ترتبط الصنعة الإبداعية، في كثير من الأحيان، بالثقافة الإبداعية، وتتحول من أشكال فنية وأنماط ترفيهية مكرِّسة لسياقات معيّنة، إلى رموز تاريخية تساهم في تكوين الثقافة الشعبية بطريقة أكثر عمومية، وهذا يكسبها ديمومة زمنية ومرونة عالية، يمنحاها إمكانية تطوير نفسها كجزء من كيان إجمالي شعبي يتّسم بميزتَين، الديناميكية الاجتماعية والإبداعية والثبات التاريخي للهيئة المعرفية الأولى.
ويمكننا أن نقترب أكثر من ذلك المعنى إذا لاحظنا تطور فن القصص المصورة، والخروج من الوسيط الأدبي إلى الوسيط الإلكتروني والبصري السينمائي، والانفتاح التام على الدمج الثقافي والعرقي لهذه القصص وتوظيفها في سياقات إبداعية مختلفة، ربما تتناقض مع المنتج الأصلي نفسه، ولكنها تناسب أكثر الوسيط الاجتماعي والبيئي الحالي.
يستند تاريخ القصص المصورة على أسماء وشخصيات مفتاحية، طوّرت في فن القصص المصورة بحيث يخرج من نطاق الحبسة الزمنية، وينطلق إلى العالم بأنماط جديدة، وأشكال إبداعية مختلفة تسدّ نهم الجيل الجديد، وتعرض نفسها كفنّ له دور في الثقافة الشعبية، لأنها تستند في فنها على البنية الاجتماعية في الأساس.
فأحداث مثل الحرب العالمية والحرب الباردة وفيتنام والعراق وغيرها من الأحداث التاريخية والاجتماعية المعاصرة، أثّرت بشكل هائل على تكوين فن القصص المصورة.
واحد من هذه الشخصيات المفتاحية التي تركت أثرًا ما زال يتضخّم حتى مع موته، هو المؤلف العبقري للعديد من قصص مارفل المصورة، الكاتب الرائع والمحرر والمنتج للقصص المصورة: ستان لي (Stan Lee)، الذي يُنسب إليه الفضل في تطوير عالم القصص المصورة لمارفل ونقلها إلى مستوى آخر تمامًا، لتصبح الآن واحدة من أضخم الشركات في مجال القصص المصورة والإنتاج السينمائي.
ستان لي – النشأة
ولد ستانلي مارتن ليبر في 28 ديسمبر/ كانون الأول 1922، في منطقة مانهاتن بمدينة نيويورك بالولايات المتحدة الأمريكية، وينتمي ستان لي -وأقرانه الذين نشأوا ليشكّلوا مستقبل القصص المصورة مثل جاك كيربي- إلى الجيل الثاني من المهاجرين.
صبغ الفقر طفولة ستان لي وحياته المبكرة، كان والداه جاك وسيليا ليبر من المهاجرين اليهود الرومانيين الذين عاشوا في مدينة نيويورك، اشتغل والده خياط ملابس في حي الموضة بنيويورك، بيد أنه فقد وظيفته خلال الكساد العظيم الذي ضرب أمريكا خلال ثلاثينيات القرن الماضي، فيما كانت والدته ربة منزل تعتني بأمور الأسرة.
اضطرهم ضيق العيش وشحّ الأموال إلى الانتقال للعيش في شقة صغيرة بمقاطعة برونكس التي تضم عددًا كبيرًا من اليهود، والجدير بالذكر أن ما يثير استياء ستان لي في الشقة الجديدة أنها تواجه مبنى خرسانيًّا آخر، ما يجعل من المستحيل عليه أن يرى الأطفال يلعبون، حيث ينقل الكاتبان جوردان رافايل وتوم سبيرجين في كتابهما “ستان لي وصعود وسقوط القصص المصورة الأمريكية” لسان ستان لي نفسه: “كان حلمي يومًا ما أن أكون غنيًّا كفاية لأشتري شقة تطل على الشارع”.
حدثت الكثير من المشاجرات بين أفراد الأسرة في ظل ضيق الحياة، ولكن ستان لي كان يجد ملجأ لنفسه في قراءة الروايات والقصص لمؤلفين مشهورين، مثل آرثر كونان دويل، وإدغار رايس بوروس مبتكر شخصية طرزان، ومارك توين.
كما كان يتردد على دور السينما قدر استطاعته، لينغمس في مغامرات تشارلي تشان وروي روجرز وغيرهما، بجانب اهتمامه بالكاتب الإنجليزي العظيم ويليام شكسبير، ومحاولة قراءة مسرحياته قبل بلوغه العاشرة من العمر، وفي هذا يقول: “لم أكن أفهم الكثير من الأشياء -من أدب شكسبير- في تلك الأيام… ولكني أحببت إيقاع كلماته”.
