استقرت التجارب التاريخية على مرّ الزمان أن التراث الثقافي يكون الضحية الأولى لأي حرب، ما يدفع الكيانات المعنية بالثقافة والتراث إلى إطلاق صافرات الإنذار والتحذير مع الطلقة الأولى لأي سجال عسكري ينشب فوق الكرة الأرضية.
وإن كان التاريخ يزخر بعشرات الحالات من وقائع سرقة للآثار والمقتنيات التراثية (الأقل وزنًا والأغلى ثمنًا) في البلدان التي شهدت حروبًا أو نزاعات، فإن الوضع سيكون أكثر كارثية حين يكون السارق ناكرًا لتاريخ الضحية جملة وتفصيلًا، وهنا يتعامل مع تلك الآثار التي تؤصّل لوجود ضحيته على أنها عدو له يستوجب الإزاحة من الوجود.
ومع تواصل الغزو الروسي ضد أوكرانيا، تنتاب حالة من القلق المعنيين بالتراث الأوكراني، خشية تعرضه للنهب والسرقة على أيدي القوات الروسية، وهو القلق الذي يعزّزه ما حدث عام 2014 حين سيطرت موسكو على شبه جزيرة القرم وأطاحت بجُلّ تراثها، ما بين الهدم والنقل إلى المتاحف الروسية.
تصاعد المخاوف.. ما البواعث؟
في 24 فبراير/شباط الجاري كتب أستاذ التاريخ في جامعة ميتشغان الأمريكية، رونالد سوني، مقالا في موقع (the conversation) الأسترالي، تناول فيه سردية الرئيس الروسي فلاديمير بوتين للتاريخ الأوكراني وهوية الدولة الأوكرانية، وهي السردية التي أثارت قلق المعنيين بالتراث العالمي بصفة عامة والأوكراني على وجه التحديد.
وتذهب الرؤية البوتينية إلى أن أوكرانيا ليست دولة مستقلة من الأساس، كما أنه ليس لها حضارة ولا تاريخ خاص بها، فهي من وجهة نظرة دولة نشأت نتيجة قرار خاطئ في ظروف وصفها بالمأساوية من طرف زعماء سوفيات سابقين، على غرار فلاديمير لينين وجوزيف ستالين ونيكيتا خروتشوف.
ويرى الرئيس الروسي – بحسب سوني- أن شعب أوكرانيا هو جزء من الشعب الروسي بجانب البيلاروسيين، ومن ثم يريد بوتين أن يقول إن أوكرانيا صناعة روسية في المقام الأول، ويحق للروس ضمها في أي وقت، وهو ما يعني إنكار أي مظاهر أو وثائق أو مقتنيات تشير إلى سردية مغايرة لتلك التي يؤمن بها الرئيس بوتين.
وتتطابق وجهة نظر أستاذ التاريخ في جامعة ميتشغان الأمريكية مع بوتين نفسه الذي أكد خلال كلمته للشعب الروسي في أعقاب الاعتراف بجمهوريتي دونيتسك ولوهانسك الانفصاليتين كبلدين مستقلين، أن أوكرانيا ” جزء لا يتجزأ من تاريخ روسيا”، وأن الزعيم الشيوعي السابق جوزيف ستالين، هو من حررها ومنحها بعض الأراضي لتشكيل دولتها.
شبح القرم
ترجع المخاوف من نهب الروس للآثار الأوكرانية إلى سيناريو القرم، حيث استولت روسيا على 4095 قطعة أثرية من أوكرانيا منذ 2014 وحتى اليوم وفق التقرير الصادر عن منظمة الأمم المتحدة للتربية والتعليم والثقافة (يونسكو) في 2021.
التقرير استعرض بعض جرائم النهب التي قامت بها القوات الروسية بحق المتاحف الأثرية، أبرزها متحف دونيتسك الإقليمي للتاريخ المحلي، والذي تعرض للقصف بالصواريخ المضادة للدبابات 15 مرة، كانت نتيجتها تدمير 30% من محتوياته الأثرية التي يصل عددها 150 ألف قطعة، أي أن الروس دمروا في متحف واحد فقط قرابة 45 ألف قطعة أثرية.
