أدّت التحولات الاستراتيجية المهمة التي حصلت الأيام المنصرمة منذ بدء الغزو، إلى دفع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى الإيعاز لوزارة الدفاع الروسية بالهجوم الشامل وعلى أكثر من جبهة، فضلًا عن تجهيز قوة الردع الاستراتيجي النووي.
وكان في مقدمة هذه التحولات دخول العقوبات الاقتصادية، وتحديدًا نظام “سويفت”، حيّز التنفيذ، ودخول صواريخ ستنغر وجافلين فضلًا عن مسيّرات بيرقدار مسرح العمليات من قبل القوات الأوكرانية، والتي استطاعت تحييد عدة أرتال عسكرية روسية، فضلًا عن نجاحها في خلق مناطق عازلة بين القوات الروسية المتواجدة في محيط كييف وقوات الدعم اللوجستي المتواجدة على الحدود.
جعلت هذه التحولات القيادة الروسية تُراجع خططها العسكرية، خصوصًا بعد نجاح هذه الصواريخ في تدمير قطعات عسكرية وعمليات تجسير وإنزال، ما دفع روسيا إلى تغيير طبيعة استراتيجية الهجوم، من خلال إدخال صواريخ إسكندر وغراد، إلى جانب صواريخ قصيرة المدى، والقاذفات الاستراتيجية، وطائرات ساخوي 35، بحيث دمّرت العديد من الدفاعات الأوكرانية.
نجاحات عسكرية أوكرانية
نجحت القوات الأوكرانية في عرقلة تقدُّم القوات الروسية نحو المدن الرئيسية، وتحديدًا خاركيف، رغم سيطرة الروس مؤخرًا على مدينة هارينت بالقرب من ماريبول، ما جعل الجيش الروسي يترك فكرة احتلال المدن والاستعاضة عنها بفكرة السيطرة، عبر عزل مدينة عن أخرى، فيما يشبه استراتيجية طالبان التي أسقطت العاصمة كابل (استراتيجية الكماشة).
فرغم أن القتال ما زال مستمرًّا في الجبهة الشرقية، إلا أن الجيش الروسي نجح في محاصرة كييف من أغلب جهاتها، باستثناء الجبهة الغربية التي ما زالت تواجه مشاكل فيها، حيث حاول الجيش الروسي ليلة أمس القيام بعملية إنزال مظلي، إلا أن الجيش الأوكراني أفشلها باستخدام صواريخ ستنغر، التي عقّدت الكثير من عمليات الإنزال مؤخرًا.
الجيش الروسي اعتاد خلال السنوات الماضية على خوض حروب غير مكلفة مع أعداء ضعيفي القدرات، كما هو الحال في جورجيا والقرم وسوريا، .. ولذلك تواجهُ حاليًّا خسائر فادحة بالأرواح (جنود روس)، ستنعكس على مستقبل بوتين السياسي بعد انتهاء الحرب
تتمثّل مشكلة بوتين اليوم أنه بدأ ينظر إلى أن موازين القوى بدأت تميل لصالح أوكرانيا، بعد عمليات الدعم العسكري والسياسي واللوجستي الغربي، ورغم أنه يمتلك القدرة على الحسم، إلا أنه يخشى من التكاليف والمفاجآت غير المتوقعة، ورغم إعلانه جاهزية القوات النووية الاستراتيجية، إلا أنه أيضًا يدرك تكاليف استخدامها، فصاروخ واحد يكفي لإحراق العالم بأكمله.
تحاول القوات الأوكرانية جرّ الجيش الروسي إلى ما يشبه حرب العصابات، في سيناريو مشابه لحرب الموصل، عبر الانتقال من بناية سكنية إلى أخرى، ومن شارع إلى آخر، ما دفع القيادة الروسية إلى مغادرة فكرة الاقتحام والاكتفاء بالتحشيد على أطراف المدن، خصوصًا بعد عسكرة المجتمع الأوكراني مؤخرًا.