بالإضافة إلى ذلك، قرأ عمود أو شريط القصص المصورة (Comic strip) في الجرائد العامة، ولكنه في ذلك الوقت لم يكن يخطط ليصبح مؤلف قصص مصورة، ومن بينها أحب رسوم الفنان جورج هيرمان، وستؤثر تلك القراءات، خصوصًا قراءته لشكسبير، على كتابته للقصص فيما بعد، وفي تشكيل وعيه وصوته الحكائي الذي سيقتحم به المجال، وستجعله في مرحلة المراهقة والشباب يتّجه للعمل فيما يخص المساعدة في الكتابة والتحرير.
والحقيقة أن نشأة ستان لي في حي يهودي لم تؤثر أو تترك انطباعًا على شخصيته، فقد تلاشى الشعور بالواجب الديني مع بلوغه لمرحلة الشباب، وقد صرّح بعد ذلك: “لم أؤمن بالدين قط، لا أقصد الديانة اليهودية بالتحديد، بل أقصد الدين ككل… الإيمان بالنسبة إليّ هو نقيض العقل، لأن الإيمان يكمن في التصديق تعاميًا، أنا لا أعرف لماذا منحنا الإله -إذا وُجد إله أصلًا- عقولًا، إذا كنا سنؤمن به بشكل أعمى”.
عام 1939 تخرج ستان لي من المدرسة الثانوية، ولكنه لم يدخل الجامعة بسبب الحالة الاقتصادية السيئة للعائلة، وقرر أن يقبل الواقع في ظل أزمة الكساد العظيم التي اجتاحت البلد، واشتغل في مصنع للسراويل، ولكنه طُرد بعد أسابيع من بداية عمله، ليتوسط له خاله روبي سولمان في شركة “تايملي بابليكيشنز” التي يعمل بها، خصوصًا أن مالكها هو مارتن غودمان، قريب للأسرة من بعيد، ليبدأ ستان لي حياته الفنية من هذه اللحظة، وهو في الـ 18 من عمره.
الحياة المهنية
في عام 1940 ذهبَ ستان لي إلى مكاتب “تايملي”، ولحسن الحظ اتّضح أن الشركة تعمل في نشر القصص المصورة، حيث كان ستان لي على دراية بالقصص المصورة كسمة شائعة في جرائد نيويورك، لكن هذه القصص المبتذلة والمبهرجة كانت غريبة بالنسبة إليه، تفتقد إلى الذكاء والحرفة والأناقة.
أجرى محرر الشركة جو سيمون مقابلة مع ستان لي، ثم قدمه للمحرر والمخرج الفني جاك كيربي، الذي سيصبح شريكه بعد سنوات، وسيصنعان معًا الكثير من الشخصيات في المستقبل، في هذه الفترة ارتفعت مبيعات الشركة بشكل ملحوظ، ما وضع عبئًا أكبر على جو سيمون وكيربي.
جعلهما هذا العبء يطلبان مساعدًا يقوم بالأعمال المبدئية واللوجستية، شخصًا لشراء السندويتشات ومحو علامات قلم رصاص طائش على العمل الفني النهائي، وربما سيمنحانه أجزاء صغيرة ليكتبها مع مرور الوقت، ومقابل ذلك سيأخذ ستان لي 8 دولارات في الأسبوع، كان مبلغًا ضئيلًا وقتها لكنه رضيَ على أية حال.
حتى عام 1941 لم ينشر ستان لي أي قصة باسمه، وكان عمله مقتصر على المساعدة، ولكن في العام نفسه خرجت شخصية كابتن أمريكا وحققت نجاحًا كبيرًا، وكان الطلب عليها هائلًا، فطلب منه سيمون وكيربي أن يصنع قصة جانبية، أو ما يمكن تسميته بالحشو (Filler)، وهي قصص جانبية لا تؤثر في أحداث القصة الأساسية، ولكنها تُخلق بغرض سدّ نهم الجمهور، بحيث يظل مرتبطًا بالسلسلة، بجانب المكسب التجاري.
وهكذا ظهرت أول قصص ستان لي، ليس باسمه الأصلي ولكن باسمه المستعار “ستان لي” الذي سيتّخذه كاسم رسمي بعد سنوات ويتخلى عن اسمه الأصلي، ويقول عن هذه النقطة إنه أراد توفير اسمه الحقيقي لقصصه ورواياته عندما يصبح مشهورًا.
وأوضح ستان لي لاحقًا في سيرته الذاتية، أن وسط القصص المصورة كان يمثل وضعًا اجتماعيًّا متدنيًّا، لذا كان محرجًا جدًّا لدرجة أنه استخدم اسمًا مستعارًا حتى لا يربط اسمه الحقيقي بالقصص المصورة عندما يكتب الرواية الأمريكية العظيمة ذات يوم، ويخرج ستان لي للنور عن طريق قصة بعنوان Captain America Foils the Traitor’s Revenge.
