ألقى سيمون سيرفاتي، في مقالة له بعنوان “الحركة نحو عالم ما بعد الغرب”، نظرة شاملة على اللاعبين الرئيسيين في عالم اليوم، والعلاقة بينهم، إذ أشار إلى أن عصر القطبية الأحادية المهيمنة على شؤون التفاعلات العالمية الذي نشب بعد الحرب الباردة، بتفاعلاته وقواه، قد ولّى إلى غير رجعة.
كما يستبعد سيرفاتي، وهو بروفيسور أمريكي في السياسات الخارجية، أن يعود العالم إلى مرحلة القطبية الثنائية، كما أشار إلى أنه رغم تراجع القوة الأمريكية، إلا أنه لا يوجد على المسرح العالمي أية قوة يمكنها أن تفرض سطوتها وسيطرتها على الولايات المتحدة كما تفعل هي الآن، أو على الأقل الوصول إلى مرحلة الندّية معها.
يقترب مع هذا الطرح ألكسندر دوغين، المفكر الروسي والعقل الاستراتيجي للرئيس فلاديمير بوتين، الذي يقول إن نهاية الحرب الباردة كانت تعني القطبية الثنائية، واليوم ما يحصل هو نهاية للأحادية القطبية وبداية التحول نحو التعددية القطبية.
وفي حديثه عن الأزمة الأوكرانية، يقول دوغين إن العلاقات بين روسيا والولايات المتحدة أصبحت متوترة للغاية، لدرجة أن البشرية ليست على شفا حرب باردة (كانت مستمرة منذ فترة طويلة)، بل على وشك حرب نووية، الحرب العالمية الثالثة، مع تأكيده أنه في أكثر من مناسبة نصحَ بوتين بضرورة غزو أوكرانيا إذا ما أراد أن يضع حدًّا لهذا التوتر.
هاجس الجغرافيا وصراع القطبية
يتحدث الكاتب الإنكليزي تيم مارشال في كتابه “سجناء الجغرافيا”، عن أن بوتين رجل متديّن ويحرص دائمًا على مناجاة ربه، بل الأكثر من ذلك لطالما يردِّد هذه العبارة: “يا رب لماذا لم تجعل بيني وبين أوكرانيا سلاسل من الجبال؟”.
إذ لا يختلف أحد على أن بوتين رجل محكوم بهاجس الجغرافيا، ويدرك جيدًا أن بقاء أوكرانيا بوضعها الحالي، وقيادتها السياسية الطامحة للانضمام إلى المعسكر الغربي ودرعه العسكري “الناتو”، يعني أنها ستبقى عقبة كبيرة في طريق طموحه نحو العالمية، وتعديل النظام الدولي بالشكل الذي يُكسب “روسيا البوتينية” مزيدًا من التأثير والنفوذ في العالم.
كما أنه يعتبر أوكرانيا اليوم لا تختلف كثيرًا عن أوكرانيا السابقة التي كانت ممرًّا للحملات العسكرية الكبرى، التي قادها نابليون بونابرت في القرن التاسع عشر، وأدولف هتلر في القرن العشرين، ضدّ الأراضي الروسية.
إن إصرار بوتين الحديث المستمر عن روسيا التاريخية، وتأكيده على انتماء أوكرانيا لها، فضلًا عن ترسيخ فكرة المجال الحيوي الروسي، واعتباره جزءًا من الأمن القومي الروسي، بسبب رغبته بإحداث تقسيم جديد للخارطة العالمية، سواء على مستوى الانتشار العسكري، أو ممرّات النقل البحرية والبرّية، أو جيوبوليتيك الطاقة المتحكمة بالأسواق النفطية، حيث إنه حاول طوال الفترة الماضية ترسيخ الحضور الروسي في أكثر من مسرح، بدءًا من آسيا الوسطى والشرق الأوسط واليوم في وسط أوروبا.
طموحات بوتين لإعادة تشكيل روسيا كقوة عظمى كانت محدودة باقتصاد بلاده المتراجع، الذي يساوي حجم الاقتصاد الإيطالي حاليًّا
وفي هذا الإطار، يؤكّد دوغين أنه من الضروري فقط أن نفهم أن الأمر لا يتعلق بهجوم دولة على أخرى، ولكنه يتعلق بعمليات الجغرافيا السياسية الكبرى، فبنظر بوتين؛ عندما كانت موسكو ضعيفة ومحكومة من قبل الحمقى أو العملاء المباشرين للنفوذ الغربي، خسرت أوكرانيا، التي وقعت في أيدي السياسيين القوميين المتطرفين الذين اختارهم الغرب فورًا.
وعندما بدأ بوتين في استعادة سيادة روسيا وقوتها كقوة عظمى، ظهرت القضايا الأوكرانية في المقدمة، وكان مستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق، زبغنيو بريجينسكي، مقتنعًا أنه من دون أوكرانيا لا يمكن لروسيا أن تصبح قطبًا سياديًّا لعالم متعدد الأقطاب، وكان محقًا في ذلك، فقد حددت روسيا اليوم مسارًا ثابتًا لتصبح مثل هذا القطب.
