يبدو أن سقوط العاصمة الأوكرانية كييف في قبضة القوات الروسية بات مسألة وقت في ظل الحشد العسكري غير المسبوق، حيث يطوق الروس المدينة عبر قافلة تمتد على مسافة 27 كيلومترًا وتضم مئات المركبات المدرعة والدبابات وقطع المدفعية ومركبات دعم لوجيستي، وفق الصور التي التقطتها شركة “ماكسار” للأقمار الاصطناعية، وذلك في اليوم الخامس للحرب.
وبعد ساعات قليلة من انتهاء أولى جلسات الحوار الأوكراني الروسي التي عقدت بالأمس في بيلاروسيا، دون أن تسفر عن شيء إلا الاتفاق على جلسة ثانية، كثفت القوات الروسية من هجماتها ضد العاصمة الأوكرانية، دون تفرقة بين أهداف مدنية وعسكرية، لتقبع أحياء بأكملها من المدينة والمناطق المجاورة لها في ظلام دامس جراء استهداف محطات الوقود والطاقة الكهربائية.
يتزامن التصعيد الروسي مع تجييش أوكراني من نوع آخر، فقد دعا الرئيس فلاديمير زيلينسكي إلى تشكيل فيلق دولي يضم المقاتلين الأجانب الراغبين في الانضمام للجيش الأوكراني في مواجهة القوات الروسية، يرافقه إعلان العديد من الدول الغربية مواصلة الدعم العسكري المقدم للأوكرانيين ومزيد من تضييق الخناق على روسيا ومحاولة عزلها دوليًا لإجبارها على وقف توغلها داخل أراضي جارتها.
ومع دخول العقوبات الاقتصادية التي فرضها الغرب على موسكو، حيز التنفيذ في يومها الأول، وأبرزها عزل بعض البنوك عن نظام سويفت وتجميد أرصدة عدد من المقربين من الرئيس فلاديمير بوتين، وما نجم عن ذلك من تداعيات مؤلمة على الاقتصاد الروسي رغم محاولات الإنعاش الأخيرة، فضلًا عن إخطار تركيا لجميع الدول بمنع دخول السفن الحربية عبر مضيقيها، البوسفور والدردنيل، استنادًا إلى معاهدة مونترو للمضائق البحرية، الموقعة عام 1936.
وزارة الدفاع الأوكرانية أعلنت في المقابل عملها على إنشاء وحدة جديدة لاستيعاب مقاتلين أجانب يرغبون في التطوع للقتال، بعدما إعلان الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي الأحد عن هذه القوة التي أطلق عليها اسم “الفيلق الدولي”.
تحديث مستمر:https://t.co/qQosDsPzeC pic.twitter.com/xUNkcgr8Kn
— الجزيرة نت (@ajanet_ar) March 1, 2022
استهداف عشوائي
الضغوط الغربية المتتالية على بوتين، اقتصاديًا وسياسيًا ورياضيًا، بجانب الضغوط العسكرية جراء المقاومة الشرسة للأوكرانيين بعد حصولهم على الدعم العسكري الخارجي وانضمام قوات رديفة إلى صفوف الجيش النظامي، هذا بخلاف رفع سقف المطالب الأوكرانية خلال الجلسة الأولى للحوار والحديث عن انسحاب موسكو من القرم وإقليم دونباس، كل هذا أشعر الروس أن البساط يسحب من تحت أقدامهم في ظل نزيف أوراق الضغط المتواصلة على الغرب بعد التراجع ميدانيًا.
ونتيجة لتلك الوضعية الصعبة التي بات عليها بوتين رغم تفوقه بداية الأمر، كان اللجوء إلى التصعيد على كل المسارات هو الخيار الأفضل بالنسبة له، وعليه كانت الأوامر باستهداف المنشآت كافة بلا ضوابط أو معايير، يتساوى في ذلك العسكري والمدني، وهو ما كشفته التقارير الإعلامية والعسكرية الواردة من الداخل الأوكراني التي تشير إلى استهداف ممنهج للبنية التحتية والمستشفيات ومخازن الوقود والطاقة.