سيبدأ ستان لي في الكتابة الحقيقية بعدد قصصي تحت عنوان Headline’ Hunter, Foreign Correspondent، ليشارك في أغسطس/ آب 1941 في خلق أول بطل خارق: المدمِّر (The Destroyer) نُشر بالعدد السادس في Mystic Comics، وبعدها شاركَ في خلق شخصيات عديدة تنتمي إلى العصر الذهبي للقصص المصورة، مثل جاك فورست وفازر تايم.
في العام نفسه، سيغادر جو سيمون وجاك كيربي، بعد خلاف مع غودمان، لتحدث المعجزة، ويعيّن مارتن غودمان رئيس الشركة ستان لي كمحرِّر مؤقت للشركة، وهو لم يتجاوز الـ 19 من عمره، ليبدأ فصل جديد من حياة ستان، سيصنع فيه الكثير من الإنجازات الإبداعية العظيمة، التي ستنقل الشركة ذاتها إلى مكانة أخرى.
الحرب العالمية
التحق ستان لي بالجيش الأمريكي أوائل عام 1942، ليخدم في فيلق الإشارة (Signal Corps)، ثم انتقل بعدها إلى قسم أفلام التدريب، وعمل هناك على كتابة الكتيّبات الإرشادية ورسم الشعارات، وصنع أفلام التدريب وغيرها.
ومن حسن حظ ستان لي أن فيلقه احتوى على عدة شخصيات ستصبح مستقبلًا من نجوم المجتمع الأمريكي، مثل المخرج الأمريكي العظيم فرانك كابرا، الحائز على 3 جوائز أوسكار، ورسام الكاريكاتير تشارلز آدامز، كما مُنح ستان لي فور خروجه من الجيش عضوية فخرية في الكتيبة الثانية من فوج المشاة الأمريكي الثالث، تقديرًا لجهوده وخدماته للجيش خلال فترة الحرب.
لم يتوقف ستان لي عن العمل أثناء فترة الجيش، فقد تلقّى رسائل من محرري “تايملي” يوم الجمعة من كل أسبوع، يشرحون فيها تفصيليًّا ما يحتاجون إليه، وكان يأخذ لي الطلبات ويرسلها بالبريد يوم الاثنين التالي.
ويحكي أنه في مرة من المرات تجاهلَ عمدًا موظف البريد رسالته الواردة من “تايملي”، ولم يكن ستان لي على استعداد لتفويت أي رسالة، فعادَ إلى مقرّ البريد ورأى مغلّفه موضوع في الصندوق ومختوم بالإرجاع، فطلب من الضابط فتح الصندوق لكنه لم يوافق، فأحضر مفكًّا وفكَّ مفصلات الصندوق وأخذ المغلف، ليحوله الضابط إلى الرقيب الذي لم يكن يحبه، وكان على وشك أن يزجَّ به في السجن، ليتدخل العقيد المسؤول عن القسم المالي وينقذ ستان لي من الإجراءات التأديبية.
صعود مارفل
بعد خروجه من الجيش، كتبَ لي قصصًا في أنواع مختلفة، بما في ذلك الرومانسية والويسترن والفكاهة والخيال العلمي ومغامرات العصور الوسطى والرعب وغيرها، ولكنه سئمَ هذه الأنواع، وسئمَ الصناعة كلها، وأصبح غير راضٍ عن حياته المهنية بأكملها، لدرجة أنه فكّر جديًّا في ترك مجال القصص المصورة.
بيد أن تلك الفترة -ولحسن الحظ- كانت تتزامن مع ابتكار المؤلف يوليوس شوارتز لفرقة العدالة الخاصة بشركة DC، والتي حققت نجاحًا منقطع النظير، ليكلّف غودمان محرره ستان لي بخلق فريق أبطال خارقين على غرار فرقة العدالة.
كان همّ غودمان الدائم هو المال والنجاح التجاري، ولم يهتم بجودة المنتج طالما سيجلب أرباحًا، عكس ستان لي الذي كان في ذلك الوقت على وشك ترك المجال بالكامل وتغيير مهنته، لولا نصيحة زوجته الأخيرة بالتجربة النهائية، فهو لم يكن لديه شيء ليخسره، وقد نجحت في إقناعه ليعود ويخلق فرقته الخارقة التي ستغير كل شيء، قصة المذهلين الأربعة (Fantastic Four)، بالاشتراك مع الفنان جاك كيربي.
