دخلت الحرب الروسية على أوكرانيا أسبوعها الأول، ولا شيء يشير إلى إمكانية انتهائها، أو أفق واضح لمفاوضات فعلية، أو حتى ظهور وساطات جادة، لا شيء غير زيادة التأزُّم بين الطرفَين، مع جنوح وريث القيصر الروسي نحو قوة النار وشدّة التفجيرات وضراوة المعارك، مقابل تصعيد اللهجة الأوروبية والغربية عمومًا، لتشديد الحصار الجوي والاقتصادي.
ويكشف التعاطي الغربي مع القضية الأوكرانيا والحماسة لها مقابل بروده في التعاطي مع قضايا العالم الإسلامي وربما العالمي النامي غير المسلم أيضًا، حقيقة قيم العالم الغربي من حيث ازدواجية معاييره وطبيعة مرجعيته الأخلاقية المشوهة.
عنصرية تجاه اللاجئين.. الجنس الأوروبي!
على طريقة هتلر الذي فضّل الجنس الآري كنوع متميز من الإنسانية يجب أن يسود، أثارت مسألة ترحيل اللاجئين على الحدود الأوكرانية الكثير من الجدل، خاصة أن المسألة هذه المرة لا تتعلق ببلد عربي أو مسلم على خلاف العادة، بل ببلد في قلب أوروبا، ومن بين اللاجئين يوجد عرب ومسلمون وأفارقة، ما جعلَ مسألة الإنسانية وحقوقهم في الميزان وعلى المحكّ، وفق المعايير التي يضعها الغرب نفسه.
شابت العنصرية والتفريق والتمييز عمليات ترحيل اللاجئين الأوكرانيين على حساب اللاجئ الأوكراني الذي تمّت معاملته بكرامة، وتمَّ منحه الأولوية في الترحيل دون ازدراء أو تعطيل، بل تداعت الدول الأوروبية إلى الترحيب بهم وسط امتيازات في استقبالهم، مثل إمهالهم 3 سنوات دون مطالبتهم بتقديم طلب لجوء.
تحرُّك أوروبا لاستقبال الفارّين من القصف الروسي، لم يكن حتمًا بالقدر نفسه الذي تمّ به معاملة الآلاف من دول الجنوب، آسيا وأفريقيا، حيث لم نرَ قيم الإنسانية والتعاطف مع المشرّدين على الحدود اليونانية مع تركيا، وعلى الحدود مع بيلاروسيا أو في ضفة المتوسط الشمالية.
لم تتحرك أوروبا، ولم يعطف قلبها لاستقبال الفارّين من جحيم القصف الروسي في سوريا، أو من نار الحرب في ليبيا، أو حتى اللاجئين الأفارقة، عبر عرض البحار على طول المتوسط، مفارقات صارخة بمباركة من محطات الإعلام الغربي وتفاخره على الهواء.
مراسلة قناة NBC الأمريكية: “هؤلاء ليسوا لاجئين من سوريا، هؤلاء من أوكرانيا، إنهم مسيحيون، إنهم بيض، إنهم يشبهوننا جدًا” pic.twitter.com/x6cAlqCkSE
— شؤون تركية (@TurkeyAffairs) February 27, 2022
في كل الأحوال، لا يمكن تفهُّم أولئك المتضامنين مع الأوكرانيين، كلاجئين يعانون ممّا عانى منه السوريون والفلسطينيون من ظلم الغزو والاحتلال، ليتحوّل تعاطفهم إلى أداة تبرير للتجاوزات الحقوقية واللاإنسانية في التفريق بين الجنسيات، خلال عمليات الترحيل على الحدود.
وبالتالي إن التعاطف هو مع الشعب الأوكراني وأطفاله ونسائه الذين أصبحوا يشبهون بقية المشردين في مناطقنا فقط، وشعوبنا هم الأكثر شعورًا بمآسي الهجرة والنزوح واللجوء، بعيدًا عن أي تأييد سياسي لحكّام أوكرانيا وسياساتهم ضد العرب وقضايا المسلمين، أولها مواقفهم مع الكيان الصهيوني في حربه على غزة، أو من غزو العراق، أو حتى قضية الممرضات اللاتي حقنَّ أطفالًا ليبيين بالإيدز في عهد القذافي، فهو تعاطف إنساني ومبدئي ضد الظلم من القوى الكبرى الغاشمة.