وتواصل روسيا خلال الساعات الحاليّة مساعيها لإقامة رأس جسر بري داخل أراضي أوكرانيا، لمساعداتها على التحرك بين المدن الرئيسية، فيما شهدت خاركيف (ثاني أكبر المدن الأوكرانية بعد العاصمة) مناوشات حادة بين الجيش الأوكراني والروسي، كانت النتيجة قصف عشوائي لكل المباني.
الوضع الملتهب في العاصمة هو ذاته المشتعل في إقليم دونباس بين القوات الأوكرانية والقوات الانفصالية الموالية لروسيا، فيما أعلنت وزارة الدفاع الروسية أن قواتها أطبقت الحصار على مدينة ماريوبول على بحر آزوف من جميع الجهات.
حالة عدم التوازن التي تخيم على موسكو إزاء التطورات الميدانية الأخيرة دفعتها إلى استخدام الأسلحة المحرمة دوليًا، كما أشارت السفيرة الأوكرانية لدى الولايات المتحدة أوكسانا ماركاروفا التي قالت في إفادة لأعضاء الكونغرس الأمريكي إن الروس “استخدموا القنبلة الفراغية اليوم، التي تحظرها بالفعل اتفاقية جنيف (…) الدمار الذي تحاول روسيا إلحاقه بأوكرانيا كبير”.
غلق المضائق.. تقليم أظافر البحرية الروسية
في خطوة ربما استبعدها البعض بداية اندلاع الحرب، أعلنت تركيا، مساء أمس الإثنين 28 فبراير/شباط 2022، إخطارها جميع الدول بمنع دخول السفن الحربية عبر مضيقيها، البوسفور والدردنيل، كما جاء في تصريح وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو، نقلته وكالة “الأناضول”.
أوغلو أشار إلى أن بلاده أخطرت جميع الدول التي تملك شواطئ على البحر الأسود، والتي لا تملك، بألا ترسل سفنها الحربية لتمر عبر البوسفور والدردنيل، مستندًا في هذا الإجراء إلى ما تسمح به معاهدة مونترو للمضائق البحرية، الموقعة عام 1936، بمنع السفن العسكرية من عبور المضائق في حالة نشوب حرب، معتبرًا أن ما يحدث الآن في أوكرانيا هو حالة حرب.
وكانت الحكومة الأوكرانية قد طلبت قبل ذلك من أنقرة غلق المضائق أمام السفن الحربية الروسية، غير أن الجانب التركي الذي أكد وقوفه على مسافة واحدة من طرفي النزاع، لم يستجب بشكل صريح لهذا الطلب، معززًا من جهوده الدبلوماسية لإنهاء الأزمة، غير أن التطورات التي شهدها ميدان القتال الساعات الماضية حولت الأمر من مجرد هجوم عسكري عابر إلى حالة حرب مكتملة الأركان بمشاركة العديد من الدول، ما دفع تركيا لاتخاذ هذا الموقف، هذا بخلاف الضغوط الممارسة من الغرب.
وقد أسفر هذا الإجراء عن إثارة غضب موسكو بلا شك، التي رأت أن في ذلك محاولة لتقليم أظافر قوتها البحرية التي تلعب دورًا محوريًا في حسم المعركة الحاليّة، ومن ثم كان الإعلان عن إجراء تدريبات عسكرية ممتدة لمسافات طويلة للقوات الروسية أقصى شرق البلاد في منطقة أستراخان التي تقع على الحدود الملاصقة لتركيا، بين الجزئين الأوروبي والآسيوي من روسيا، في رسالة اعتبرها البعض “دبلوماسية” خشنة تمارسها روسيا تجاه أنقرة ردًا على موقف الأخيرة، وهي الدبلوماسية ذاتها التي تعهد الروس باللجوء إليها مع كل الدول التي ساعدت أوكرانيا في حربها ضد روسيا.