تدمير أثار القرم لم يتوقف عند فترة الحرب التي خاضتها موسكو لضمها وفقط، بل استمر حتى بعدما باتت في قبضة الروس، إذ يرى التقرير الأممي أن المواقع الأثرية الأخرى في شبه الجزيرة تتعرض لما وصفته “معاملة وحشية” وسرقة من السلطات الروسية التي تواصل مصادرة الممتلكات هناك.
ومن أشهر الانتهاكات التي قامت بها روسيا في القرم، هدم مقابر مسلمي القرم والإضرار العمدي بمواقع التراث لتتار الجزيرة، بجانب القيام ببعثات أثرية غير مصرح بها ترتكب العديد من الجرائم خلال عملها، فضلا عن تصدير القطع الأثرية الأوكرانية لعرضها في روسيا والتربح منها.
محاولات الإنقاذ
عاد سيناريو القرم ليخيم على المشهد مع التوغل الروسي الحالي في الأراضي الأوكرانية، لا سيما في تلك المناطق التي تتضمن متاحف شهيرة ذات مقتنيات أثرية ضخمة العدد والقيمة، حيث شهدت بعض تلك المدن قتال شرس بين القوات الروسية والجيش الأوكراني، وهو ما دفع المؤرخ الفني، كونستانتين أكينشا، مدير مشروع «تحقيقات الفن الطليعي» الروسي، للتحذير من تعرض آثار تلك المناطق لنفس مصير أثار القرم.
أكينشا في مقال له بصحيفة “The Wall Street Journal” أشار إلى أنه في حال حدوث غزو روسي لأوكرانيا فإن جميع المتاحف الموجودة ستكون في خطر، لا سيما وأن بعضها يتواجد في مدن يعتبرها الروس أهدافا رئيسية للقصف والاستهداف ومنها مدينة “خاركيف” التي يتواجد بها متحف خاركيف للفنون الذي يضم نحو 20 ألف لوحة لمشاهير فناني العالم أبرزهم الرسام الروسي إيليا ريبين (1844-1930)، أحد أشهر الفنانين في القرن التاسع عشر، والرسام البحري الشهير إيفان إيفازوفسكي (1817-1900).
حذر المقال من أن السيناريو الأكثر خطورة يتمثل في استهداف المتاحف الكبرى في العاصمة كييف والتي تضم أشهر المباني الأثرية في البلاد، فهناك متحف الكنوز التاريخية الذي يضم وحده أكثر من 56 ألف قطعة أثرية، فضلا عن المتحف الوطني للفنون الذي يقع بالقرب من القصر الرئاسي والبرلمان ومقر الحكومة، ما يجعله في مرمى النيران الروسية، ويضم هذا المعرض على وجه الخصوص نخبة من أجمل لوحات العالم وقطعه الأثرية، لأشهر الفنانين والرسامين، منهم ميخائيل فروبيل (1856-1910).
حاولت إدارات المتاحف الوطنية في المدن الكبرى، ومعها الكثير من المتطوعين من الأوكرانيين، نقل التحف الأثرية وتخزينها في ملاجئ وأماكن بعيدة عن القصف الروسي، خاصة بعدما باتت كافة مباني الدولة أهدافًا لنيران القوات الروسية، ففي متحف مدينة لفيف الوطني أزال متطوعون القطع الأثرية المعروضة في صالات العرض ونقلوها إلى قبو المبنى، فيما وضعت المخطوطات الأثرية القديمة والتي يعود بعضها لأكثر من 1000 عام في داخل صناديق من الورق المقوى الثقيل لحمايتها من التلف.
مدير المتحف، إيهور كوزان، عبر عن حزنه وشعوره بالمرارة حين رأي جدران المتحف فارغة بعد إزالة اللوح الفنية والقطع الأثرية، قائلًا في حديثه لوكالة “أسوشييتد برس”: “يجب أن يعيش المتحف. يجب أن يكون الناس هناك، وقبل كل شيء الأطفال. يجب أن يتعلموا أساسيات ثقافتهم”.