طموحات جيوسياسية وتحدّيات عالمية
طموحات بوتين لإعادة تشكيل روسيا كقوة عظمى كانت محدودة باقتصاد بلاده المتراجع، الذي يساوي حجم الاقتصاد الإيطالي حاليًّا، كما أن انكماشه ما زال مستمرًّا، وتعاني روسيا بالفعل من العقوبات المفروضة عليها من الغرب بعد غزوها جزيرة القرم عام 2014، وهي عقوبات ستزداد تأثيرًا بعد غزوها أوكرانيا مؤخرًا.
كما أنها ستواجه صعوبات كبيرة مع مجموعة دول أوبك بلس، فيما يتعلق بتحديد السياسات النفطية من جهة، واحتمالية عزلها عن النظام الاقتصادي العالمي بعد إيقاف التعامل معها وفق منظومة “سويفت” من جهة أخرى، وهي تحديات ستكون حاضرة في تحديد حيوية الطموحات الروسية، فالآلة العسكرية وحدها لا تكفي لإحداث تعديلات جذرية في هيكل النظام الدولي.
إن التحرك الروسي الأخير حيال أوكرانيا ليس من أجل تغيير النظام السياسي فيها، كما طالب بذلك بوتين عبر دعوته للجيش الأوكراني الاستيلاء على السلطة، وإنما هو تحرك ضمن منظور استراتيجي عالمي شامل، يتمثّل بإعادة إنتاج نظام دولي عادل، يوازن ما بين التعثُّر الأمريكي والصعود الروسي والعجز الأوروبي.
كما أنه يحاول إيجاد حالة وفاق مع الصين، التي تبدو هي الأخرى الرابح الوحيد من الأزمة الأوكرانية حتى اللحظة، فروسيا ستواجه تداعيات العقوبات المدمِّرة، والولايات المتحدة ستواجه تداعيات التخلي عن أوكرانيا، فيما ستجدُ الصين الطريق مفتوحًا لكسب مزيد من الحلفاء، وهو ما يضع الكثير من التساؤلات حول طبيعة النظام العالمي الجديد.
إن خطاب بوتين الذي أعلنَ فيه اعتراف روسيا باستقلال منطقتَين انفصاليتَين في أوكرانيا، وأنها ستنشر قوات عسكرية هناك كـ”قوات حفظ سلام”، وفي حين أنه لا يزال من المستحيل معرفة كيف ستنتهي الحرب على وجه اليقين، إلا أن إحدى نتائجها مؤكدة بالفعل: لم يعد هناك مجال لاستخدام مصطلحات مثل “المنافسة الاستراتيجية” أو “توترات القوى العظمى” لوصف العلاقات بين الغرب وروسيا، بل نحن في حرب باردة جديدة.
ستحدد نتائج الغزو الروسي لأوكرانيا شكل النظام العالمي الجديد: إذا خسر بوتين معركته لإخضاع أوكرانيا، فسيكون للنظام الجديد أساس متين وواعد؛ أما إذا فاز بوتين، فإن الحقبة الجديدة ستكون “خطيرة للغاية بالفعل”.
ما يجري في أوكرانيا اليوم هو مقدّمات مخاض عسير لإعادة تشكيل نظام عالمي جديد، لا نعرف أين سينتهي، فكل السيناريوهات مفتوحة
إن الحرب في أوكرانيا أكبر بكثير من مجرد مسألة تتعلق بأمن دولة ذات سيادة، بل إن الحرب في تلك الدولة الواقعة في شرق أوروبا هي نزال من أجل واقع عالمي مختلف لا تهيمن فيه الولايات المتحدة وحدها على قواعد اللعبة، وإن رواية بوتين للتاريخ القصد منها تبرير الاعتداءات الروسية والقوى الموالية لها على الأراضي الأوكرانية، وتعريف الحدود الحضارية على أنها جزء ممّا يسمّيه “العالم الروسي”.
وقد كشفَ بوتين ضعف الغرب في وقت تعاني فيه الديمقراطية الليبرالية من أزمة، وتتعرض للهجوم من عناصر غير ليبرالية وغير ديمقراطية من اليسار واليمين على حد سواء، فالعقوبات المفروضة على روسيا ستكشف على الأرجح أن الولايات المتحدة وأوروبا لن تستطيعا منع بوتين من إرساء النظام الدولي الذي يتيح له بناء أمبراطوريته في حدود الاتحاد السوفيتي السابق، أو في الأراضي التي يمكنه أن ينشئ فيها بؤرًا استيطانية لتحقيق المزيد من الخسائر في المعسكر الغربي، وينبغي منذ هذه اللحظة إقامة بنية جديدة للعلاقات العالمية التي ستعتمد ملامحها على نجاح حملة بوتين الوحشية أو فشلها.
ما يجري في أوكرانيا اليوم هو مقدّمات مخاض عسير لإعادة تشكيل نظام عالمي جديد، لا نعرف أين سينتهي، فكل السيناريوهات مفتوحة، بما فيها حرب بين القوى العظمى، وإن كانت غير مرجّحة، وفي كل الأحوال إن العالم مقبل على حقبة جديدة من الاستقطاب، لا نعرف ملامحها بعد، هل ستكون حربًا باردة بين أقطاب متعدّدة، إن بقيت التحالفات ذاتها قائمة، أم أنها ستكون حروبًا تجارية أو حروبًا بالوكالة.