن يكون مدمرًا للغاية” بالنسبة للمدنيين والبنية التحتية على حد سواء.
لطالما اعتُبرت خاركيف هدفًا محتملًا في الفترة التي سبقت الغزو الروسي مع حشد موسكو قوات في منطقة تجمّع في بيلغورود على بعد 90 دقيقة فقط شمال شرق المدينة. وعند تركيزه على خاركيف، ربما اعتقد الكرملين أنه سيواجه مقاومة أقل من سكان المدينة الذين يتحدث أغلبهم اللغة الروسية على افتراض أنهم أكثر تعاطفًا مع موسكو، ناهيك عن أن العديد من سكان خاركيف لديهم عائلة أو يقومون بأعمال تجارية عبر الحدود.
وحسب ما قالته مذيعة التلفزيون الحكومي الروسي أولغا سكابييفا الأسبوع الماضي فإن “الناس في مدينة خاركيف يواجهون مشكلة واحدة فقط مع الجيش الروسي وهي “لماذا استغرقتم كل هذا الوقت؟”. ولكن على امتداد الأربعة أيام الماضية في خاركيف، احتشد الأوكرانيون معًا في مواجهة التهديد المشترك للغارات الجوية.
يوم الأحد، شارك سيرهي زهادان، أحد أشهر الشعراء الأوكرانيين، من مسقط رأسه في خاركيف منشورًا على فيسبوك يشكر فيه أولئك الذين ساعدوا مقاتلي المدينة: “لقد قُتلتم على يد الروس، سواء أردتم ذلك أم لا. ربما لم تريدوا ذلك على ما أعتقد”.
في البداية، أبقت القوات الأوكرانية المقاتلين الروس خارج المدينة مع انتشار العديد من الصور ومقاطع الفيديو على منصات التواصل الاجتماعي التي تظهر معدات عسكرية روسية مدمرة في ضواحي خاركيف. وفي ليلة السبت وصباح الأحد، شنت القوات الروسية قصفًا مكثفًا – بشكل أساسي من أنظمة صواريخ متعددة الإطلاق – على الأجزاء الشمالية الشرقية من المدينة. ويوم الأحد، توغلت الآليات العسكرية الروسية في خاركيف.
بحلول فترة ما بعد الظهر، استرجع الأوكرانيون بعد ساعات من المعارك السيطرة على المدينة، على الأقل في الوقت الحالي. ومن خلال العلامة في شكل حرف “زد” التي وضعتها القوات الروسية على مركباتها العسكرية لمنع النيران الصديقة، أصبحت مواقعها أكثر وضوحًا لسكان خاركيف عن غير قصد: حيث نشروا على قنوات “تلغرام” مواقع القوات التي رأوها تدخل المدينة للجيش الأوكراني وقوات الدفاع الإقليمية.
بعد ظهر يوم السبت، قبل ساعات من مواجهة المدينة لأقوى هجوم حتى الآن، أقبل مئات الأشخاص على مقر الدفاع الإقليمي في خاركيف للتطوع في قوة الاحتياط المدنية وحمل السلاح لصد التقدم الروسي.
قدّر فيكتور تروبشانوف، الناشط وعضو وحدة الدفاع الإقليمي المحلية، أن المجموعة تضم ما لا يقل عن 700 عضو مضيفا أنه “لم يكن من المتوقع أن يتطوع الكثير من الناس، وللأسف لم نكن مستعدين بشكل صحيح لذلك. لقد وجد القائد الآن ما يكفي من الأزياء الرسمية والأسلحة والدعم وكل ما هو مطلوب”.
كان من الممكن أن تسير خاركيف في طريق مختلف. فقبل ثماني سنوات عندما أطاح المتظاهرون بالرئيس الأوكراني الموالي لروسيا فيكتور يانوكوفيتش لصالح حكومة موالية لأوروبا، فر الزعيم المهزوم أولا نحو الشرق من كييف إلى خاركيف قبل أن يسافر إلى روسيا. وفي وقت لاحق من سنة 2014، عندما استولى الانفصاليون المدعومون من روسيا على منطقتي دونيتسك ولوغانسك الشرقية بأوكرانيا، سيطرت إحدى الجماعات لفترة وجيزة على مجلس مدينة خاركيف، معلنة أنها جمهورية خاركيف الشعبية.
وفي تجمع حاشد في خاركيف في سنة 2015 لإحياء ذكرى مرور سنة على الإطاحة بالرئيس يانوكوفيتش، انفجرت قنبلة مما أسفر عن مقتل شخصين. وكان ذلك الانفجار واحدا من ضمن العديد من الانفجارات التي هزت المدينة في تلك الأشهر المضطربة بعد الثورة التي كانت خاركيف تكافح فيها حركات التمرد. وقال مسؤولون أوكرانيون إن روسيا كانت مسؤولة عن الهجوم الذي شُن أثناء المسيرة.
لكن سرعان ما تفككت حركات التمرد. وقد ساهمت ثماني سنوات من الحرب بين الانفصاليين والقوات الحكومية الأوكرانية على بعد بضع ساعات فقط جنوب شرق خاركيف في تغيير مشاعر سكان المدينة وترجيح كفّة الجانب الأوكراني.
إن تاريخ خاركيف ومصادر انقساماتها وقوتها أعمق من ذلك بكثير. ويقول تيموثي سنايدر، أستاذ التاريخ بجامعة ييل، إن خاركيف تأسست سنة 1654 وأصبحت الحياة الجامعية للمدينة مركزا للحركة الوطنية الأوكرانية في عشرينات القرن التاسع عشر. وقد اختيرت خاركيف لاحقًا كأول عاصمة للجمهورية السوفيتية الجديدة لأوكرانيا من سنة 1920 إلى سنة 1934.
ويضيف سنايدر أن “خاركيف كانت المركز العالمي للثقافة الأوكرانية في عشرينات القرن الماضي”. وعلى حد تعبيره، دعم القادة السوفييت في البداية تطوير المدينة للفن والأدب، ليموت “الجيل الأوكراني من صناع الثقافة” خلال عمليات التطهير في الثلاثينات.
خيّم شبح الموت على المدينة خلال المجاعة الكبرى في أوكرانيا ما بين سنة 1932 و1933، وهي كارثة من صنع الإنسان تُعرف باسم “هولودومور” تسببت فيها سياسات الزراعة وإعادة التوزيع السوفيتية. وقد أصبحت حينها خاركيف “المدينة التي يموت فيها الفلاحون” بينما كان الجوعى يتجمّعون في المدينة للتسول، وفقًا لسنايدر.
خلال الحرب العالمية الثانية، كما هو الحال في العديد من المدن السوفيتية، تعاونت السلطات المحلية في خاركيف مع النازيين الألمان. وبين كانون الأول/ ديسمبر 1941 وكانون الثاني/ يناير 1942، قُتل الآلاف من اليهود في خاركيف رميًا بالرصاص أو خنقًا بالغاز في شاحنات صغيرة.
عمومًا، تظهر التذكيرات بهذه التواريخ المؤلمة في المباني المنتشرة في شوارع خاركيف بدءًا من القصور الأرستقراطية وصولًا إلى الهياكل الستالينية الكلاسيكية الجديدة، والكاتدرائيات، ونصب الشعراء التذكارية، والمراكز الثقافية الحديثة.
يوم الأحد، في ظل احتماء السكان في الملاجئ ومحطات مترو الأنفاق، كانت الطرق خالية وساد هدوء غريب وغير مؤكد مرة أخرى.
المصدر: واشنطن بوست