تلك القوى التي تدخّلت بقوة في سوريا، حتى أن السوريين كانوا أكثر المتعاطفين نكاية بروسيا، إلى درجة أن البعض “وجدَ أعذارًا” للتفريق بين اللاجئين، باعتبار أن الدولة ستمنح الأهمية لأبنائها، للاجئ الأوكراني الذي لم يطرده نظامه، على عكس النظام السوري الذي واجه شعبه بالبراميل المتفجِّرة في عقر داره، وجلب له الغزاة، ثم لاحقه بالبارود في طريقه للنجاة بجلده، ثم لم يجد من يستقبله من العرب، ما يعكس حجم الألم لدى البعض من استنهاض هذه الحرب لمواجع وفواجع السوريين العابرة لكل حدود، الذين لم تنقطع معاناتهم.
كوارث حرّكتها عمليات ترحيل الفارّين من أوكرانيا، مستذكرين تهجير الملايين من السوريين الذين ضاقت بهم الأرض بما رحبت، باستثناء الأردن، بل تمَّ إهانتهم في بلدان عربية، حيث واجهوا التشتُّت والعراء في البرد والحرّ، ولا يزالون كل عام يموتون على الحدود وفي البحار.
كل ذلك التعاطف الاستثنائي والمحصور في نطاق معيّن، لا ينكر أبدًا انفضاح الغرب في ازدواجية المعايير وادّعائه حقوق الإنسان عندما تتساوى قيمة النفس في الحروب والأزمات، فبأيّ حقّ يتمُّ تمييز لاجئ عن آخر، بعد ما رأيناه من شهادات للاجئين عرب كشفت الوجه الآخر للعنصرية الحاقدة، لا لشيء إلا لكون لاجئ أشقر الشعر وأبيض البشرة وأزرق العين، مقابل فرز اللاجئ الأسود وما كابده الأفارقة الفارّون من الحرب عند الحدود بين أوكرانيا وبولندا.
فليس باللون ولا العرق والجنسية فقط يُضطهد الإنسان في الغرب، بل بالدين أيضًا تُنتهك النفس البشرية، فازدواجية المعايير الغربية المفضوحة هذه المرّة، ككل مرّة، كشفت من جديد تقلُّبها وتكيُّفها مع البيئة والمكان، فلا يكفي أن تكون من بلد ما أو ذا بشرة معينة، فالإسلام أيضًا سبب من أسباب الاضطهاد والتفريق.
البوسنيون هم أيضًا بيض البشرة وزرق العيون، لكن سُلِّطت عليهم آلة الحرب والتشريد والتمييز خلال الخماسية التسعينية السوداء، بإفساح المجال للكروات وحلفائهم الصرب لقتل مسلمي البوسنة، ومذبحة سربرنيتسا خير شاهد على تواطؤ الغرب ضد المسلمين هناك، بل تواطؤ حلف الناتو والأمم المتحدة انكشف بعد تأخُّر تدخلهما في الحرب، على خلاف ما يجري في أوكرانيا اليوم.
كذلك حدّث ولا حرج عن الانتهاكات ضد مسلمي الهند المستمرة، التي ترتقي إلى حرب تطهير عرقي وإبادة موثقة بتصريحات من حكومة مودي الهندوسية المتطرفة، وقبلها جرائم التطهير الإثني بإقليم بورما ضد أقلية الروهينغا، وما يجري من تنكيل للإيغور في تركستان الشرقية، كلها تكشف التمييز والعنصرية ضد المسلم أو الأفريقي والعربي، مع اختلاف الشواهد والأماكن.
انتحاري.. أم بطل أوكرانيا؟
طالت استفزازات التهميش والتفريق والتمييز كل شيء، فالأعمال الانتحارية التفجيرية أعمال إرهابية، مدانة في الدين والعُرف والقانون، فهي ظلم للنفس قبل ظلمها للغير، بعيدًا عمّا يُثار في بعض الفتاوى لدفع الصائل والمعتدي، ما كان وراء توظيفها من مجاميع إرهابية لإزهاق الأنفس المعصومة.