سياسة الأرض المحروقة
وأمام مساعي العالم تضييق الخناق على روسيا من المسارات كافة (اقتصادية – سياسية – رياضية) بجانب فرض العديد من الدول حظرًا جويًا على الطيران الروسي في خطوة ربما تعزل الروس عن العالم بصفة مؤقتة، لم يعد أمام بوتين إلا اللجوء إلى “سياسة الأرض المحروقة” وهي السياسة التي اعتاد الروس استخدامها في كثير من حروبهم على مدار عقود طويلة مضت.
الحسابات الخاطئة للروس بداية الحرب وسوء تقدير حجم المقاومة الأوكرانية كبدت موسكو خسائر غير متوقعة، وجعلت من معركة كييف مستنقع نزيف متواصل لروسيا عسكريًا واقتصاديًا، وفي ظل تلك الوضعية الحرجة من تشديد الضغوط، ربما لم يجد الرئيس الروسي إلا اجتياح العاصمة الأوكرانية بأي طريقة كانت، وبأي حشد عسكري، حتى لو كلفه ذلك استدعاء الجيش الروسي برمته للمشاركة في تلك المعركة التي تحسم الكثير من الأمور بشأن مستقبل الحرب الحاليّة.
الساعات القليلة الماضية تشير إلى أن ما هو قادم لن يكون كالأيام الخمس الماضية، وهو ما ذهب إليه مراسل الشؤون الدبلوماسية في صحيفة “نيويورك تايمز”، ستيفن إرلانجر، في تحليل نشرته الصحيفة، الذي أشار إلى أن الأسوأ في تلك المعركة لم يأت بعد.
إرلانجر ومن خلال شهادة بعض المحللين العسكريين والسياسيين ذهب إلى أن موسكو ستبذل كل ما في وسعها للسيطرة على كييف خلال الساعات القادمة، مستندة في ذلك إلى عقيدتها العسكرية التي تركز على قتل المدنيين وترويع الآمنين وتدمير البنى التحتية للدول التي تغزوها لدفع سكانها إلى الفرار وإحكام السيطرة عليها.
المحللون وصفوا الأيام الخمس الأولى للحرب بأنها المرحلة الأولى، معتبرين أنه من اليوم السادس ستبدأ المرحلة الثانية حين يكثف الروس هجومهم بالمدفعية الثقيلة والقوات البرية، كما يفعلون في خاركيف وماريوبول، وقتها لن يكون هناك خطوط حمراء أمام القوات المتقدمة، فكل البنايات أهداف لهم، وكل الأشخاص خصومهم إن لم يعلنوا الولاء التام لموسكو.
اليومان الماضيان شهدا استدعاءً مكثفًا للقوات الروسية والعتاد والعربات والأسلحة، فيما يبدو أن هناك مخططًا واضحًا باجتياح العاصمة مهما كانت الخسائر، فإبقاء الوضع على ما هو عليه سيعزز من وضعية المقاومة لا سيما بعد وصول الدعم العسكري لها، وعليه يسابق الروس الزمن لإسقاط كييف الساعة قبل الأخرى للعب بها كورقة ضغط قوية في مسار المفاوضات مع الغرب لاحقًا.
التحليل الذي نشرته الصحيفة الأمريكية ونقلًا عن خبراء عسكريين أمريكيين وروس، أشار إلى أن موسكو تملك أوراقًا ربما تعزز من خلالها السيطرة على كييف، منها قطع خطوط الإمداد عن العاصمة، وغلق الحدود المتوقع أن يأتي منها الدعم الخارجي، أسلحة كان أو مقاتلون، كما يمكن عبر تطويق حدود المدينة الخارجية عزل القوات الأوكرانية خارج العاصمة عن داخلها، ما يسهل عملية إحكام القبضة عليها بعدما باتت معزولة ومحاصرة في آن واحد.
