لطالما تم تصوير ألمانيا على أنها الحلقة الأضعف في التحالف العسكري الغربي، وأنها تختبئ وراء تاريخ جيشها الأسود لتعزيز مصالحها الاقتصادية على حساب قوتها العسكرية وقوة حلف شمال الأطلسي، لكن يبدو أن الغزو الروسي لأوكرانيا حمل معه تطورات جديدة في سياسة ألمانيا الأمنية والخارجية.
دعم بعد ترقب
قبل أيام من غزو روسيا لأوكرانيا، أصرت برلين على ضرورة الحوار مع موسكو، رافضة تزويد أوكرانيا بالسلاح، حتى إنها رفضت طلبًا من إستونيا بالسماح لها بإرسال أسلحة ألمانية إلى أوكرانيا، وبرر المستشار الألماني أولاف شولتس هذا الموقف بأن عقيدة بلاده المتجذرة هي عدم تزويد أي بلد في منطقة نزاع بالسلاح، “وهذا الأمر استمر لعقود ولن يتغير”، وفق قوله.
لكن تواصل الحرب ومحاولة الجيش الروسي السيطرة على العاصمة الأوكرانية كييف ورؤية الدمار الذي حل بالعديد من المدن وعدم وجود نية لدى بوتين لوقف تقدم قواته العسكرية، أحرج ألمانيا ودفع السلطات إلى تغيير موقفها التاريخي وبدء حقبة جديدة مختلفة عن سياسات الماضي المتعلقة في الأزمات ومناطق الحروب، وذلك بحسب ما قاله المستشار الألماني شولتس في جلسة برلمانية طارئة عُقدت أول أمس الأحد.
يوم تاريخي في #ألمانيا ??، حكومة شولتز والبرلمان يقرران إعادة بناء الجيش الألماني وتخصيص 100 مليار يورو لشراء طائرات بدون طيار وطائرات مقاتلة جديدة، كما تقرر رفع الإنفاق الدفاعي فوق 2٪ من الناتج المحلي الإجمالي بشكل دائم، وتحمل تبعات فرض عقوبات اقتصادية على روسيا #اوكرانيا_روسيا pic.twitter.com/ioKfnwhtll
— Wisam Abulhaija (@WisamAbulhaija) February 27, 2022
بعد القرارات الأخيرة يبدو أن الألمان اقتنعوا بضرورة نفض الغبار عن إرث الجيش النازي الأسود
في البداية أجازت الحكومة الألمانية تسليم أوكرانيا 400 قاذفة صواريخ مضادة للدبابات عن طريق هولندا، وبعد ذلك قالت إنها ستزودها بأسلحة من مخزونات جيشها “في أسرع وقت” وهي عبارة عن ألف قاذفة صواريخ و500 صاروخ أرض-جو من طراز ستينغر لمساعدة أوكرانيا في مواجهة هجوم الجيش الروسي.
كما أعلنت أنها ستعزز قواتها المنتشرة شرقًا في إطار حلف شمال الأطلسي، لا سيّما في سلوفاكيا، وفق المستشار شولتس الذي أبدى أيضًا استعداد ألمانيا للمشاركة في الدفاع عن المجال الجوي لحلف الناتو بواسطة صواريخ مضادة للطائرات.
إعلان ألمانيا تصدير شحنات عسكرية كبيرة إلى أوكرانيا، يعني رفعها حظر تصدير الأسلحة الفتاكة إلى مناطق النزاع، وهو ما يعتبر قرارًا تاريخيًا وغير مسبوق، فهي المرة الأولى التي تقدم فيها السلطات الألمانية على خطوة مماثلة منذ الحرب العالمية الثانية.
The Russian invasion marks a turning point. It is our duty to support Ukraine to the best of our ability in defending against Putin’s invading army. That is why we are delivering 1000 anti-tank weapons and 500 #Stinger missiles to our friends in #Ukraine.
— Bundeskanzler Olaf Scholz (@Bundeskanzler) February 26, 2022
كان المستشار أولاف شولتس قد كتب تغريدة على تويتر قائلًا: “العدوان الروسي على أوكرانيا يشكل نقطة تحول، إنه يهدد النظام الذي نشأ منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية”، مضيفًا “في هذا الوضع، من واجبنا أن نساعد أوكرانيا بقدر ما نستطيع، في الدفاع عن نفسها ضد جيش فلاديمير بوتين الغازي”، مؤكدًا “ألمانيا ستقاتل لحماية الديمقراطية الأوروبية من روسيا والدفاع عن كل متر مربع من أراضي الناتو”.
قرار تاريخي
إعادة الألمان النظر في سياستهم الخارجية التي استمرت على مدى أكثر من سبعين عامًا، واختيار دعم أوكرانيا في مواجهة الغزو الروسي بل وانتقالها إلى الصفوف الأمامية في دعم كييف عسكريًا وتشديد العقوبات الاقتصادية على روسيا، رافقه تحول في السياسة الأمنية للبلاد.
يُفهم هذا التغيير من إعلان شولتس رصد استثمارات بمئة مليار يورو في الجيش الألماني للعام 2022، وتشديده على ضرورة إدراج بند الاستثمار في تعزيز قدرات الجيش الألماني في دستور البلاد، وقال المستشار الألماني إن بلاده ستستثمر من الآن وصاعدًا وعامًا بعد عام أكثر من 2% من إجمالي ناتجها المحلي في قطاعها الدفاعي.