لكن في الحالة الأوكرانية لم تعد التفجيرات ترتبط بتنظيم “داعش” الإرهابي، فقد تحوّل الجندي الذي فجّر نفسه لينسف جسرًا، قبيل استخدامه من طرف الجيش الروسي للعبور إلى الشريط الساحلي قرب الحدود مع شبه جزيرة القرم، إلى بطل قومي خالد، بتزكية من الرئيس زيلينسكي الذي أشادَ بالعملية الانتحارية.
كما قلّد زيلينسكي منفّذها لقب “بطل أوكرانيا”، وهو من أعلى ألقاب التشريف في البلاد، بينما لم يدخل أي سياسي عربي من المحتلة بلدانهم (الضفة الغربية والقدس وسوريا وبعض المناطق الليبية) في ثقافة الموت ولا يجرؤ على ذلك، ناهيك أن يمنح شهادة التشريف لانتحاري، والإعلام الغربي نفسه كذلك الذي ميّز بين اللاجئ العربي واللاجئ الغربي، يميّز بين الانتحاري المجرم والانتحاري البطل.
Heroic Ukrainian soldier blows himself up on bridge to prevent Russian advance https://t.co/OhIYYy0NS0 pic.twitter.com/i69Ws2Ao3X
— New York Post (@nypost) February 25, 2022
هذا إذا علمنا أن هذا المنهج كان قد استعمله اليابانيون قبل الجميع في الحرب العالمية الثانية، خلال تفجير الطيارين اليابانيين لطائراتهم (عمليات الكاميكازي) بأساطيل الولايات المتحدة الأمريكية، بالتالي أصبحت العمليات التفجيرية في أوكرانيا هي بطولة ومقاومة، بينما في بقية الدول المحتلة هي إرهاب وانتحار.
التطوع للقتال.. ومفهوم “المقاومة”
وضع موضوعُ المقاومةِ والتطوع لها من الخارج المقاومةَ في ورطة إذا قارناها بمقاومات في الشرق الأوسط، على غرار المقاومة الفلسطينية واللبنانية أو حتى المقاومة العراقية للقوات الأجنبية.
مع تمسُّك الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي بفتح باب التطوع للقتال في أوكرانيا، تداعت معظم الدول الغربية بمباركة الخطوة، وكانت بريطانيا أول من يسمح لمواطنيها بالتطوع للقتال مع الأوكرانيين، حيث حتى شعار المقاومة والوطنية والصمود في تعارض آخر مع تعاطي الدول الأوروبية مع قضايا عربية تحدث في سوريا والعراق، رغم تعرُّض العراق للغزو نفسه، وتدخُّل الروس بشكل مباشر في الأراضي السورية.
يبيّن هذا تناقضًا صارخًا في التعامل الأمريكي والأوروبي مع الأزمات العربية، وأخلاقًا سياسية لا شكّ أنها ستعيد طرح أسئلة محرجة عن النظام الدولي، نحو إعادة مراجعة منظومة القيم، وتحديد مفاهيم جديدة، بعد الحرب على أوكرانيا.
أول تلك المفاهيم والمقارنات المطروحة ستخصُّ مواضيع المقاومة والإرهاب، المقاومة كحقّ مشروع في كل الأديان والأعراف، ومفهوم حقّ الشعوب في التغيير السلمي من الداخل، دون الحاجة إلى تدخل خارجي، أي إعادة تعريف مفاهيم مثل حق تقرير المصير دون ترهيب، ومفاهيم تجنيد المرتزقة من بقاع الأرض للقتال إلى جانب الأنظمة، متى يكون ذلك متاحًا وأمرًا ضروريًّا، ومتى يكون إجرامًا وإرهابًا.
الغرب وعلى رأسه أمريكا دمروا العالم العربي والإسلامي بحجة القضاء على (الجهـ ـاد العالمي) والآن هم يطبقون مبدأ التطوع للقتال لأن الخطر أصبح يهددهم.. حلالٌ عليهم حرامٌ على المسلمين!#اوكرانيا_روسيا
— تركي الشلهوب (@TurkiShalhoub) February 27, 2022
طالما الحال كذلك، هل على العرب والمسلمين أن يبقوا في دور المراقب في هذه الحرب، كما هو الموقف الرسمي الفعلي؟ أم يقفوا مع الشعب الأوكراني ضحية هذا الغزو كما تقضي الشيم العربية والأخلاقية العالمية بالوقوف إلى جانب المظلوم والمضطهد؟