منح ستان لي نوعًا من الفرادة لشخصيات فريقه الخارق، حيث أعطاهم ميزة ارتكاب الأخطاء، عكس النمذجة المثالية المكتوبة سابقًا، خصوصًا الموجّهة لجمهور القصص، حيث قبل ذلك كان معظم الأبطال الخارقين أشخاصًا مثاليين كأشخاص وكأيدولوجيا، بيد أن لي خلق شخصيات طبيعية ومعقدة تُصاب بنوبات من المزاج السيّئ والكآبة والغرور، لدرجة تجعلهم يتشاجرون فيما بينهم، لم يفصلهم عن العالم، سواء اجتماعيًّا أو حتى اقتصاديًّا، فنجدهم قلقون بشأن دفع فواتيرهم وإثارة إعجاب صديقاتهم، يصيبهم الملل أو حتى المرض الجسدي في بعض الأحيان.
حصل المذهلون الأربعة على شعبية هائلة جعلت الشركة تضع ثقة كبيرة في ستان لي، لينشئ بالاشتراك مع عدة رسامين الكثير من الشخصيات الأيقونية لمارفل، والتي ستكون الركائز الأساسية للعالم، من حيث البناء والشعبية الجماهيرية.
من هذه الشخصيات ثور، هولك، الرجل الحديدي، فريق X-Men، دريدإيفيل، دكتور سترينج والشخصية الأيقونية الأكثر ديناميكية سبايدرمان، ليجمع العديد من هذه الشخصيات بعد سنوات بالاشتراك مع كيربي ويخلق فريقًا خارقًا جديدًا سيحقّق نجاحًا بهارًا، فريق المنتقمين (The Avengers)، وسيعيد الاثنان إحياء شخصيات من الأربعينيات، مثل Sub-Mariner وكابتن أمريكا.
كانت ثورة شركة مارفل المتمثلة في ستان لي وشركائه الإبداعيين على معايير الكوميك، أشبه بثورة الموجة الفرنسية الجديدة على معايير السينما، كما يقول مؤرِّخ القصص المصورة بيتر ساندرسون، موضِّحًا أن مارفل تملك الريادة في محاولة إيجاد أسلوبية جديدة لسرد القصص، واختيار مواضيع أكثر جدّية.
والحقيقة أن تأثير ستان لي تخطّى التقنية الفنية وابتكار الشخصيات، ووصل إلى الأشياء الصغيرة مثل الأسماء التي تُكتب على غلاف القصة المصورة، فمن المعروف أن اسم الكاتب هو فقط من يُكتب على الغلاف، ولكن كان يُكتب أسماء المساعدين أيضًا، مثل الشخص المسؤول عن الكتابة والمسح، والشخص الذي يهتم بالأمور العادية مثل تعبئة الأقلام بالحبر، وهذه الأشياء الصغيرة ساهمت في صنع رابطة بين قصص مارفل وجمهور القصص المصورة.
الفصل الأخير
في عام 1972 تولّى ستان لي دور الناشر الذي كان يتولّاه غودمان سابقًا، وتوقف عن كتابة الأعداد الشهرية من القصص المصورة لانشغاله بوظيفة الناشر، وأضحى أشبه برئيس صُوري للشركة، وجهًا مألوفًا للجماهير، يلقي المحاضرات في الجامعات ويمثّل مارفل كوميكس في أغلب المؤتمرات والتجمعات، لقد أصبح وجهًا للشركة، رمزًا لا يمكن فصله عن مارفل.
سينتقل إلى كاليفورنيا عام 1981، في مهمة تطوير رؤية مارفل التليفزيونية والسينمائية، ليعرفه جمهور السينما كضيف شرف في أغلب أفلام شركة مارفل بداية من عام 1989.
خلال ذلك كان يعود لكتابة بعض أعداد القصص المصورة، والجدير بالذكر أن ستان لي تولّى رئاسة مارفل كوميكس بأكملها لفترة وجيزة، لكنه تنحّى مرة أخرى ليمسك منصبه القديم كناشر، لأن كونه رئيسًا كان عليه أن يتعامل بالأرقام ويقلق بشأن التمويل، وهذا سيبعده عن العملية الإبداعية نفسها.
في التسعينيات، توقف ستان لي عن تأدية عمله كناشر، ولكنه ظلَّ يتلقى راتبًا سنويًّا يقدَّر بمليون دولار كرئيس فخري للشركة، وبعدها دخل في عدة مشاريع قصيرة المدى، ودوامة من القضايا التي كانت تُرفع ضد شركة مارفل بسبب حقوق الشخصيات.
توفي ستان لي في 12 نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2018، عن عمر يناهز الـ 95 عامًا، في مركز سيدارز سيناي الطبي في لوس أنجلوس، وحُرقت جثته بعد موته واحتفظت ابنته برماده.