German Chancellor Scholz accused Russian President Putin of wanting to “establish a Russian empire,” as he committed to significantly boosting Germany’s defense spending from now on.
pic.twitter.com/m1sUtP56ii
— DW News (@dwnews) February 27, 2022
نتيجة السياسة التي اتبعتها ألمانيا في المجال الدفاعي في الفترة التي أعقبت الحرب الباردة، أصبح جيشها مهملًا وضعيفًا مقارنة بباقي الجيوش الغربية، فمنذ انتهاء الحرب البادرة قلّصت ألمانيا عدد قواتها من 500 ألف عسكري إلى 185 ألف فرد، إذ اشترطت اتفاقية “2+4” – المؤسِسة للوحدة الموقعة بين الألمانيتين والولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي وبريطانيا وفرنسا – عدم تجاوز قوام جيش ألمانيا الموحدة 285 ألف فرد.
يُذكر أنه بعد الوحدة حلت الحكومة الألمانية جيش الشطر الشرقي سابقًا الذي بلغ تعداده 90 ألف فرد، وأحالت قادته ومعظم جنرالاته للتقاعد، ولم تضم لصفوف جيشها الجديد إلا 20 ألفًا من جيش الجمهورية الشرقية، كما تخلصت من جزء كبير من أسلحة ومعدات الجيش الشرقي السابق بإعدامها أو بيعها.
وتقدر الميزانية السنوية للجيش بـ34.2 مليار يورو تمثل 1.2% من الناتج القومي، ومنذ سنة 2012 أُلغيت الخدمة العسكرية الإلزامية في البلاد، وتراقب لجنة الدفاع بالبرلمان الألماني كل ما يتعلق بعمل وأنشطة الجيش، بالتعاون مع مفوض خاص يعينه البرلمان لشؤون الجيش.
إرث هتلر
دفعت جهود بوتين لإعادة تشكيل النظام الأمني الأوروبي واستعداده الواضح لفعل أي شيء مقابل الوصول لهدفه بالساسة الألمان لتغيير سياستهم والتخلص من إرث هتلر التاريخي، ذلك أن الألمان وجدوا أنفسهم مجبرين على تطوير جيشهم وتقوية اقتصادهم في الوقت نفسه.
قبل فترة كانت الحكومة الألمانية تُتهم بأنها تعطي الأولوية لاقتصادها، فأكبر دولة في أوروبا الغربية تحصل على نصف كميات غازها الطبيعي من روسيا، ومنذ سنة 2012 ارتفعت حصة إمدادات الغاز الطبيعي الروسي لألمانيا من 40 إلى 55%، كما ارتفعت في نفس الفترة حصة الواردات الألمانية للنفط الروسي 10%، فبعدما كانت 38%، أصبحت 48%.
تغيير في السياسة الخارجية الألمانية طال انتظاره من شأنه أن يُعطي دفعًا جديدًا للجيش الألماني واقتصاد البلاد
لكن من الواضح الآن أن الجانب الأمني أهم من الجانب الاقتصادي، فالمستشار الألماني أراد التأكيد أن الغاز الروسي والعلاقات الاقتصادية مع موسكو لا يمكن لها أن تقف حاجزًا أمام التزامات ألمانيا تجاه الأمن القومي الأوروبي.
يذكر أن المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل حرصت من جهتها، طيلة سنواتها الـ16 في السلطة، على المحافظة على العلاقة مع روسيا، في محاولة لفصل الخلافات الجيوسياسية عن المصالح الاقتصادية بين البلدين.
لكن بعد القرارات الأخيرة يبدو أن الألمان اقتنعوا بضرورة نفض الغبار عن إرث الجيش النازي الأسود، خاصة أنهم تيقنوا أن ضعفهم أعطى الحجة للروس والصينيين والعديد من القوى الأخرى إلى التحرك بأريحية تامة وتطويق نفوذهم في مناطق عديدة.
تعرف على الأسلحة التي سترسلها ألمانيا إلى أوكرانيا ومدى قوتها!#مسائية_DW #الحرب_الروسية_الأوكرانية#روسيا_أوكرانيا pic.twitter.com/g56JpVOAKg
— DW عربية (@dw_arabic) February 28, 2022
لأول مرة نرى إجماعًا ألمانيا في مسألة ما، فالمعارضة صفقت للسياسة الجديدة للحكومة في مجال الأمن والعلاقات الخارجية، كما صفق عشرات الآلاف من الألمان لهذا الأمر وهو ما رصدناه في المظاهرات التي خرجت في برلين تنديدًا بالحرب الروسية ضد أوكرانيا.
مثلت هذه التحولات الأخيرة سبيلًا أمام ألمانيا للهروب من موانعها التاريخية، إذ استغل المستشار الألماني الظرف العالمي والغزو الروسي لأوكرانيا، لتغيير سياسة حكومته في المجال الأمني في بلد لا تزال علاقته بجيشه حساسة، ذلك أن الإرث النازي وجرائم هتلر في حق الألمان وباقي شعوب العالم ما زالت في ذاكرة الألمان.