المحاولات ذاتها شهدتها العديد من المدن الأخرى مثل كييف وغيرها من المناطق التي تحتضن متاحف كبرى كمتحف “تاريخ الدين” حيث شرع المتطوعون وموظفو المتاحف في نقل التحف والقطع إلى أماكن أخرى أكثر أمانًا لحين عودة الاستقرار مرة أخرى، فيما نقل أحد المراسلين قيام إدارات المتاحف بتغطية التماثيل الأثرية بأقمشة مقاومة للحريق في حال طالها أي قصف.
دقت الوكالة الثقافية التابعة للأمم المتحدة “اليونسكو” بدورها ناقوس الخطر بشأن احتمالية استهداف المتاحف والكيانات الأثرية بنيران القوات الروسية، مطالبة بضرورة توحيد الجهود لحماية المناطق ذات القيمة الثقافية الكبيرة والتي تعرضت خلال الأيام الماضية لقصف مدفعي وجوي من موسكو مثل مدينة لفيف الغربية ومدينة أوديسا المطلة على البحر الأسود وفي خاركيف.
تاريخ طويل من السرقة
منذ دخول روسيا الأراضي السورية في 2015 وضعت المدن الأثرية نصب عينيها كهدف رئيسي، حيث وضعت خططًا محكمة لتفريغ البلاد من تراثها وثرواتها المدفونة، وفي العاميين الأخيرين على وجه الخصوص توسعت موسكو في المواقع الأثرية التي تعمل على ترميمها، ففي 17 ديسمبر/ كانون الأوال 2021، أجرت مسحًا جويًّا بالطيران المسيَّر لمدينة بصرى الشام القديمة، وفي نهاية نوفمبر/ تشرين الثاني من نفس العام، زار وفد ثقافي المواقع الأثرية بالمدينة، أعقبه وفد أوروبي.
وخلال العام الماضي كثفت روسيا من بعثاتها الأثرية لسوريا، والتي كانت تستهدف مدينة حمص وتدمر بزعم إجراء عملية مسح لتلك البقاع بواسطة الأجهزة الإلكترونية المخصصة، وهي الحملات التي قيل بعد ذلك أنها هدفت إلى تفريغ تلك المناطق من القطع الأثرية المتواجدة بها ونقلها إلى موسكو.
أمام هذا الشبح الذي يفرض نفسه على المشهد الأوكراني، أصدرت وزارة الثقافة وسياسة الإعلام في البلاد، إرشادات عاجلة لحماية وإخلاء مجموعات المتاحف في حالة الحرب
يمتد تاريخ سرقة الروس للآثار إلى زمن بعيد، حيث ذكر المؤرخ الفني أكينشا في كتابه “المسروقات الجميلة: النهب السوفياتي للكنز الفني في أوروبا” إلى أن القوات الروسية نهبت عشرات الآلاف من القطع الأثرية النادرة من متاحف ألمانيا خلال الاحتلال السوفيتي لها نهاية الحرب لعالمية الثانية عام 1945.
متحف بوشكين في موسكو يضم الكثير من اللوحات الفنية والقطع الأثرية المسروقة من ألمانيا
وأضاف أن السوفييت كانوا يبررون جرائمهم بأنها انتقام لتدمير بلادهم ونهب الغزاة الألمان والأوروبيين للفن السوفيتي على نطاق واسع، فيما أكد المؤرخون والباحثون فقدان أكثر من مليون لوحة من متاحف ألمانيا خلال الغزو السوفيتي وأنها لا زالت منهوبة وغير معروفة حتى اليوم.
وأمام هذا الشبح الذي يفرض نفسه على المشهد الأوكراني، أصدرت وزارة الثقافة وسياسة الإعلام في البلاد، إرشادات عاجلة لحماية وإخلاء مجموعات المتاحف في حالة الحرب، غير أن ذلك لم يحول دون تصاعد حالة القلق من تكرار سيناريو القرم مرة أخرى، ومواصلة الروس لنهب ال’ثار ومصادرتها، إما للتربح منها أو الانتقام من تاريخ أوكرانيا الذي لاتعترف به روسيا.