ترجمة حفصة جودة
لم يعد شنّ حرب اقتصادية أمرًا جديدًا، فقد فرض نابليون حصارًا فاشلًا على صادرات بريطانيا في بدايات القرن العاشر، وخلال الحرب العالمية الأولى كان هناك محاولات من كلا الطرفَين لتجويع أحدهما الآخر حتى الاستسلام.
لكن منذ عام 1945 ازداد استخدام العقوبات بشكل متتابع، كوسيلة لمحاولة تغيير موقف سياسي أو أنظمة الحكم في الدول المستهدفة، حيث لاحظت دراسة لمجموعة من الأكاديميين الألمان أن هناك أكثر من 1400 دولة هُدِّدت أو تعرّضت لعقوبات منذ الحرب العالمية الثانية.
من غير المستغرب أن يجد تقرير معهد البحوث الاقتصادية في ميونخ، أن العقوبات تصبح ناجحة كلما تضرر الاقتصاد المستهدَف بشدة، حيث في المتوسط تنخفض مستويات المعيشة بنسبة 4% في أول عامَين من تطبيق الإجراءات التقييدية، لكن العقوبات تخفي مجموعة أوسع من نتائج مختلفة.
يقول آدم سلاتر، الخبير الاقتصادي في شركة Oxford Economics consultancy، إن العقوبات المفروضة على روسيا بين عامَي 2014 و2018 خفضت إجمالي الناتج المحلي بحوالي 1.2%، لكن قد يصبح التأثير أكبر هذه المرة نظرًا إلى قسوة المنهجية الأوروبية، ويضيف: “نعتقد أن يتضرر إجمالي الناتج المحلي بنسبة ما بين 4% إلى 6%، نسبةً إلى الخط الأساسي ما قبل الأزمة، وهو سيناريو هبوط معقول”.
لكنّ الإضرار باقتصاد دولة يختلف عن إجبارها على تغيير السياسة أو تغيير الحكومة، حيث يقول جيرمي جرينستوك، مندوب المملكة المتحدة السابق في الأمم المتحدة: “لا حل أمامك سوى الكلمات أو العمل العسكري للضغط على حكومة ما”، لكن في القضايا الهامة هناك أدلة محدودة فقط تكشف عن نجاحهما.
بالنظر إلى كوبا، التي خضعت للعقوبات الأمريكية منذ أواخر خمسينيات العام الماضي، عارضت واشنطن بشدة استيلاء النظام الشيوعي على السلطة بقيادة فيدل كاسترو، ومنذ ذلك الحين أصبح هناك قيود على تدفُّق البضائع إلى الجزيرة.
قدّرت الأمم المتحدة وحكومة كوبا التكلفة الاقتصادية لذلك بمبلغ 130 مليار دولار خلال 6 عقود، لكن كما لاحظ كريستوفر رودوس، الأكاديمي في هارفرد، فكل هذه العقوبات قدّمت للنظام كبش فداء مناسب لمحنة البلاد.
كان تأثير العقوبات الواسعة على فنزويلا أشد ضررًا من كوبا، فقد نما الاقتصاد لأول مرة منذ 7 سنوات عام 2021، بعد فترة شهدت انخفاضًا في الإنتاج بنسبة 75% وانهيار العملة، وكانت هناك معاناة اقتصادية شديدة وهجرة جماعية، لكن مرة أخرى لم يتغيّر النظام.
واجهت إيران العقوبات الأمريكية لأكثر من 40 عامًا منذ استيلاء طلاب متطرّفين على السفارة الأمريكية في طهران عام 1979، ومؤخرًا هناك خطوات مدعومة من الأمم المتحدة لمنع الأنشطة النووية المحظورة، يصحبها نظام عقوبات مشدد أعلنه دونالد ترامب عام 2018.
هذا السلاح الذي تشهره أمريكا ضد روسيا -بالاستيلاء على احتياطيات البلاد في الخارج- لم ينجح في أفغانستان
أدّى تخفيف العقوبات لفترة وجيزة إلى دفع الاقتصاد عام 2016، لكن سجلّ النمو كان محدودًا منذ ذلك الحين، ومع ذلك لم تُظهر إيران أي علامة فورية على التراجع، وأكّدت على وقف جميع العقوبات قبل بدء المحادثات بشأن برنامجها النووي.
تعدّ كوريا الشمالية من أفقر دول العالم، حيث يصل دخل الفرد فيها أقل من العُشر في كوريا الجنوبية المجاورة، حيث أصدرت الأمم المتحدة قرارًا تلو الآخر تطالب فيه كوريا الشمالية بوقف برنامج الأسلحة النووية، وفرضت عقوبات بتقييد التجارة واستهداف الأفراد الذين لهم علاقة بالجيش، لكن لم يكن هناك أي مؤشر طفيف على نزع كوريا الشمالية لسلاحها.
رغم المحنة الإنسانية والاقتصادية الشديدة، فإن هذا السلاح الذي تُشهره أمريكا ضد روسيا -بالاستيلاء على احتياطيات البلاد في الخارج- لم ينجح في أفغانستان.
ويقول اللورد ميجناد ديساي: “إن سيطرة أمريكا على الآلية المالية شاملة، فهي تتحكم في صندوق النقد الدولي، وبإمكانها الاستيلاء على احتياطي النقد الأجنبي لأفغانستان والتسبُّب في مجاعة لمعاقبة طالبان على إذلال الولايات المتحدة، لكن هل ينجح ذلك الآن في خنق بوتين؟”.
تعدّ جنوب أفريقيا مثالًا على فاعلية العقوبات ومنحها بعض الأمل لهؤلاء الذين يعتقدون أن الغرب قد يفوز في معركته ضد بوتين بوسائل غير عسكرية، فقد قال نيلسون مانديلا إنه لا شك في أن الحصار التجاري في ثمانينيات القرن الماضي قد عجّل بزوال نظام الفصل العنصري.
هناك شيئان يميزان جنوب أفريقيا عن كوبا وإيران وفنزويلا وكوريا الشمالية، أولًا؛ بنهاية الثمانينيات كان نظام الفصل العنصري منبوذًا دوليًّا، حتى أن دولًا مثل المملكة المتحدة والولايات المتحدة أصدرت قوانين بتقييد التجارة.
ثانيًا؛ عُزِّزت العزلة الاقتصادية بمقاطعة رياضية وثقافية، أوضحت لمواطني جنوب أفريقيا أنهم يعيشون في دولة منبوذة.
يقول هولغر شميدنغ من بنك بيرنبرغ: “حتى أشد العقوبات قد تفشل في التأثير على بوتين، فقد أظهرت إيران وكوريا الشمالية أن الدكتاتوريات الوحشية تستطيع الاستمرار لفترة طويلة رغم العقوبات الشديدة”.
ويكمل: “لكن بعض الروس على علاقة وثيقة بعالم الحرب ولهم روابط عائلية قوية في أوكرانيا، ستنتشر الأخبار بشأن أسباب العقوبات -غزو بوتين الوحشي لأوكرانيا- في روسيا خاصة، مع تكبُّد الجيش خسائر هائلة سيكون من الصعب إخفائها”.
في الماضي، ساعدت روسيا في تخفيف العقوبات المفروضة على الدول الأخرى، لذا فإن صمود بوتين في وجه الإجراءات الاقتصادية المفروضة عليه، يعتمد على إمكانية حشد الأصدقاء الموثوقين، والأهم من ذلك استمرار ولاء النخبة.
المصدر: ذي غارديان