رسائل عدة ستحاول روسيا إيصالها عبر تعزيز آلة القتل والتدمير الوحشية داخل كييف واحتمالية تكرار سيناريو غروزني مرة أخرى، رسائل للشعب الأوكراني بالفرار وأخرى للقوات الأوكرانية بالتسليم والاستسلام، وثالثة للمجتمع الدولي بفرض السيطرة ميدانيًا ما يجعل موسكو في موقف أفضل نسبيًا خلال عملية التفاوض.
وفي المقابل يعلم الأوكرانيون كل تلك المعطيات، وأن سقوط العاصمة سيفقدهم نقاط قوة وأوراق ضغط مهمة على المسار التفاوضي الدبلوماسي، وعليه تكون المقاومة الشرسة والزود عن كييف مهما كانت التضحيات، حتى لو كان عبر الاستعانة بمقاتلين أجانب، سيتحمل الغرب كلفتهم بلا شك، المهم ألا تخرج روسيا من هذا الوحل منتصرة.. هكذا يرى الأوكرانيون والغرب معًا.
خسائر بالجملة.. دخول العقوبات حيز التنفيذ
مع اليوم الأول لدخول العقوبات الغربية على روسيا حيز التنفيذ التي تشمل تجميد أصول الأفراد وحظر البنوك الروسية من بريطانيا والولايات المتحدة إلى منع المستثمرين الروس من التداول في سندات الاتحاد الأوروبي، هذا بجانب عزل أخرى عن نظام سويفت وحظر الطيران لبعض الدول، تكبد الاقتصاد الروسي خسائر فادحة.
تجسدت تلك الخسائر في مظاهرها الأولية في انهيار العملة المحلية “الروبل” أمام العملات الأجنبية وتهاوي البورصة وزيادة متوقعة في التضخم والأسعار وهروب رؤوس الأموال، بجانب انسحابات بالجملة لكبرى الشركات العالمية العاملة في الأراضي الروسية، فيما قالت شركة “ماستركارد” إنها حظرت عددًا من المؤسسات المالية عن شبكة مدفوعات “ماستركارد” التزامًا بحزمة العقوبات المفروضة.
الخسائر لا تتوقف على الجانب الاقتصادي فقط، إذ أعلنت رئاسة هيئة الأركان الأوكرانية، أنّ روسيا فقدت منذ بداية الحرب 25 فبراير/شباط الماضي، نحو 5 آلاف و710 من جنودها، فيما أسر نحو 200 آخرين، وُدمّرت 29 مقاتلة روسية و29 مروحية و198 دبابة و846 مدرعة و77 مدفعًا وسفينتين.
وبصرف النظر عن مدى دقة البيانات الواردة على لسان الدفاع الأوكرانية، فإن روسيا ولأول مرة تعلن تعرضها لخسائر في صفوفها، على مستوى الأرواح والعتاد، وهو ما توثقه المواد المصورة التي تبثها وسائل الإعلام خلال الساعات الماضية وتكشف تكبيد الأوكرانيين للروس خسائر كبيرة في مقابل خسائر أخرى ربما تكون أضعاف التي كبدتها القوات الروسية لنظيرتها الأوكرانية.
وفي الأخير.. فإن روسيا ستحاول قدر الإمكان السيطرة على كييف كورقة ضغط يمكن الاستناد إليها قبيل جلسة الحوار الثانية لممثلي الحكومتين، الأوكرانية والروسية، في بيلاروسيا، التي لم يحدد موعدها بعد، بما يمنحها أفضلية نسبية في التفاوض وعلى أرضية ميدانية أكثر قوة، وعليه ربما تسقط العاصمة في أيدي الروس خلال الساعات القادمة في ظل هذا التجييش غير المسبوق، هذا إن لم يكن للمقاومة الأوكرانية رأي آخر.