إشكالات تواجهُها روسيا بوتين
بوتين رجل عمليات خاصة، ويبدو أنه دخل بخطة حرب غير مدروسة جيدًا، كان يعتقد -كما يشير الكثير من الخبراء- أنه بإمكانه حسم الحرب خلال 48 ساعة، مستحضرًا سيناريو الهجوم على أوكرانيا عام 2014 وهروب القوات الأوكرانية من القرم، لكن على ما يبدو أن القوات الأوكرانية استفادت من الدرس السابق، وبنَت خططًا دفاعية محكمة، استنزفت الجيش الروسي كثيرًا عند محاولته اقتحام المدن أو احتلالها.
الإشكالية الأخرى التي تواجهها روسيا أيضًا، هي أن الجيش الروسي اعتاد خلال السنوات الماضية على خوض حروب غير مكلفة مع أعداء ضعيفي القدرات، كما هو الحال في جورجيا والقرم وسوريا، ففي هذه الحروب شاركت روسيا عبر القوات الجوية فقط، فيما تحرِّك المرتزقة على الأرض، ولذلك تواجهُ حاليًّا خسائر فادحة بالأرواح (جنود روس)، ستنعكس على مستقبل بوتين السياسي بعد انتهاء الحرب، وليس كما في المعارك الأخرى حيث تكون الخسائر في صفوف المرتزقة فقط.
يُضاف إلى ذلك أن التحول الأخير في السلوك الأوكراني عبر دعوة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إلى تشكيل فيلق دولي لمواجهة الغزو الروسي، سيجعل المهمة الروسية صعبة للغاية، إذ يضمّ هذا الفيلق حتى اللحظة خليطًا غير متجانس من الحركات القومية واليسارية، وتحديدًا من أوروبا الشرقية، إلى جانب حركات إسلامية متطرفة، الشيء الوحيد الذي يجمعها هو العداء لروسيا.
الصراع الحالي أصبح صراعًا سياسيًّا بامتياز، بوتين يبحث عن النصر العسكري بأي شكل، فيما يبحث زيلينسكي عن النصر السياسي، وكل منهما يحاول إثبات الأسطورة الخاصة به للأجيال القادمة
يحاول بوتين الآن مقابلة الخطوة الأوكرانية بالتحشيد الأجنبي، بإنشاء تحشيد متطرف عبر الاستعانة بالفرقة الشيشانية، وقد يلجأ إلى استخدام شركة فاغنر الروسية للعمليات الخاصة، لتنفيذ عمليات داخل العاصمة كييف من أجل إرباك الوضع، أو حتى استهداف زيلينسكي شخصيًّا.
يبقى التساؤل المهم هنا؛ ما الذي يمكن أن يفعله بوتين الآن في أوكرانيا؟ تتمثل الإجابة عن هذا التساؤل بـ 3 خيارات مهمة، هي تدمير البنية التحتية عبر القصف الشامل (تمّ)، وحصار المدن (تمّ)، وإخضاع المدن على النموذج السوري (يُعمل عليه حاليًّا).
يمكن القول إن الخيار الثالث سيكون هو الخيار الأكثر إغراءً لبوتين، فحديثه عن النازية الجديدة في أوكرانيا هو تفسير مقابل لتعريف الإرهاب، كما أن استهداف العديد من المناطق السكانية بالصواريخ قصيرة المدى، بعد تعثُّر السيطرة عليها بفعل المقاومة الشعبية، يشير إلى أن بوتين بدأ ينظر إليها كحواضن إرهابية، ما سيمنحه رغبة أكبر في التعامل معها بقوة أكبر.
إن الصراع الحالي أصبح صراعًا سياسيًّا بامتياز، بوتين يبحث عن النصر العسكري بأي شكل، فيما يبحث زيلينسكي عن النصر السياسي، وكل منهما يحاول إثبات الأسطورة الخاصة به للأجيال القادمة، وفشل الجولة الأولى من المفاوضات التي جرت بين الطرفَين في التوصُّل إلى نتيجة واضحة، يشير إلى مدى تشدُّد الطرفَين بمواقفه السياسية.